الرهد بعد 100 عام من لهيب حنين أحمد البدوي

 


 

 


abusamira85@gmail.com
يبدو أن مؤلفات المكتبة السودانية تراهن على وجود قارئ يبحث بين طياتها عن صنوف جديدة للمعرفة على اختلاف وتنوع الأشكال والأجناس الأدبية، خاصة حين يعمد المؤلف إلى كسب القارئ من خلال نصوص الكتاب من جهة، والحرص على رد الجميل من خلال تقديم نص يسترعي الانتباه، ويعكس الاهتمام بتقديم إضافة جديدة للمكتبة السودانية من جهة أخرى.
في ظلال هذا الفهم بهرت بكتاب (الرهد 1912 ــ 2012)، بقلم الدكتور أحمد محمد البدوي، انبهارا شديدا، وكانت تعتريني وأنا أقرؤه دهشة مستمرة من شدة لهيب حنين أحمد البدوي إلى مدينة الرهد من جهة المكان وعبقريته وإلى الرهد الزمان من حيث الناس والألفة التي جمعتهم. كان المؤلف البدوي كاتبا موهوبا اجتهد في وصف الأحداث وتعليلها، خاصة تلك التي لعب فيها المؤلف دورا أو تلك التي عايشها أو شهدها من قريب أو بعيد، ومن هنا فإن الكتاب بصفحاته الـ 136 صفحة يأتي في منزلة متوسطة بين (موضوعية) التاريخ و(ذاتية) السيرة الذاتية.
من أجل أن نعرف قيمة الكتاب لابد من أن نتعرّف على المؤلف الدكتور أحمد محمد البدوي المنحدر من أسرة ذات دين وعلم وفضل، فجده الشيخ أحمد البدوي من أقطاب الطريقة التجانية ومقدميها في السودان قاطبة.
درس مراحله الأولية والمتوسطة بالرهد والنهود، ثم التحق بجامعة أم درمان الإسلامية، وتخرج فيها في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ثم قصد مصر، وحصل في جامعاتها على درجة الماجستير في النقد الأدبي، ثم حصل على الدكتوراه في ذات التخصص من جامعة الخرطوم، وكانت أطروحته بعنوان سيد قطب ناقدا.
إن شئت الدقة فإن تصنيف الكتاب يقع في باب التاريخ الاجتماعي، والجديد فيه أن المؤلف عبر منهجيته التي زاوجت بين موضوعية التاريخية وذاتية السيرة، صاغ كتابه بأسلوب لغوي رشيق، غنيّ بالمعلومات، وكثيف التوثيق، فضلا عن معالجة جيدة لاشكاليات وفرضيات مهمة، متفاديا وجود فجوة معرفية، فتراه مثلا:
* يعالج الأسباب المؤدية إلى تغليب الطابع السياسي في تقديم صورة الإسلام تجاه الآخر.
* يتطرق إلى بدايات التنظير الفقهي لمفاهيم أهل الذمة ودار الإسلام ودار الحرب.
* يتناول في سياق تحليله بعض المعطيات التاريخية عن أيهما أكثر وقعا  في الإسلام التاريخي ملاقاة المتعدد أم الحرب معه؟
*  يقدم جوابا ونموذجا عن التسامح حينما يظلل العلاقة بين المسلمين والنصارى.
الشاهد  في هذا الكتاب، أننا أمام نمط كتابة تحليلية حديثة ومتنورة تستقي من مشارب كثيرة. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه المشارب أوروبية وتراثية، إلا أن الدكتور أحمد البدوي بصبر الباحث المتمكن منح قيمة عالية للغة العربية التي نستخدمها ونرتقي بها وتتجلى معها خلال محاولات العثور على ملامح شبكة الأفكار والروابط الإنسانية وأبعادها الخرافية، وهي، بهذا المعنى، جزء من سيرة الكثير منا في النهاية.
ويدعم الشاهد تصدير المؤلف حين يقرر (يتناول الكتاب سيرة الرجال في سياق المكان ويتناول الزمان والمكان في مجتمع، ولهذا يتداخل النشاط الاجتماعي بالثقافي والسياسي وتندرج أمشاج من الفلكور والتراث الشعبي).
وعلى مدى مائة عام كانت مدينة الرهد مسرحا رئيسيا لفصول الكتاب، فيروي لنا المؤلف في الباب الأول المعنون (المشاهد ــ الرهد ــ بانوراما الأمكنة) علاقة الفرد بالمدينة وعلاقة الناس مع بعضهم البعض وبالسياسة والعالم، وعلاقة الجماعات مع بعضها والفرق بين المناطق. ويدخل المؤلف ببراعة في شرايين المدينة، وعوالمها، ومحطاتها ليكشف لنا من خلالها صلتنا بالحضارة والعمران.
من القضايا اللافتة للنظر في الكتاب قضية الفرد في المجتمع ودوره فيه المجتمع وعلاقته بنفسه وبالعالم الخارجي، ويبدو هذا واضحا عند تتبع المؤلف في الباب الثاني (الألق) السيرة العطرة للشيخ أحمد البدوي المولود في العام 1300 بعد الهجرة، حيث تنقل أفراد أسرته بين الدبة والدامر وأبقوتة وتوشكي ثم هاجرت الأسرة إلى كردفان، وكان غالب نشاطها الحياتي يتوزع بين الزراعة وتحفيظ القرآن الكريم. ولا يسع المجال لاستعراض التتبع الجيد الذي قدمه المؤلف، لكن ما يستحق التنويه أنه يثير قضايا لا يمكن القفز فوقها وتجاهلها، فغياب دور الفرد في مجتمعاتنا أصبح الآن جزءا لا يتجزأ من تخلفنا المخجل. على أن المهم في هذا الفصل أن المؤلف استفاض في تأصيل وتأكيد حركة الوعي التي قادها الشيخ أحمد البدوي ومن بعده ابنائه خاصة ابنه محمد الذي هاجر إلى كردفان وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، ودرس التوحيد على الشيخ أرباب العقائد المعروف في كل أفريقيا المسلمة أنذاك بأرباب الخرطومي.
يفتح الكتاب على صغر حجمه وهمومه الفكرية الكبيرة، الذهن على عوالم شتى من دون أن يلغي القلق الإنساني الطبيعي الذي يساورنا تجاه قضايانا، ولذا عندما تصل إلى الفصل الثالث المعنون (المأثر)، نعلم أن الشيخ حسين أحمد البدوي تولى إمامة المسجد الكبير في الرهد وهو خريج (طازج) من المعهد العلمي في العام 1943م، وبلغت فترة إماته نحو 63 عاما كانت عصرا ذهبيا في مدينة الرهد من حيث (المنفعة العامة وشمول الخير).
والكتاب على صغر حجمه من الكتب النادرة في المكتبة السودانية، خاصة عند الحديث عن الذات وعلاقاتها مع العالم.
وفي الفصل الرابع المعنون (المشاهد ــ ألق المأثر ــ محمد حسين) يبدو أن المؤلف يكتب حزنا وألما على ما هو كائن وممكن، ومع ذلك تلمح في النص الحياة في عز سوق الموت المزدهرة، بل يسعد النفس في سيرة محمد حسين الملقب بـ (الزعيم) الرغبة والدعوة إلى الحياة والتقدم والتخلي عن الخوف والتردد وبالتالي الاندماج في الواقع والعالم والعيش، تدفعه رغبة عارمة لفتح العيون على هذا العالم الكبير والهائل والمثخن بالمآسي والحياة والجمال، والشاهد هنا من نص الكتاب أن الزعيم دعا في العام 1965 إلى عقد مؤتمر لتطوير مدينة الرهد.
كتاب (الرهد 1912 ــ 2012) إطلالة جديدة وخاصة للدكتور أحمد محمد البدوي تختلف نسبيا عن إطلالاته النقدية السابقة والمهمة والجميلة، وإن كان هذا الكتاب الجديد والصريح عودة إلى الذات وتجربتها الطويلة والغنية والمريرة، والبحث فيها وفي تطوراتها ومخاضاتها، فهو لا ينفصل في جوهره عن هموم النصوص الأخرى وقضاياها، ويشكل امتدادا لها بشكل أو بآخر، وانعكاسا آخر من انعكاساتها.
حصاد القول إن هذا الكتاب تكملة لبحث أحمد محمد البدوي الصريح والمجدي الذي لا يكل حول كل ما يقف حجر عثرة أمام تقدمنا وتطورنا.



 

آراء