السودان: عبد الله حمدوك …النوايا الطيبة والإرادة السياسية

 


 

 

ينشط رئيس الوزراء ء السابق من منفاه الدكتور عبد الله حمدوك في حملاته وخطاباته ومشاركته الإقليمية والدولية لوقف الحرب الدائرة في السودان منذ أن اندلعت في ابريل الماضي بين الجيش وحفاءه من الإسلاميين وقوات الدعم السريع. وربما فاقت تحركاته المحسوبة على طرف الحرية والتغيير الجناح المدني الرافض للحرب والمتهم من الطرف الآخر وحلفائه بممالأة إن لم يكن تحالفا تكتيكيا مع قوات الدعم السريع في حربه مع الجيش. وجه حمدوك في الأسابيع الماضية رسائل إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بوقف عمل بعثة الأمم المتحدة (يونيتامس) محذراً من تداعياتها الخطيرة، بالإضافة إلى جولاته في دول الإقليم بما فيها مبادرته لجميع الفرقاء على توافق وطني مشكوك في نتائجها. وبدا أن نهج المبادرات بات جزءً من طريقة الرجل في مخاطبة القضايا خطابة منذ أن كان رئيساً لوزراء الحكومة الانتقالية.
ويعد حمدوك من التكنوقراط الذين وضعتهم حظوظهم أو أقدار التاريخ على مسار سياسي لم يكن مستعد له بالخبرة أو التجربة أو الطموح، فقد صادف اختياره بعد انتفاضة ديسمبر 2019م التي أطاحت بحكم الإسلاميين ليكون رئيس وزراء الحكومة الانتقالية كشخصية متفق عليها شعبياً وسياسيا ليقود حكومة هجين بين المدنيين والعسكريين. ولعها المرة الأولى في تحولات السياسية السودانية التاريخية أن يتقلد شخص من خارج الدائرة التقليدية السياسية السودانية والاجتماعية الجهوية منصباً سياسياً (رئيس الوزراء) بالانقلاب أو الثورة أو الانتخابات مثل شخصية عبد الله حمدوك. فالرجل الذي حازّ على شعبية غير مسبوقة حملته عاطفة الجماهير المتحمسة للتغيير لتطلق عليه وصف "المؤسس" وأصبح في واجهة الأحداث بكاريزما شعبية جارفة أكثر فعالية من منصبه. وقاد حكومة تنازعتها الصراعات السياسية في مناخ سياسي ورث تشوهات مستعصية كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل على شخصية حمدوك التعامل معها. فخلفية الرجل الاقتصادية والمهنية ومسلكه الليبرالي وشخصيته الحذرة التي تميل إلى الوسطية أو المجاملة في السياق الشعبي السوداني اعاقت الكثير من قراراته. فإذا كانت السياسية تقتضي فيما تقتضي جملة رؤي متباينة تقوم على خيارات إنسانية متباينة بما فيها الحسم في القرار أو القوة في التنفيذ، فقد افتقدت حكومة حمدوك وسياساته كل من الأمرين لنقص التجربة السياسية على مستوى الممارسة السياسية الشخصية.
ولكن ما الذي يحرك الرجل الآن بنشاط مكثف ربما فاق دوره ابان توليه رئاسة وزراء الفترة الانتقالية؟ وهل لممارسته القصيرة للسلطة فتحت شهيته نحو الزعامة السياسية أو السلطة؟ قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى أن الرجل قد حقق اختراقاً على المستوى الدولي وأعاد السودان إلى دائرة منظومة الاقتصادي الدولي بعد عقوداً من الحظر، والأبرز بطبيعة الحال ما قادته اليه جهوده في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب حسب التصنيف الأميركي. صعد الرجل مسرح السياسة في وقت يبحث فيه الشارع السوداني على منقذ تكنوقراطي يخرج البلاد من مأزقها الاقتصادي. وهو ذات الرؤية التي دفعت النظام السابق قبيل انهياره لاستدعاه لشغل منصب وزير المالية واعتذر عنه، وهو ما زاد من شعبيته بعد الثورة.
لم تكن رؤية سياسية واضحة بالمعني التقليدي للممارسة السياسية في ظل واقع مشعباً بالمعوقات الاقتصادية والحروب الداخلية على بينة دولة هشة تقوم على الترضيات والكيانات الاجتماعية والقبلية، وكلها عوامل تحد من التحول الديمقراطي أو الانتقال الى التحديث من منظور اقتصادي وسياسي اجتماعي. فرض هذا الواقع على الرجل البدء بمعالجات فوقية تحقق مصالح الدولة العليا أكثر من المواجهة المباشرة خاصة مع التعاطي السياسي اليومي، فكان الأداء السياسي غير مسيطر عليها جعل من حكومته لقمة سائغة لشهية الانقلابات السودانية على عادة تداول وتغير السلطة في السودان خاصة في فتراتها الديمقراطية قصيرة الأجل. فقد آثر الحلول على مستوى المؤسسات الدولية لإقالة عثرات الاقتصادية دون تفعيل للمقدرات السياسية الداخلية التي تضمن استمرار هذه الحلول.
لم تكن المعايير الاقتصادية القياسية وتطبيقاتها في السياسية التنظيمية لمؤسسات الدولة التي نهجها الوزير المدني في سياسته المالية للدولة المتعثرة من واقع خبرته المهنية في كخبيرٍ دولي في مجالات عدة. فلم تلفح خبراته الفردية في الاصلاح الإداري والحوكمة، والاندماج الإقليمي وإدارة الموارد وإدارة الأنظمة الديموقراطية والمساعدة الانتخابية كما تحفل بها سيرته الذاتية لم تكن لديها قابلية التطبيق على واقع السودان الذي قاد وزارته في خضم صراع محتدم على السلطة وفوضى سياسية فتكت بالمرحلة الديموقراطية الرابعة. فقد نظر إلى الواقع السياسي وصراعاته من منظور تكنوقراطي مفرط في مثاليته وجموده فأفتقد لتقديرات السياسي وبصيرة القائد في استيعاب تناقضات التي أدت إلى ما أدت اليه من نتائج شاخصة.
فما الذي ستكشف عنه جوالاته ومبادرته الشخصية على صعيد الأزمة السودانية؟ يعتمد حمدوك إلى حدٍ ما إلى شرعية منصبه وهي شرعية ثورية وليست انتخابية كآخر رئيس وزراء بعد الثورة قبل أن يطيح به انقلاب الفريق البرهان وحلفائه من الإسلاميين أكتوبر 2021م رغم أنه شارك في سلطة الانقلاب في خطوة افتقرت الى الخبرة السياسية إن لم تكن الحساسية التاريخية أو تقدير الذات. ومن ثم غادر مستقيلاً إلى الخارج وطوته ظلال الوظيفة الأممية. ومن ثم عاد إلى الظهور على منصة الواجهات الإعلامية طارحاً للمبادرات الوطنية ومخاطباً كل الأطراف الإقليمية مؤسسات وافرادا. وظلت هذه الخطوات لحين اشعار آخر تحلق في فضاءات الإعلام دون أن تحدث أثراً على الداخل.
فما يحرك الرجل ليس مسعى سياسياً نحو عودة سلطة نزعت عنه أو مبادئ سياسية يستميت في الدفاع عنها. ولكن يفسر هذه التحركات على كافة المنابر المتاحة والخاصة بالشأن السوداني فيما يتعلق بالحرب على ما يبدو هي النوايا الطيبة Good Will هي ما يدفع الرجل الى لعب دور يمكن وصفه بالمبادرة الفردية على الرغم من موقعه الجديد رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية. فانتماءات الوزير السابق السياسية لم تكن صريحة بما يكفي لاتخاذ موقف يحتمل أقصى درجات الضغط والمناورات السياسية داخليا أو خارجيا. ثم إن تاريخه السياسي القصير في الحكم يجعل من وجوده مستغلاً وموظفاً في الصراع السوداني الدائر دون إرادة حقيقية لإنجاز ما يصبو إليه من آمال لإنهاء الحرب. فالدعوة إلى انهاء الحرب مطلباً لا حيدة عنه أي يكن مصدر الدعوى، فأي دعوة لابد لها من إرادة سياسية نافذة أكثر مما تتصوره النوايا أو التصورات المحمولة على الأماني أكثر من حقائق الواقع.
###

nassyid@gmail.com

 

آراء