السودان.. من مخايل الدولة إلى القبيلة

 


 

 

ظهرت دولة السودان الحالية إلى الوجود مع الغزو العثماني في عام 1821، فقبل ذلك التاريخ كان اسم السودان يُطلق على الإقليم الجغرافي الواقع جنوب الصحراء الكبرى، وكانت تتحكم في السودان الحالي مجموعة من السلطنات والممالك مثل السلطنة الزرقاء، وممالك الشايقية والفور والمسبعات و تقلي، وغيرها.
في عام 1885 اندلعت الثورة المهدية التي استطاعت إيقاع الهزيمة بالحكومة التركية وإقامة دولة وطنية حكمت البلاد لمدة 13 عاما، قبل أن يُسقطها الاحتلال الإنجليزي عام 1898، حيث سيطر على البلاد حكم ثنائي (بريطاني- مصري) لأكثر من نصف قرن حتى نجح السودانيون في نيل استقلالهم الوطني عام 1956.
طوال فترات حكم الممالك والسلطنات والحكم التركي والدولة المهدية وحتى الحكم الإنجليزي ظل التعبير السياسي وتنظيم العلاقات والروابط الاجتماعية محكوما بعاملين أساسيين هما الدين والقبيلة، حتى جاء عام 1920 وظهر أول تنظيم سياسي حديث لا تقوم فيه العلاقات على ذينك العاملين وهو تنظيم “الاتحاد السوداني” الذي جمع عضويته على مفهوم الانتماء الوطني بغض النظر عن الدين والقبيلة والانتماء الجهوي.
ثم جاء ظهور الأحزاب السياسية كتتويج أعلى لمفهوم الانتماء الوطني، إذ برزت للوجود في أعقاب ظهور الطوائف الدينية التي شكلت خطوة متقدمة على القبيلة في مجال التكامل القومي، ذلك أن الطوائف احتضنت في أحشائها العديد من القبائل والجهويات المتمايزة التي وحدتها الرابطة الدينية، وجاءت الأحزاب لتضم في داخلها الطوائف الدينية بما احتوته من تنوع قبائلي وجهوي.
اليوم، وبعد مرور قرن من الزمان على ظهور أول تنظيم مدني حديث، يجد السودان نفسه وقد ارتد بصورة مخيفة إلى الواقع الذي تتحكم فيه عصبية القبيلة بشكل كبير، ويبدو هذا الأمر معاكسا لمسيرة التطور التاريخي، إذ أن عوامل انتشار الوعي والتعليم والتحديث الاقتصادي خلال 100 عام كانت كفيلة بتقوية الرباط المدني والتكامل القومي وانحسار الولاء القبلي على نحو واسع.
غير أن أسباب أخرى متمثلة في الحروب الأهلية والاختلالات السياسية والتنموية فضلا عن استخدام الأنظمة الحاكمة للقبيلة كأداة للنصرة السياسية والعسكرية قد أدى للانتكاسة البائنة والردة الماثلة في دور هذا الكيان الاجتماعي الذي يتبدى اليوم كلاعب أساسي يكاد دوره يعلو على الأحزاب والمجتمع المدني ويتعاظم تأثيره في بنية ومسار السلطة السياسية للدولة على نسق غير مسبوق.
قد كان نظام جماعة الإخوان المسلمين الذي استمر لمدة 30 عاما وسقط بثورة شعبية عارمة في أبريل 2019 أكثر الأنظمة استغلالاً للقبيلة من أجل تنفيذ أجندة البقاء والاستمرار في الحكم، حيث سعى لاستقطاب قيادات الإدارة الأهلية عبر إغراءات السلطة والمال، ثم كسر شوكة من استعصى عليه من زعماء القبائل عبر خلق قيادات قبلية موازية مسنودة من قبل الدولة وتتمتع بكل مزاياها.
لم يكتف النظام البائد بذلك بل استحدث بدعة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث في إطار تسييس ذلك الكيان الاجتماعي وهى حشد القبائل لتقديم “البيعة” والولاء لرأس النظام والحزب الحاكم, كما قام بخلق جسم غريب على نظام الإدارة الأهلية يعرف باسم “مجلس شورى القبيلة” مهمته تنفيذ سياسة الدولة عبر القبيلة.
إن التعبير عن الانتماء والولاء السياسي يجب أن يتم بصفة فردية أو عبر الأجسام المدنية (الأحزاب) وليس بشكل جماعي عبر العشيرة والقبيلة لأن النتيجة المباشرة لتسييس هذه الكيانات تتمثل في الاستقطاب والاصطفاف على أساس تحقيق المصلحة الضيقة للقبيلة، وليس الوطن ككل.
وبالفعل كانت نتائج ذلك التوجه هي وقوع استقطاب سياسي حاد انعكس في توظيف النزاعات القبلية في العديد من القضايا كان أبرزها الحرب الأهلية في إقليم دارفور، حيث أضحى استغلال القبيلة لتنفيذ أجندة الدولة عاملا رئيسياً في استمرار الحرب وتمزيق النسيج الاجتماعي وارتداد المجتمع للولاءات الأولية .
كذلك أضحت القبيلة أقصر الطرق للولوج للسلطة ومراكز النفوذ وبؤر اتخاذ القرار، حيث باتت المناصب الحزبية والتنفيذية والدستورية تتم عبر الموازنات القبلية والجهوية، كما اندفعت القبائل في خلق كيانات سياسية ومدنية هي في حقيقة الأمر مجرد واجهات قبلية يتم استثمارها في مزاد التدافع السلطوي !
قد كان لسياسة إقحام الدولة للقبيلة في النزاعات السياسية آثارا عميقة تهدد بزعزعة الاستقرار والسلم الاجتماعي لفترات طويلة، إذ لم يكتف النظام البائد بتسليح بعض القبائل في إقليم دارفور، بل مضى أبعد من ذلك ومنحهم وعودا في غاية الخطورة تتمثل في تمليكهم الأراضي التي يقومون بتحريرها من أيدي القوى المتمردة، وهو الأمر الذي يضرب في صميم التقاليد والأعراف المعمول بها، فيما يتعلق بحقوق ملكية الأرض في الإقليم.
من ناحية أخرى، وبعد سقوط النظام الاستبدادي وفشل شعاراته الدينية التي ظل يرفعها لمدة 30 عاما، لجأت جماعة الإخوان المسلمين لاستخدام القبيلة كغطاء للعودة للعملية السياسية ولتنفيذ أجندتها التخريبية الهادفة لعرقلة مسيرة الحكومة وإجهاض الانتقال الديمقراطي، وهو الأمر الذي يفسر في جزء كبير منه الاقتتال غير المسبوق بين قبائل ظلت تتعايش بشكل سلمي لأزمان طويلة في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر وغيرها.
لا شك أن التزايد الكبير في نفوذ القبيلة يمثل خطرا حقيقيا على السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي، مما يضاعف من مسؤولية كافة القوى المدنية والسياسية في مواجهة هذا الخطر وبث الوعي في المجتمع حول جذور وأسباب تعاظم دور القبيلة وضرورة وكيفية العمل على ترسيخ الحس الوطني والانصهار القومي.
كما يتوجب على الحكومة الانتقالية العمل على تفكيك هذا الإرث القبلي الذي تغلغل في عمق مؤسسات الدولة وأضحى يمثل تهديدا جدياً لعملية البناء الوطني، وذلك عبر تبني سياسات واضحة في مختلف المجالات تهدف إلى الارتقاء بالشعور القومي وتقوية المؤسسات المدنية ووضع خطوط فاصلة تحدد إطار فعل القبيلة الذي يجب ألا يتجاوز الفضاء الإداري/الاجتماعي الذي ظلت تؤدي فيه أدوارا إيجابية مكملة لدور الدولة.

نقلا عن الحرة

 

آراء