منذ تسعينيات القرن العشرين، وباسم حق تقرير المصير، بدأت بعض الشعوب، التي كانت تتعايش في وحدة سياسية واحدة، تتحلل من تلك الوحدة لتشكل دولاً مستقلة خاصة بها، مثلما حصل للاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والسودان. واليوم، لا تزال العديد من المجموعات، غض النظر عن كونها أقليات أو أغلبيات، ترفع شعار حق تقرير المصير تمهيدا لانفصالها، أو استقلالها، بعد أن تمكنت منها حالة الشعور بالاضطهاد والتهميش السياسي والاجتماعي والاثني والديني، غض النظر عن قناعة المجموعات الكبرى، أو القومية المسيطرة، بأنها فعلا تمارس هذا الاضطهاد والتهميش، مثلما هو الحال بالنسبة للصرب في جمهورية البوسنة والأكراد في العراق، وأيضا في السودان كما ورد في أدبيات بعض الحركات المعارضة في دارفور، ومؤخرا، كما ورد في إحدى خطابات القائد عبد العزيز الحلو، أحد أبرز قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال، مطالبا بحق تقرير المصير لشعب جبال النوبة. في آب/أغسطس1991، انشق ريك مشار ولام أكول عن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق، وأسسا الحركة الشعبية/مجموعة الناصر. وفي 1992، وقع د. علي الحاج، ممثلا لحكومة البشير آنذاك، ود. لام أكول، ممثلا لمجموعة الناصر، اتفاق فرانكفورت الذي نص على حق تقرير المصير لجنوب السودان. وفي 1993، نظم الكونغرس الأمريكي لقاء في واشنطن بهدف إعادة توحيد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكشرط لإعادة التوحيد، طلبت مجموعة الناصر من جون قرنق التخلي عن شعار السودان الجديد، وأن تحصر الحركة أهدافها في قضية الجنوب فقط. ومع أن المجموعتين لم تتوحدا، لكنهما اتفقتا على معارضتهما لنظام البشير، ولأي حكومة قادمة لا تحترم حق شعوب الجنوب وجبال النوبة والمناطق المهمشة في تقرير المصير. وهكذا برز شعار حق تقرير المصير على سطح الحياة السياسية السودانية ليحتل، منذ ذلك التاريخ، موقعا مفصليا في صياغة تطورات الأحداث في البلاد. لكن الشعار لم يلج السياسة السودانية لأول مرة في ذلك اللقاء. ففي مذكرتهم إلى الحاكم العام البريطاني، 1942، تقدمت القيادات السودانية في مؤتمر الخريجين بمطلب إعطاء السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير المصير. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عضوية مؤتمر الخريجين آنذاك لم تكن تضم خريجا من جنوب البلاد. وفي فترة لاحقة، نصت اتفاقية الحكم الذاتي على تقرير مصير شعب السودان بإجراء استفتاء حول استقلال السودان أو اتحاده مع مصر. لكن الحركة السياسية السودانية تجاوزت آلية الاستفتاء وأعلنت الاستقلال من داخل البرلمان المنتخب بموجب الاتفاقية. وصوّت النواب الجنوبيون في ذلك البرلمان مع إعلان الاستقلال بعد أن تعهدت لهم الحركة السياسية الشمالية بضمان أن ينال الجنوب في دولة السودان المستقلة وضعا فدراليا ينص عليه في الدستور الدائم، وهو ما لم يحدث في خرق واضح للعهود!!. اشتراط النواب الجنوبيين تحقيق الفدرالية لجنوب السودان، واندلاع شرارة الحرب الأهلية في الجنوب، آب/أغسطس 1955، كانا وجهين لقضية واحدة: نصيب الجنوب في السودان المستقل!. كان الحدثان بمثابة إنذار مبكر للحركة الوطنية السودانية، لكن مركز الاستقبال والاستجابة في دماغ الحركة كان معطلا وهي في نشوة الظفر باستقلال السودان. ما الذي أعمى بصيرة الحركة الوطنية آنذاك عن تكوين لجنة من النواب الجنوبيين والشماليين وأهل التخصص للبحث في أفضل صيغة للفدرالية تناسب ظروف السودان لتضمن في دستور الحكم الذاتي الانتقالي، حتى إذا ما حان وقت وضع الدستور الدائم، كانت الصيغة معدة كمشروع ارتضاه أهل الجنوب والشمال؟. تجدر الإشارة إلى أن الراحل حسن الطاهر زروق، النائب عن حزب الجبهة المعادية للاستعمار في البرلمان الأول، كان قد طرح، قبل إعلان الاستقلال، الحكم الذاتي كحل لمشكلة الجنوب. بعد انقلاب 1958، اتسعت رقعة الحرب الأهلية في الجنوب، وتعددت مواقع ومنابر الحركة السياسية الجنوبية في الدول الإفريقية المجاورة وبعض بلدان غرب أوروبا. ولامست من مواقعها تلك حركة التحرر الوطني الإفريقية، فتطورت برامجها السياسية وتعددت شعاراتها من حق تقرير المصير إلى الحكم الذاتي، إلى الفدرالية والكونفدرالية، وحتى الانفصال. وفي زخم ثورة أكتوبر، 1964، وآفاقها الرحبة في التوصل إلى حل سلمي لقضية الجنوب، شرعت حكومة أكتوبر في التحضير لمؤتمر المائدة المستديرة. وخلال التحضير تقدم حزبا سانو وجبهة الجنوب بمشروع ينادي بإجراء استفتاء في الجنوب لتقرير المصير بين الانفصال أو الفدرالية. توصيات المؤتمر كانت بمثابة الأسس التي استند إليها بيان 9 حزيران/يونيو 1969 الذي أصدرته حكومة النميري كإطار عام لحل المشكلة، واستكملتها باتفاقية أديس أبابا 1972 والتي بموجبها نال الجنوب الحكم الذاتي الإقليمي. ومنذ تلك الفترة اختفى شعار تقرير المصير. لكن المفارقة، أن الحركة السياسية الجنوبية راهنت على بقاء نميري في السلطة كضمان وحيد لاستمرار واستقرار الحكم الذاتي في الجنوب، في حين كانت الحركة السياسية الشمالية تعارض بشراسة دكتاتورية نميري. وما أن استطاع نميري تحقيق المصالحة مع بعض الأحزاب الشمالية المعارضة، حتى توهم أن ذلك سيغنيه عن عوامل الاستقرار التي وفرتها له اتفاقية أديس أبابا. فتنكر للاتفاقية، وقسَم الجنوب، الكيان الجغرافي القومي الموحد، إلى ثلاثة أقاليم، مؤججا الفتنة بين قبائله. ولحماية ما أقدم عليه، فرض النميري قوانين أيلول/سبتمبر 1983 الإسلامية ونصب نفسه إماما، كاشفا حقيقته كطاغية ينظر لقضية القوميات والجنوب بعقلية الجلابي في بزة المشير. وهكذا اندلعت الحرب الأهلية الثانية، والتي في غمارها تأسست الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق، وأصدرت المانفستو الذي دعا إلى سودان موحد على أسس جديدة، ولم يشر إلى تقرير المصير. وإذا كانت ندوة واشنطن تلك قد ابتدرت الغطاء الدولي لشعار حق تقرير المصير، فإن مبادرة الإيقاد وفرت له الغطاء الإقليمي حين نصت على «تقرير المصير لأهل جنوب السودان ليحددوا وضعهم المستقبلي عن طريق الاستفتاء».