السودان والموارد الناضبة (2)

 


 

 

 

يمتلك السودان عدداً من الموارد الطبيعية المتنوعة وغير المتجددة الموجودة في البيئة بقدر محدد. وتشمل تلك الموارد معادنا مختلفة تماثل تنوع وطبوغرافيا السودان من أراضٍ صحراوية وسلاسل تلال وأودية وجبال بركانية. وأفضى ذلك التنوع إلى تنوع المعادن الموجودة فيه مثل (الذهب والفضة والكروم والنحاس والحديد وغيرها) بنسب مختلفة. 

وبسبب خروج النفط من قائمة أهم موارد الدولة (عقب انفصال جنوب السودان)، ظهر الذهب في السودان كبديل أنسب لتغطية العجز في موارد الدولة الرئيسية، في ظل إدارة اقتصادها بالريع الواحد في غضون مختلف حقبها السياسية المتعاقبة، حيث لا يُشْرَع في استغلال مورد حتى ينضب الآخر.
وقد أثبتت العديد من الدراسات الموثقة أن هنالك شواهد علمية عديدة قد أكدت وجود الذهب بكميات مقدرة بمناطق السودان المختلفة في الشمال والشرق وجنوب كردفان وجنوب دارفور. ووفقا لنتائج المسوحات الجيولوجية فقد يمثل ما يختزنه السودان من الذهب أكبر احتياطيات قارة أفريقيا من هذا المعدن. غير أنه من الصعب تأكيد أرقام الإنتاج الإجمالية، لأن القطاع غير الرسمي يساهم بجزء كبير من صناعة الذهب بالبلاد، ويصعب حصر كمية ما ينتجه هذا القطاع.
ويتطلب منا الاهتمام بالموارد الطبيعية مثل المعادن معرفة عدد من العوامل التي تحكم هذا هذه المورد، التي تشمل تبعيتها الادارية والسياسات والتشريعات الحكومية الصادرة في شأنه، هذا بالإضافة إلى عوامل علمية أخرى مصاحبة مثل الكليات الجامعية والمؤسسات الفنية التي تقوم بتدريس الجيولوجيا والتعدين، وعدد المتخرجين منها، ومدى تأهيلهم لمقابلة سوق العمل في هذا المجال.
وبالنظر الى تاريخ التنقيب في السودان، نجد أنه كان قد بدأ في السودان عام 1905م من خلال المكتب الجيولوجي الذي كان تابعا لمصلحة التعليم. وتم في عام 1939م تكوين وحدة للمساحة الجيولوجية تابعة لمصلحة الأشغال العمومية. وفي عام 1953م تحولت تلك الوحدة إلى مصلحة مستقلة تتبع لوزارة الثروة المعدنية، ثم آلت تبعيتها بعد ذلك إلى وزارة الصناعة والتعدين. وتغير اسمها في عام 1976م إلى مصلحة الجيولوجيا والثروة المعدنية . وفي عام 1986م تحولت تلك المصلحة إلى الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية التابعة لوزارة الطاقة والتعدين. وفي مايو 2010م تم إلحاقها بوازرة المعادن. وكان العمل الجيولوجي في فترة ما قبل الاستقلال (عام 1956م) يركز على البحث عن المياه الجوفية فحسب. ولكن بعد نيل الاستقلال زاد عدد الجيولوجيين، ودخل العمل مراحل المسوحات الجيولوجية والتنقيب عن الثروات المعدنية إضافة إلى المياه الجوفية (المصدر: الموقع الرسمي لوزارة المعادن – الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية).
وقد يُلاحظ من خلال ذلك السرد التاريخي أن التعدين في السودان لم يكن يحظى بكثير من الاهتمام من قبل الدولة وحتى تاريخنا الحالي. وكان يتم إلحاقه دوما في كل حقبة سياسية بوزارة مختلفة عن الأخرى، حيث كان حينها لا يُعد موردا أو ريعاً أساسيا في مدخولات الدولة. كذلك أصبح القانون الذي يحكم التنقيب في السودان هو "قانون تنمية الثروة المعدنية والتعدين لسـنة 2007"، وهو يلغى قانون المناجم والمحاجر الذي كان قد صدر سنة 1972م. وعلى الرغم من دمج الوازرتين تحت مسمى (وزارة الطاقة والتعدين) الا أنه ظلت لكل واحدة من الوزارتين قوانينها ولوائحها المختلفة، وحتى اشتراطات الاستثمار فيها، إذ أن شريعات ثروة النفط محكومة بقانون النفط ( قانون الثروة النفطية لسنة 1998م، الذي ألغى قانون البترول لسنة 1931 - قانون الثروة البترولية لسنة 1972 وقانون الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية لسنة 1986).
كذلك تعددت خلال السنوات الماضية سياسات ولوائح الدولة (ممثلة في البنك المركزي) التي تنظم دخول القطاع الخاص للعمل في مجال تنقيب الذهب وعمليات شرائه وتصديره. وسمح آخر تعديل صدر خلال عام 2020م لأي شخص معنوي بتصدير الذهب بعد استيفاء كافة إجراءات وضوابط الصادر السارية. ويتم شراء كل حصيلة صادر ذهب التعدين الأهلي بواسطة المصارف بالسعر المتفق عليه لصالح وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي. كما يُسمح بتصدير ذهب التعدين الأهلي كخام أو بعد تصفيته اختياريا بمصفاة السودان للذهب.
وقد قام السودان بإنشاء مصفاة للذهب لاستخلاص منتجات معدن الذهب وفق المواصفات العالمية، بما يزيد من قيمته الاقتصادية عند التصدير بالإضافة إلى الاستفادة من المعادن المصاحبة له عند التعدين (الفضة والنحاس). وتلك المصفاة هي شراكة عامة بين وزارة المالية وبنك السودان المركزي ووزارة المعادن، وقد
اُفْتُتِحَتْ في عام 2012م. وبما أن الدولة تسمح للمواطنين بالتعدين الفردي (العشوائي)، كذلك تسمح المصفاة للمواطنين بالتعامل المباشرة عبر معمل تحليل المعادن لمعايرة العينات المختلفة التي ترد إليها من عملاء المصفاة ومدهم بتقرير مفصل عن محتوى الذهب في كل عينة، بالإضافة إلى خدمة دمغ الذهب بالتعاون مع الجهات المختصة في الدولة.
ولم تفلح كل تلك هذه الجهود وغيرها في جعل الذهب مورداً يحقق عائدا كبيرا في إيرادات الدولة، أو حتى يغطي العجز الذي أحدثه خروج النفط من الايرادات، وذلك يرجع لعدد من الأسباب منها أنه منذ اختيار معدن الذهب كبديل للنفط، لم يتم التخطيط له بصورة واضحة، وبدأت إدارته بعدد من القرارات التي ظلت تُغير بصورة متكررة. ولم تكن الدولة قادرة على تولي أمر استخراج الذهب بنفسها. لذا سمحت للمواطنين بالتنقيب العشوائي في محاولة لتقليل نسبة الفقر الذي تفشي بالبلاد، وتخلي الدولة عن واجباتها الأساسية في توفير الخدمات الاساسية لمواطنيها متعللة بانهيار موارد الدولة بسبب فقدان ثروة النفط بعد انفصال الجنوب. وبدأ المواطنون بالتنقيب الاهلي دون قيد أو شرط في محاولة لرفع المعاناة عن كاهلهم، وإيجاد وسيلة لتوفير مدخولات خاصة بهم. وبالفعل تحول بعضهم إلى أغنياء في فترة قصيرة. كذلك دفع التنقيب الاهلي في بعض الولايات السودانية بعض مواطني دول الجوار العربية والأفريقية للدخول عبر المنافذ المختلفة، بصورة شريعة أو غير شرعية، بغرض الحصول على ما أكبر قدر يمكن الحصول عليه من هذا الذهب. ولا يخفى أن الهجرة غير الشرعية قد تشكل أحيانا تهديدا أمنياً خطيرا على البلاد.
وبسبب ضعف مساهمة الدولة في تنمية قطاع التعدين، شرعت الدولة لاحقاً بتعويض ذلك باجتذاب مزيد من الاستثمارات ومنح تراخيص لعدد من الشركات الكبيرة. غير أن الشركات الاجنبية التي تأتي إلى السودان كانت تعاني في السابق من بعض العوائق المالية ، وترفض المصارف الخارجية بشكل دائم تمويل المشروعات في السودان لأسباب تتعلق بوضع السودان قائمة الدول الراعية للإرهاب. ومن المؤمل أن يتحسن الوضع عقب ازالة السودان من هذه القائمة.
وعليه يصبح على الدولة الآن تعديل إدارتها لهذا المورد الناضب باعتبار أن إدارة موارد الدولة من متطلبات الأمن القومي، وذلك بوقف التعدين العشوائي وضم المعدنين (الأفراد المرخص لهم) تحت مؤسسة حكومية تشرف عليهم، وتتولى الدولة مهامها في استخدام أو تصدير هذا المنتج، حيث أن الذهب يعتبر شأنا قوميا ملك لكافة المواطنين الحالين وللأجيال القادمة ويجب أن يستفيد منه الجميع بصور مختلفة. ، كذلك تساهم سيطرة الدولة على هذا المورد في الحد من الآثار السالبة الناتجة من التعدين الأهلي الذي لا يلتزم بالاشتراطات الصحية ويسبب آثارا مدمرة على البيئة وعلى السكان من حولهم، بتأمين حدود المساحات المسموح بالتنقيب فيها ومنع أي خروقات من قبل الوافدين الأجانب غير المرخص لهم بالعمل بالبلاد.
كذلك يظهر جليا ضعف إدارة الدولة لهذا المورد المهم جلياً في تضارب البيانات التي تصدر منها حول المنتج من الذهب والعائد منه لخزينة الدولة، حيث أفرز التنقيب العشوائي حركة تهريب نشطة خارج القنوات الرسمية تضر باقتصاد البلاد. و يتحتم على الدولة إقامة مؤسسات حقيقية حكومية تنشط في مجال تعدين الذهب وصناعته،على أن تتوفر فيها الشفافية والمحاسبة وتدار بواسطة خبراء ذوي اختصاص وخبرة. كذلك معالجة ضعف الاهتمام بكليات ذات الصلة بالمعادن من حيث ضيق إيجاد فرص الحصول على وظائف، إضافة لمشاكل أخرى تتمثل في التدريب.
وأخيرا، يجب تكثيف الجهود في اتجاه وضع الحلول العاجلة والجذرية تمهيدا لوضع بنية أساسية لإدارة ثروات المعادن المختلفة في السودان، مصحوبة بالصناعات الاساسية والتحويلية المختلفة للتعدين. كذلك ينبغي زيادة جهود الحكومة نحو التعاقد مع شركات جديدة لتطوير عمليات التنقيب عن الذهب والمعادن الأخرى المتوافرة في السودان بطريقة متوازية، خاصة وأنه لم تظهر نتائج عمل بعض الشركات العاملة مجال تعدين الذهب (وغيره من المعادن) في البلاد منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن.
وينبغي أيضا التحول نحو تصنيع المعادن، وإيقاف بيع المعادن على هيئة خام من دون معالجة، للحيلولة دون فقد استفادة الدولة للقيمة الحقيقية للذهب، حيث أن التوقعات الاقتصادية العالمية - في ظل الانكماش الاقتصادي العالمي الحالي - تشير إلى أن سوق الذهب هو الملاذ الآمن في أوقات الاضطرابات الاقتصادية، والذي يُعد مخزناً للقيمة للتحوط ضد ال أزمة المالية.


nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء