السودان : الساحة السياسية تتشكل من جديد
12 October, 2009
Obeid51@hotmail.com
الخبر الذي نشرته صحيفة ( الخرطوم ) الصادرة أمس الأحد ، على صدر صفحتها الأولى ، والذي تضمن تصريحا للأستاذ وليد حامد ، القيادي بالحركة الشعبية ، مفاده أن الحركة الشعبية ( قررت خوض الانتخابات في كل السودان وعلى جميع مستوياتها ) وأن الحملة الانتخابية للحركة في الشمال ( سيقودها نائب رئيس الحركة ورئيس لجنة الانتخابات الكوماندور جيمس واني ايقا ) وأنها – الحملة – ستنطلق عقب اجتماع اللجنة القومية الاستراتيجية ، التي تضم 45 عضوا من قيادات وكوادر الحركة . خبر يمكن أن يكون له ما بعده !!
وما بعده هذه تعني أول ما تعني ، أن الحركة الشعبية لن تقاطع الانتخابات القادمة ، على الرغم من مقررات ملتقى جوبا التي احتوت شروطا تعجيزية ، ومطالب يستحيل تحقيقها خلال فترة الشهرين التي اشترطها المؤتمرون ، كحل مشكلة دارفور مثلا ؛ وقد فهم الكثيرون – وأنا واحد منهم – أن الحركة ، والقوى السياسية الشمالية التي ناصرتها ، انما يضعون تلك الشروط للتنصل من خوض الانتخابات القادمة ، ويريدون تهيئة للرأي العام كي يتفهم موقفهم هذا حين اعلانه .
في حال افترضنا أن تصريح القيادي بالحركة الشعبية ، يعبر عن توجه حقيقي لدى قيادة الحركة بخوض الانتخابات القادمة ، وعلى جميع المستويات ( المستوي الاتحادي ومستوى الولايات الشمالية الخمسة عشر ومستوى جنوب السودان ) فسيكون بوسع المراقب أن يذهب الى حد الجزم بأن الساحة السياسية السودانية مقبلة على حال تشكل وفرز جديد ، سينتقل بها بالفعل الى وضع لم تعهده من قبل .
واذا قطعت الحركة الشعبية الشك باليقين ، في رغبتها واستعدادها لخوض الانتخابات ، فان ذلك يعني عمليا أن على القوى السياسية التي تعتبر نفسها معارضة ، أن تنزع عنها غطاء الكسل الذي طالما تدثرت به ، وأن تقبل على المرحلة القادمة بكل ما تبقى لها من قوة ، وفي هذه الحالة فانه سيصبح متاحا ، ربما لأول مرة في تاريخ السودان ، أن تظهر على الساحة السودانية قوى جديدة تماما ، وربما أصبح متاحا أيضا ، أن تكتشف قوى سياسية قديمة مدى الانحسار الذي أصابها جماهيريا !!
خريطة الأوزان السياسية في السودان ، حتى 1986م ( تاريخ آخر انتخابات مجمع عليها سياسيا ومعترف بنتائجها ) كانت تقول أن الحزب ذو القوة الجماهيرية في السودان ، هو حزب الأمة القومي بزعامة السيد الصادق المهدي ، يليه الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة مولانا محمد عثمان الميرغني ، يليهما حزب الجبهة الاسلامية القومية بزعامة الدكتور حسن الترابي ؛ غير أن المراقبين يجمعون على أن الفرز الذي ستحدثه الانتخابات القادمة سيأتي بنتائج مختلفة تماما !!
كانت القوة التصويتية الرئيسية لحزب الأمة ، منذ انتخابات ما قبل الاستقلال ، تتركز في غرب السودان ( ولايات دارفور وكردفان ) وفي وسطه ، وخاصة ولاية النيل الأبيض ، حيث القاعدة الأنصارية التي تدين بالولاء الطائفي لبيت المهدي . وكانت القوة التصويتية الرئيسية للحزب الاتحادي تتركز في شرق السودان ، وفي شماله ، حيث يتركز الولاء لطائفة الختمية . وكان الاسلاميون القادمون حديثا – نسبيا – للساحة ، ينافسون في مناطق الوعي والحضر باعتبارهم قوة جديدة تستند على الوعي الديني دون تحيز طائفي . لكن الواقع السياسي الماثل الآن أصبح يختلف تماما عما كان قائما في أواخر الثمانينات من القرن الماضي .
فمناطق النفوذ التقليدية للحزبين الكبيرين – سابقا – في غرب السودان وشرقه ، أصبحت – بعد الجنوب – أكثر مناطق السودان الموبوءة بالحرب الأهلية ، وقد أفرزت تلك الحروب وما تلاها من اتفاقات سلام ، قوى سياسية جديدة ، تقوم بالأساس على ارث الحركات التي كانت تقود القتال والتعبئة له ؛ وانحسر جراء ذلك نفوذ القوى التقليدية ، اذ أن ما بقي من النفوذ السياسي سيطر عليه حزب المؤتمر الوطني ، القادم الجديد لساحة العمل السياسي !!
وقد شكل حزب المؤتمر الوطني بالفعل ، قادما جديدا لساحة العمل الحزبي وبخاصة في الشمال ، اذ لم يعد هو حزب الاسلاميين ، وفقا للفهم التقليدي السائد لهذا التيار السياسي ، ولم يصبح حزبا تقليديا كما هو الحال في وصف الأحزاب ذات الولاء الطائفي أو التقليدي ، و نجح بهذه الكيفية ، في المزج بين التقليدية والحداثة ، فشكل تيار وسطيا عريضا ، تداعى له الكثيرون من أصحاب الولاءات القديمة وانخرطوا في صفوفه . أما الجنوب ، وعلى الرغم من تأثره البالغ بالحرب الأهلية ، فهو يتهيأ ليشهد لأول مرة ميلاد حزب عريض ، لا ينحصر نفوذه في ساحة الجنوب وحدها ، بل يمتد لينافس القوى الشمالية في مناطق ولائها التقليدي ؛ وهو حزب الحركة الشعبية .
الفرز الذي نتحدث عنه اذن ، وفقا لهذه القراءة ، سيدشن بشكل لا خلاف حوله ، حزبان كبيران جديدان على الساحة السياسية السودانية ، هما حزب المؤتمر الوطني وحزب الحركة الشعبية ، وسنشهد لأول مرة في تاريخ السودان ، حزبا شماليا له قوة جماهيرية لا يستهان بها في الجنوب ، وحزبا جنوبيا له قوة جماهيرية لا يستهان بها في الشمال ؛ وستبرز الى السطح لأول مرة قوى اقليمية سيكون لها نفوذها في برلمانات الولايات ، تتشكل أساسا من ناتج تحول الحركات الثورية الى قوى سياسية .
على أن الذي سيميز الانتخابات القادمة ، ونتائجها ، عن أي انتخابات سابقة جرت في تاريخ السودان ، هو أيضا ، اشتمالها على أصوات القوائم الحزبية فيما يعرف بالتمثيل النسبي ، مما يعني أنه سيتم حساب جميع الأصوات التي سيحصل عليها كل حزب من الأحزاب التي تخوض الانتخابات ، وتتم ترجمتها الي مقاعد يحصل عليها هذا الحزب في البرلمان ، وهذه النقطة بالذات هي التي ستحسم أكثر من غيرها ، ادعاءات أي حزب من الأحزاب بأنه هو صاحب التأييد الجماهيري الأوسع ، سواء أكان هذا الحزب ممن كان فاعلا على ساحة العمل السياسي قبل العام 1990م ، أو هو من القادمين اليها بعد ذلك !!
ان المأخذ الأساسي الذي يأخذه الكثيرون على اتفاقية السلام الشامل ، هو أنها جيرت الشمال لحزب المؤتمر الوطني ، والجنوب للحركة الشعبية ، مع انه – برأي هؤلاء - ليس من حق هذين الحزبين التحدث باسم أهل الشمال أو أهل الجنوب ؛ والذي ستبينه الانتخابات القادمة بجلاء هو ما اذا كانت القسمة التي وضعتها اتفاقية قسمة السلطة في نيفاشا ، قد عبرت عن قراءة واقعية لمآلات الأوضاع ، أم أنها اعتمدت غلبة ذات الشوكة فقط !!
ستكون الانتخابات القادمة هي انتخابات الوعي ، بامتياز ، فالسودانيون ، الأميون منهم والمتعلمون ، ممن شاركوا في انتخابات 1986م ، تعلموا من الثلاثة وعشرين سنة الماضية الكثير ، وأصبحوا في وضع يجعلهم أقرب الى تغليب حساب مصالحهم الانتخابية على حساب ولاءاتهم التقليدية والطائفية ، أما من هم في سن الأربعين الآن ، والذين سيصوت أغلبهم لأول مرة في انتخابات تعددية لا خلاف داخلى حول عدالة وتساوي فرصها ، فقد رأوا وعايشوا ساحة سياسية منقسمة على نفسها ، ورأوا وعايشوا انفراط عقد الأحزاب الطائفية ذات الولاء التقليدي ، وانقسام الحزب الواحد ، لا الى حزبين أو ثلاثة ، كما كان يحدث في الماضي ، ولكن الى أكثر من خمسة أحزاب ، وما من شك في أن درجة الوعي بين هذه الشريحة من الناخبين هي الأوسع في تجاربنا الانتخابية السابقة ، مما يعني أنها ستشهد التغيير الأكثر أثرا على نتائج الانتخابات القادمة .
لكنه لكي تحدث انتخابات حرة ونزيهة ، وتفرز ما نتحدث عنه من نتائج أو تفرز خلافه ، فان هنالك شيئا مهما يتعين أن يتغير ، لا على مستوى الخطاب السياسي للفاعلين على الساحة السياسية ، ولكن أيضا على مستوى القناعة السياسية ؛ ونعني بذلك تغيير السلوك القائم على القناعة بضرورة ترسيخ مناخ السلام لا منطق الحرب . ذلك أنه للحرب منطقها وللسلام منطقه ، ومن البديهي القول أن المنطقين متقابلين !!
انه ، في حالتي الحرب والسلام ، هنالك ثمن يتعين دفعه ، وعلى القوى السياسية ، وبخاصة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ، أن تختار ما الثمن الذي تود أن تدفعه : هل هو ثمن الحرب الذي هو استمرار حالة عدم الاستقرار وضعف التنمية واهدار الموارد ، أم هو ثمن السلام الذي هو الاستقرار والتنمية واتساع دائرة الخدمات الأساسية وغير الأساسية للمواطنين ؟؟
عن : ( الصحافة ) .