انضم لموظفي السفارة التي كنت أعمل بها في إحدى العواصم الأفريقية ، مطلع السبعينات من القرن لماضي ، أحد الملحقين الذين يأتون عادة في مهام محددة من وزارات أو مكاتب حكومية غير تابعة لوزارة الخارجية. كان جميع أفراد السفارة ، كما جرت العادة في تلك العاصمة الأفريقية ، في استقبال الوافد الجديدبالمطار. صادف أن كانت الطائرة التي أقلت الرجل لذلك البلد هي التي تحمل الحقيبة الدبلوماسية الخاصة بالسفارة ذلك الأسبوع. بعد أن قام الموظف المكلف بتخليص متعلقات الزميل الجديد عبر الجمارك ، قام كذلك باستلام الحقيبة الواردة من الخرطوم. وبينما كنا نهم بمغادرة المطار متجهين نحو المدينة ، طلبنا من الضيف أن يتأكد بأن كل أمتعته قد وصلت فعلاً. تطلع ا لرجل ملياً في الأشياء الموضوعة أمامه وعلت الدهشة وجهه وقال مبتسماً: "كلو تمام ، ما عدا هذا الكيس المتسخ فهو ليس من ضمن أمتعتي" ... علت الابتسامة وجوه الجميع مؤكدين أن هذا الكيس المتسخ هو الحقيبة الدبلوماسية ، فانفجر الرجل ضاحكاً وقال: "هذه زكيبة وليستحقيبة" ... أصبح ذلك هو الاسم الذي ظللنا نطلقه على الحقيبة الدبلوماسية حتى مغادرتي ذلك البلد.
لم تكن دهشة الضيف ، عندما رأي الحقيبة الدبلوماسية في تلك العاصمة الأفريقية تختلف عن دهشة كل منا عندما رآها للمرة الأولى ، فقد ارتبط اسم الحقيبة الدبلوماسية عندنا ، نحن السودانيين ، في ذلك الزمان بتلك الحقائب الأنيقة المسماة بالسامسونايت التي كنا نرى في نشرات الأخبار بعض أعضاء الوفود يحملونها وهم يهرولون نحو قاعة الاجتماعات. ولا زلت أذكر دهشتي شخصياً مع عدد من الزملاء عند التحاقنا بوزارة الخارجية مطلع السبعينات من القرن الماضي ، ونحن نهم ببداية يوم جديد ، لمنظر تلك الأكياس المتسخه الملقاة عند مدخل المبنىوكانت رئاسة الوزارة وقتها في مبني "جلاتلي هانكي" المؤمم والمطل على ساحة القصر الجمهوري بالخرطوم.
بالرغم من شكل الحقيبة المنفر أحياناً إلا أن يوم وصولها للسفارة كان من المناسبات التي ننتظرها طوال الأسبوع ، فقد كانت الحقيبة تحمل ، بالإضافة للمكاتبات الرسمية ، الخطابات الخاصة من الأصدقاء بالرئاسة أو السفارات الأخرى بالإضافة للصحف اليومية التي كانت تصدر بالبلاد في تلك الأيام. وكلما كان موقع العمل بعيداً عن السودان كلما كان احتفاؤنا بوصول الحقيبة أكثرحماساً وسعادة وترحيباً ، وقد أدركت ذلك شخصياً عندما كنت أعمل بالسفارة في طوكيو في وقت كان فيه الاتصال بالسودان أمراً صعب المنال إذ لم يكن العالم قد عرف ثورة الاتصالات بعد.
ومن الطرائف التي ارتبطت بالحقيبة الدبلوماسية عندنا تلك الحالة التي قررت فيها إحدى العائلات إرسال عدد من قوارير العطور ، المألوفة في مناسبة الزواج ، لإبنها العريس بإحدى السفارات بالخارج. لسوء الحظ فإن تلك القوارير العطريةأو بعضها تهشمت بسبب التعامل العنيف مع الحقيبة في أحد المطارات مما أدى لاندلاق العطر على كل محتويات الحقيبة. يقال ، والعهدة على الراوي ، أن أعضاء السفارة ، والتزاماً منهم بالأسلوب الرسمي لمخاطبة الرئاسة ، ومن باب المداعبة ، كانوا كلما أعدوا رداً على أحد الخطابات التي كانت قد وصلت ضمن محتويات تلكالحقيبة بدأوه بقولهم: "بالإشارة لخطابكم المعطر رقم ..... بتاريخ .....". ليس بالضرورة أن تكون الحقيبة الدبلوماسية عبارة عن "كيس" كما أوردنا أعلاه إذ أنها يمكن أن تكون في شكل حقيبة عادية أو صندوق ، وكل الذي يفرقها عن غيرها هو تلك الديباجة التي تقول "حقيبة دبلوماسية" أو "بريد دبلوماسي".
كما هو معلوم فإن الحقيبة الدبلوماسية تتمتع ، بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية ، بالحماية التامة من أي محاولة للعبث بمحتوياتها أو الإطلاع عليها من جانب الدولة المضيفة أو الدول التي تمر عبرها الحقيبة وهي في طريقها من وإلى السفارة المعنية. غير أن هذه الحماية المحكمة جرى استغلالها في عدد من الحالاتلتحقيق مآرب لا علاقة لها بالعمل الدبلوماسي ، ولعل من أشهر هذه الحالات قيامدبلوماسيي إحدى دول جنوب أوربا بتهريب المواد والبضائع المحظورة إلى المانيا خلال الحرب العالمية الثانية مما حقق لهم أرباحاً طائلة. إلا أن من أخطر التجاوزات في هذا المجال وأشهرها على الاطلاق هو ما قامت به دولة إسرائيل في عام 1984 بالتعاون مع إحدى الدول الأفريقية من محاولة لتهريب أحد السياسيين المعروفين والمعارضين لحكومة الدولة الأفريقية من لندن لعاصمة بلاده ، حيث كان من المتوقع أن تجري محاكمته هناك. لحسن حظ الرجل المختطف والذي وضع في صندوق خشبي كبير كتب عليه "حقيبة دبلوماسية" أن التخدير لم يكن بالفاعلية المطلوبةفأفاق الرجل وبدأ يتحرك داخل الصندوق قبل مواعيد إقلاع الطائرة مما لفت انتباه موظفي الجمارك الذين قاموا بفتح الصندوق بعد الحصول على إذن من الخارجية البريطانية وإنقاذ الرجل. غني عن القول أن هذه المحاولة قادت للكثير من التوتر في العلاقات بين الحكومة البريطانية وحكومتي البلدين المعنيين ، خاصة وأن الحادثة وجدت حظها من النشر الواسع في الإعلام.
مع التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال عامة ، وسهولة التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة بصفة خاصة فقدت الحقيبة الدبلوماسية جانباً كبيراً من أهميتها وسحرها. إلا أن الدول لا زالت تولي المراسلات بين رئاسة الوزارة والسفارات الكثير من الاهتمام ، وهناك الكثير من بين هذه الدول من تعتمد في نقل حقائبها الدبلوماسية على ما يعرف باسم "حامل الحقيبة" وهو الشخص المكلف بنقل الحقائب من البلد المعني لسفارات ذلك البلد بالخارج ومتابعة تسليمها مباشرة لسفارة بلاده في الدولة المعنية. من ناحية أخرى فإن درجات سرية المعلومات نفسها شهدت الكثير من التطور في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح بإمكان أجهزة الإعلام نقل الأحداث عند حدوثها والوصول إلى الكثير من مصادر المعلومات التي كانت تعتبر سرية في الزمان الماضي. كما أن الانفتاح الذي تشهده االكثير من الدول بعد انهيار المعسكر الشيوعي في نهاية القرن الماضي أعاد تعريف الكثير من الأمور التي كانت تعتبر سرية في ذلك الزمان.
mahjoub.basha@gmail.com