السودان الوطن الممكن: مبادأة المجال العام في صناعة الوطن والشعب والدولة
كان اسمها ام درمان
كان اسمها الثورة
كان اسمها البقعة. وكان العرس عرس الشمال
كان جنوبيا هواها.
وكانت ساعة النصر اكتمال الهلال.
فدى لك العمر
ولولا الأسى لكنت تفديك الليالي الطوال.
شعر محمد الفيتوري لحن واداء محمد وردي
يا علي عثمان قال الله تعالى : (يوم تسود وجوه) صدق الله العظيم. أنظر الى المرآة.
***
السودان الوطن الممكن: مبادأة المجال العام في صناعة الوطن والشعب والدولة
د. عبدالله جلاب
جامعة ولاية أريزونا
Abdullahi.gallab@asu.edu
السودان الذي رسمت حدوده الجغرافية دولة الحكم الثنائي كان أكبر مساحة من السودان الحالي و أصغر مساحة من سودان التركية وأكبر بقليل من سودان دولة المهدية. وسودان دولة المهدية كان من الممكن أن يكون مساحة ممتدة بين حوض النيل والنيجر في أعماقه الشمالية والغربية والجنوبية. وسودان الحكم الثنائي كان من الممكن أن يكون أكبر مساحة في إمتداده الجنوبي وأصغر حجما في إمتداده الغربي. وأن سودان المستقبل يمكن أن يكون أكبر حجماً من السودان الحالي كما يمكن أن يكون أصغر حجماً من أي من تلك التكوينات السابقة. وأن السودان في تكوينه البشري كان من الممكن أن يكون أكثر إنسياباً وتداخلاً وتماسكاً في نسيجه الإجتماعي مما هو الآن. بمعنى أن تلك الهوامش الجغرافية والإنسانية والتي صنعتها عوامل متعددة وتجارب مريرة منذ العهد التركي كان من الممكن أن لا تكون. هذا يعني أن الأوطان والشعوب والهويات الإثنية وغيرها من تكوينات بشرية هي من صنع الإنسان في تفاعله مع تعقيدات وجوده الإنساني ومعطيات ظروف خاصة وعامة. وعلى الرغم من أن السودان كتجربة إنسانية هو أقدم بكثير مما ذكرت ألا أن بعضاً من تاريخه الحي يكاد أن يكون أكثر أثراً وخطراُ على ما نحن فيه الآن. وذلك يعني بشكل آخر بأن هناك من دخل أو أدخل في مجال السودان الجغرافي أو أخرج أو أخرج منه بالعنف أو خرج إختيارأ أو عن طريق التراضي. وهناك أيضاً من دخلوا أو أدخلوا عنوة وإقتدارأً كمادة خام في صناعة المركز والهامش والعنصر والجماعات. تم كل ذلك وسط ديلكتيك القوه الفاعلة لعوامل القبض والبسط التي تزملت بثياب الزمان والمكان. وفوق هذا وذاك فقد كان كل ذلك من صنع الإنسان في تعامله مع ما تيسر من الآفاق التي يجود بها الزمان أويتعارك عليها أهل كل زمان حول ما يراه ذلك الإنسان وما يطمح أن ينال من خصوصية المكان. كان ذلك الإنسان على علاقة بالمكون المحلي أو المكون الأجنبي. لذا وعلى مدى تلك الحقب كانت هناك من الأجيال والجماعات السودانية الذين ضمتهم تلك الرقعة الجغرافية من شهدت وشاركت بوسائل وأساليب متعددة في أحداث تلك التجربة التي صنعت السودان الذي نعيش الآن. وهي تجربة كبيرة جداً وبكل المقاييس وبالمقارنة مع العديد من التجارب الماثلة. الأمر الذي يعطي البعد التاريخي والإنساني للتجربة السودانية في خصوصياتها وعمومياتها أهمية خاصة بالأمس واليوم وللغد.
إن كانت الأوطان تصنع فإن ما يرد في حكايات وروايات أدب صناعة التكوين لتلك الأوطان تتواتر هي الإخرى لتروي أسطورة أصل هذا أو ذاك وطن . ومن المسائل الهامة أيضاً أن الشعوب تنمى خيالها السياسي من واقع تجاربها ومن وحي قرأتها الخاصة لتلك التجارب. هذا ومن الجهة الأولى فإن أسطورة صناعة السودان يمكن أن تقول هي بأنه قد صنع المرة تلو الأخرى وتكوّن وولد من رحم التحديات الخاصة والعامة. ولعل الدارس للتاريخ الحي للسودان في عهوده القديمة والحديثة يمكن أن يخرج بنتائج مفادها إنه لم يمر حين من الدهر لم يجد فيه أهل السودان ألا وأنهم أمام تحد كبير وماثل. وبمقدار نجاح أو فشل الجماعات السودانية المتتابعة في معالجة أشكال وأنواع مثل تلك التحديات تواترت الحوادث والحادثات وتناقضت أحياناً وتوافقت في أخرى المواقف والأفعال ومن كل ذلك تشكلت وتطورت طبقات السودان الإجتماعية ولحظاته التاريخية وجماعاته الحاكمة والمحكومة ومراكزه وهوامشه البشرية والجغرافية. ولعل واحدة من خصوصيات هذا المكان الجغرافي المسمى بالسودان هو أن ظل محيطه الخارجي—بعيداً كان أم قريباً—منذ ماقبل التاريخ يلعب أدوار هامة في شأنه العام والخاص. وكأن أحد الفصول الثابتة في تاريخ البلاد ذلك الصراع والنزال الدائم مع القوى الخارجية. فمنذ عهود الغزو الخارجي فرعونياً كان أم فارسياً أو رومانياً ومروراً بمراحل التمدد الإسلامي و التركي ومن بعد إبان عهود الهيمنة الإستعمارية وإنتهاءاً بعصور الإنقلابات المدعومة من الخارج والضغوط والحصار الإقتصادي فقد تعددت القوى والجهات الطامعة أو المؤثرة على أمر البلاد وأهل البلاد. كل جاء وفق أجنده تختلف عن الأخر وكل أخرج تاركاً وراءه بعض آثار تتتفاوت في عمقها أو تفاعلها مع ما وجدت من إرث محلي. ويبقى ذلك الفصل الثابت في كتاب تجربة الوجود السوداني حافلأ بتنوعه. ويظل كما يقول لبيد "زمر تجد متونها أقلامها". وفق رمز آخر وبمعن مغاير.
هذا ومن جهة أخرى فإن الخيال السياسي السوداني قد استبطن ما ظل يعبر عنه في إطار الخطاب العام بأن لأهل السودان مقدراتهم الموفقة في الوصول إلي حلول ذات أثر. وقد يقول البعض ذلك بإبتسار ويقولها بعض آخر بإقتدار. ويظل هذا وذاك في الأساس جزءاً من الحوار العام السوداني الداخلي المتصل في ضعفه وقوته. والذي تعددت أساليبه التي إمتزج فيه العنف بلغة الخطاب الوقور حيناً والمبتسر أحيانُا. وتتعدد فيه الإتفاقيات والعهود. والذي يمكن أن يكوّن بمزيد من الجهد الخلاق بناءات بعض الركائز الأساسية لبناء صرح جديد وفخم تقوم عليه النظرية العامة للدولة وتستلهمه مؤسساتها لبناء الوطن الجديد الممكن. لا شك وأن الكل يدرك بأن إدارة ذلك الحوار والأساليب التي ظل يتصاعد ويتلون بها وفيها سلماً وحرباً في إطار الجماعة السودانية قد ظل وظلت هي الأخرى تتعدد أو تتضاءل أو تضمر منابرها ووتائرها في مجالات العمل العام والفكر والممارسة اليومية وفق ما كانت أو ما ظلت تمليه ظروف القمع أو الإنفتاح المترتب على المناخ العام في البلاد. ومن واقع هذا وذاك وبنظرة سريعة للتاريخ القريب على مدى القرنين الماضيين يمكن للمتأمل أن يخرج بالنتائج التالية:
أولاً: لقد تمكن محمد علي باشا ومن تلاه من أفراد الأسرة الخديوية توحيد السودان في حدود هي أوسع من حدوده الحالية بأن ضموا إليه بعضاً من أجزاء يوغندا الحالية. وأن ظلت محاولات السودانيين متوالية قبل ذلك في الوصول إلي نتيجة مشابهة بزحف السلطان تيراب شرقاً والمك بادي غرباً إلا أن مقاصد ونتائج حملات محمد علي الإستعمارية وتوجهاتها العنصرية تلك حولت تلك الوحدة القسرية إلى تجربة كارثية تجاوزت ذلك الزمان والمكان إلى مصير البشر. فقد تحولت بعض أجزاء وأجواء البلاد إلى مساحة يحكمها نظام مفتوح لصيد و إسترقاق الإنسان السوداني. والبعض الأخر يتكون من فضاء واسع يحكمه نظام مقفول أنهكته الضرائب ونهب الثروات. ومن هنا جاءت وتوطدت البناءات الأساسية للهامش الجغرافي والبشري ووضعت قوائم المركز. لقد قوبلت التركية الأولى كما يسميها إهل السودان بالرفض التام والمقاومة منذ اليوم الأول. وقد تصاعدت تلك المقاومة لتتحول إلى ثورة شاملة شاركت فيها كل أقاليم السودان شرقه وغربه وجنوبه وشماله ووسطه. وما كان للثورة المهدية أن تنجح لو لم تلتف حولها قوى الهامش في كردفان خاصة وجنوب السودان على الأخص ليحولاها إلى ثورة وطنية للتحرر الوطني في مرحلتها الأولى. لقد تجلت عبقرية كرم الله كركساوي العسكرية في تمكنه من أن يقبض بكلتا يديه على اللحظة التاريخية ليجمع على صعيد واحد الشلك والدينكا والنوير مع الجلابة ومن تبقى من بازنقر الزبير ود رحمة ليحرر الجنوب كله ومن ثم أن يقدم الدعم الاكبر للثوريين في كردفان من أجل معاركهم الفاصلة في الأبيض وبارا من بعد إنتصار شيكان. كما قدم للثورة أعظم قادتها العسكريين أمثال حمدان أبو عنجه والزاكي طمل وفضل الله صابون وغيرهم. هذا وفي مجال الهبات المهدوية التي إجتاحت العالم الإسلامي حينها كانت المهدية السودانية هى الأنجح في الوصول بالثورة إلى غاياتها.
ثانياً: إن نجحت المهدية في توحيد البلاد عن طريق الثورة فقد فشلت في فرض المهدوية كدين دولة يلغي ويستبدل التنوع الديني المتمثل في الطرق الصوفية. لذلك ومن واقع المقاومة لذلك النهج ومن واقع الحصار الخارجي تحول نظام الخليفة عبدالله إلى حكم عسكري يقوده جنرال في جبة القنجة ويحرسه جنرالات يشك صاحب الحكم في ولاء بعضهم. ومخابرات يدفعها ولاؤها للأسرة قبل ولائها للثورة. وقتها لم يجد وعيد شاعر النظام احمد وسعد أن من يخالف صاحب النظام يمكن أن ينجى من الجحيم. وبذلك لم تتمكن الدولة المهدوية من العبور بالإجماع الوطني إلى غاياته. كما حالت طموحات رابح فضل الله إضافة إلى عوامل أخرى من أن لا يتكامل حوض النيل بالنيجر. وأن لا تتحقق أحلام الثوريين المصريين في أن تحررهم المهدية السودانية. ومن ثم كان مصير عبقرية أفريقيا العسكرية الأولى أشبه بمصير شخصيات التراجيديا الإغريقية.
ثالثاً: على الرغم من أن المستعمر البريطاني قد إنتصر عسكرياً على جيش ونظام الدولة المهدية إلا إنه هزم معنوياً إن لم نقل دينياً. فقد أجبر الخوف العميق ريجنالد ونجت أطول من حكم السودان بعد البشير ومؤسس النموذج الأول للحكم العسكري بعد الخليفة عبد الله من أن يهب أهل السودان من جديد في ثورة دينية مهدوية تقتلعهم من البلاد بأن يسعى حثيثاً لإستعمار الدين وذلك عن طريق محاصرة وتهميش الأسلام الصوفي وتأطير دين للدولة بان تبني له مجالس ومؤسسات إستشارية للعلماء وشعب وكيانات تعليمية كجزء من الجهاز الحكومي. وكما حاول ونجت جاهداً إستعمار الإسلام سعى أيضاً إلى إستعمار المسيحية والديانات المحلية. هذا ومن جهة أخرى فقد ذهب ونجت أبعد من ذلك بأن عين المهدوي ثقافة لا إيماناً—سلاطين باشا—في موقع الرجل الثاني في النظام من أجل أن يعيد تشكيل قيادة وهيكلة القطاع القبلي . على أن يتم هندسة نظام مسيطر قليل التكلفة مطلق السلطات تفاقمت من جرائه الهامش غير المرئي وذلك بتصاعد وتائر تهميش فقراء الريف. وبتمكين نظام المناطق المقفولة فقد تكامل الهامش المرئي مع ذلك غير المرئي إضافة إلى تهميش طبقة الجلابة المستوطنة في تلك المناطق. فكأن نظام التركية اللاحقة في تكامله قد أعاد وزاد على الرتق الذي مكن له نظام التركية السابقة وإن إستبدل قيادتة العليا بريطانيين وحرسه بجيش قوامه ثلة من العسكريين البريطانيين وقليل من المصريين والسودانيين. ولعل من إلإفرازات المباشرة لإعلاء مكانة دين الدولة توطيد روح الإستعلاء والتبخيس والتجهيل للإسلام الصوفي. إضافة الى تلك الإفرازات غير المباشرة والتي برزت من وسط متعلمي التعليم النظامي في بدايات الحركات الإسلاموية وترعرت وترسخت فيها تلك الروح بعد أن تزايد أعداد منتسبيها. هذا ومن جهة أخرى فقد نمت من خارج إطار الدولة المركزية الإستعمارية تيارات رأسمالية المدن التجارية والتي ألفت بين جماعاتها روح الطريقة الختمية تحت رعاية السيد علي المرغني ورأسمالية الريف الزراعية والتي جمعت بين قطاعاتها روح المهدية الجديدة التي أطر لها السيد عبد الرحمن المهدي. وقد مهد كل من ذلك التطور الهام إلى تمهيد الطريق لبناء تحالفات جديدة قامت عليها الحركة السياسية في لأحزابها الكبرى. لا شك أن تلك الحركات الهامة تضيف وتعزز أهمية التجارب السودانية في خارج إطار الدولة المركزية. هذا وفي إتجاه آخر لم يمض طويل وقت على قطاعات جديدة من السودانيين ليهبوا عسكرياً أو مناصرين أو متعاطفين مع علي عبداللطيف ضد نظام حكم يسعى إلى تمزيقهم إلى قبائل عليا وأخرى دنيا.
رابعاً: لقد إتخذت المقاومة للنظام الإستعماري إتجاهاً جديداً بقيام الأحزاب السياسية. لقد كان للنظرية العامة التي قام عليها البنيان الأساسي للأحزاب الأثر الأكبر في أن تكون الموئل لتحالف قطاعات من قوى إجتماعية فاعلة تضم المتعلمين وقطاعات دينية تضم في ما تضم قوى حضرية من التجار والنقابات وأخرى ريفية من المزارعين والقوى القبلية. لقد كانت الحركة الوطنية السودانية على موعد مع قوة التاريخ الفاعلة. فحاولت أن تسعى بها إلى تأسيس كيان جامع أوسع من القبيلة والطائفة والطبقة والقطاع. ولعل عوامل القوة في تكوين تلك الأحزاب تكمن في أن إلتفاف تلك القوى الإجتماعية حولها قد مكنها من قيادة معركة إستقلال البلاد بإقتدار, وأنها الصخرة التي أوهت قرون وعول النظم العسكرية والشمولية بكل جبروتها. لقد حاولت تلك النظم كل النظم القمعية دون إستثناء القضاء على الأحزاب بشتى أشكال القمع وكما سعت بجهد حثيث إلى تسخر النقابات لمصلحة مشروعها ولم تفلح. بل وأن كل محاولات صناعة أحزاب الدولة قديماً وحديثاً فد فشلت فشلاً ذريعاً. غير أن عوامل الضعف التي ظلت تلازم تلك الأحزاب أو الكينات السودانية الكبرى هي أن قطاع المتعلمين الذين أوكل إليهم بأن يكونوا العقل المفكر والمدبر لها وأن يقوموا بحسن تدبير أمرها الفكري والتنظيمي قد ظلوا على عجز متواصل في القيام بمثل ذلك الدور. هذا وقد ظل بعضهم يدخلها بإيمان فاسد سرعان ما يقلب لها ظهر المجن عنذ سماعه المارش الأول للإنقلاب العسكري. بل أن النظم الشمولية والعسكرية التي لا يحتاج فيها الموقع الوزاري إلي جهد إنتخابي ظلت الأكثر جاذبية لمثل هؤلاء وأولئك. أمر آخر هو أن لم تستطع تلك الأحزاب تلك أن ترتقي لأن تكون أحزاباً قومية تستقطب السودانيين عامة وأن تستوعب وتتقدم بهموم وأحلام المواطن السوداني وتجعل منها هماً عاما لها وبرنامجاً خاصاً بها. هذا وقد ساهمت سنوات القمع المتصل والعمل تحت الأرض والعمل من خارج البلاد وتجفيف الموارد إلى إنهاك تلك الأحزاب وإضعافها. غير أن النظم القمعية إلي زوال.
من ذلك يمكن أن يرى البعض في فيض تلك التجربة أن السودان الوطن الممكن يحتمل ويرقى لأن يضم في سعته الجغرافية ما تعارفنا عليه الآن أو أكبر من ذلك وإن تنوع رسم تلك الخريطة أو تغير محيطها الجغرافي. وقد يكون في تعظيم التجربة السودانية ما يوجه الأمل والإرادة الجماعية ليتطابقا مع العمل صوب مشروع التغيير الشامل الذي يمكن أن يقوده أهل السودان وفق إرادتهم الحرة. وحيث يمكن أن يدخل الجميع في الوطن لا من حيث أن الأقربين أولى بالمعروف وإنما من حيث أن المواطنين دون إستثناء أولى بالمعروف. وقد يرى البعض الآخر أن لا مجال في الحفاظ حتى على ما ورثنا من رقعة جغرافية. وقد يتأتى ذلك في إطار تقزيم تلك التجربة. وبين هذا وذلك نشهد حراكاً متصاعداً هذه الأيام يشارك شباب من النساء والرجال وفيه من افراد وأحزاب ومراكز في داخل وخارج البلاد. وذلك أمر هام وقد يكون مبشرأ. ونشهد أيضاً الحديث وهو يتواتر بأنه قد بات الأوان. بالطبع أن الآونة لن تفوت أبداٌ. فالقضية هي قضية وطن. وليست بالامر الذي يمكن أن يحصر في إطار الشريكين مهما حاولا السيطرة عليها بعزل الأخرين. وإنما نقول بأن امر الوطن والقضية الوطنية يجب يطرح كله خارج إطار الدولة وحزبها الحاكم. وأن يتم إختيار الأسلوب الأمثل لمعالجته بجهد مواطنيه. لذلك فإني أرى مع الذين يطرحون نموذج مؤتمر المائدة المستديرة بأن ذلك يمكن أن يكون هو النموذج الأمثل بعد تطويره.
لقد تم مؤتمر المائدة المستديرة تحت ظرف معين إستجابت فيه القوة الجماهيرية لنداء اللحظة التاريخية دون أن تلتفت للذين حاولوا أن يصرفوها إلى حين أن يقتصوا لها. وقد جاء ذلك المؤتمر كواحد من فيوض وفتوحات تلك اللحظة التاريخية. وتظل أكتوبر ويظل ذلك المؤتمر من أهم ما قدمت الحركة السياسية لمرحلة ما بعد الإستقلال. فقد جمع بين قيادات جيل الإستقلال وجيل أكتوبر من الشماليين والجنوبيين. وبذلك فقد كانت أكتوبرالبوابة الكبرى لدخول جيل جديد في ميدان العمل والفعل السياسي. ولا يزال من تبقى من جيل أكتوبر من الساسيين وقادة الرأى يتبؤأ مراكز متقدمة في قيادة الحركة الساسية. هذا وقد طرحت أكتوبر قضية الحريات بقوة. ألا أن مؤتمر المائدة المستديرة لم يستوعب ذلك في إطاره الشامل. وقد نظر أيضاً في موضوع الوطن ولكن في إطار حصر قضيته في ما سمى وقتها بمشكلة الجنوب. وبذلك لم يهتم بقضايا الهامش المرئي في دار فور وجبال النوبة والشرق والمناطق الأخرى. ولم يكن في أفقه أن قضايا الهامش لها أبعاد أخرى قد تكون غير مرئية تتمثل في قضية المرأة وفقراء الريف. ولم يعط المؤتمر إهتماماً لقضية الدولة وكيف يمكن إعادة صياغتها وبناء أجهزتها لتفي بمقتضيات المواطنة وحقوقها. وأن تكون المواطنة هي أساس بناء الوطن. بمعنى أخر فإن قضية السودان الجديد والتي كانت مطروحة في ذلك الوقت لم تجد الإهتمام الفكري الكافي الذي كان من الممكن أن ينتقل بنا جميعاً إلى مراق كبرى في بناء السودان الوطن الممكن.
الآن تهل لحظة تاريخية مواتية. يلوح برقها الساطع في كل الآفاق. وليس ذلك بالبرق الخلب. في إطار هذه اللحظة التاريخية تبدو أمام الحركة السياسية فرصة كبرى لأن تقبض بكلتا يديها على اللحظة المواتية من أجل تقديم مشروع إعادة بناء متكامل وذلك بتغيير مناخ الحوار الوطني ليشتمل على قضية الوطن بكامله وذلك بفصل ذلك عن الدولة وحزبها الحاكم. وذلك بأن تقدم من أجل ذلك مشروعها في مراحل ثلاث: أولها يقدم أهل الخبرات والتخصصات العلمية من أجل وضع تصور متكامل لإعادة صناعة الدولة الوطنية والسودان الجديد ذلك بتوسيع الإتفاقيات السابقة وعلى رأسها إتفاقية نيفاشا وأن ينطلق هذا التصور من رؤية جديدة تجعلنا ننظر لواقعنا كما هو حتى نتمكن من التعرف على سبل ووسائل تجاوزه. وأن تمكننا في ذات الوقت من السيطرة على اللحظة من أجل تغييرها والمستقبل من أجل بنائه. ومن ثم يقدم ذلك لأهل التمثيل والمواقف السياسية وقادة الرأي للإتفاق حول كل ذلك في مؤتمر للمائدة المستديرة أو مؤتمر جامع حتي يكون ذلك الإتفاق هو الميثاق الداخلي للسودان الجديد. ومن ثم يقدم لكافة جماهير الشعب السوداني من أجل أن يكون الميثاق الخارجي لبناء الأمة الجديدة. في ذلك يمكن للتجربة السودانية أن تتخذ شكلاً جديداُ ومنهجاً متميزأ يمكن أن يضئ لنا ولغيرنا الطريق. وفي ذلك أيضاً ما يمكن أن يعيد العافية للمجال العام السوداني ليكون هو مجال المباداءة والمبادرة والجهد الخلاق في صناعة الوطن والشعب والدولة وتقديم هذا الجيل الجديد كما قدمت اكتوبر من قبل جيلا جديدا من السودانيين. لقد صنع السودان وتخلق في رحم التحديات والذي أمامنا الآن هو تحدي العصر. إذ من هنا يمكن أن يكون السودان أكبر أو أصغر أو في ذات حجمه العام القادم أو في المستقبل. يا صناع السودان الجديد إتحدوا.