الصحافة العربية والحركة الوطنية في السودان (1899- 1999م). عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
25 January, 2013
25 January, 2013
الطباعة في قرن: الصحافة العربية والحركة الوطنية في السودان (1899- 1999م)
A century in Print: Arabic Journalism and nationalism in Sudan, 1899 -1999
Heather J. Sharkey هيثر شاركي
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
************* **********
تقديم: هذا عرض وتلخيص مختصر لمقال من نحو 20 صفحة صدر في عام 1999م في "المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط " في عددها رقم 31 /4 للدكتورة هيثر شاركي عن تاريخ الصحافة الصادرة باللغة العربية في السودان بين عامي 1899 و1999م،. والمؤلفة حاصلة على درجة البكالوريوس في علم الانسان (الأنثروبولجي) من جامعة ييل الأميركية، ودرجتي الماجستير والدكتوراه من جامعتي درام البريطانية وبريستون الأميركية، على التوالي. تعمل الدكتورة شاركي الآن أستاذة مشاركة في قسم حضارات ولغات الشرق الأدنى في جامعة بنسلفانيا الأميركية ولها اهتمامات بحثية بشؤون الثقافة والسياسة والأديان والتداخلات بينها في مصر والسودان ودول أخرى. نشرت المؤلفة كتابها الأول في عام 2003م عن "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الانجليزي المصري"، وقد عرضنا لبعض أجزائه قبل سنوات. للتعرف على كامل سيرتها الذاتية يمكن الاطلاع على هذا الموقع
http://www.sas.upenn.edu/~hsharkey/Home.html
ضمنت الكاتبة مقالها 88 مرجعا في موضوع بحثها، مما يجعل هذا المقال مصدرا غنيا بالمصادر والمعلومات لمن أراد (أرادت) الاستزادة في هذا الموضوع. من أهم تلك المراجع كتاب محجوب محمد صالح عن الصحافة السودانية في نصف قرن: 1903 – 1953م، والذي نشرته دار نشر جامعة الخرطوم في عام 1971م، وكتاب حسن نجيلة الشهير "ملامح من المجتمع السوداني" ،وكتاب محمد عمر بشير "تطور التعليم في السودان" الصادر بالإنجليزية عام 1969م، وكتاب عبد القادر حسنين "تاريخ الصحافة في السودان بين 1899 -1919م" الصادر عن دار النهضة العربية عام 1967م، وكتاب محمد سيد أحمد الحسن "شخصيات صحفية عرفتها" الصادر في 1985م.. نذكر هنا أيضا أن لبروفيسور عبد الله حمدنا الله أطروحة للماجستير عن "المقال الصحفي" قيل أنها "أثارت جدلاً متعاظماً لجهة كونها انتهت إلى نتائج تخالف في بعض جوانبها بعضاً مما استقرَّ عند مؤرخي الصحافة السودانية من الوطنيين والأجانب."
__________ ____
أكملت الصحافة العربية في السودان في عام 1999م قرنا من الزمان، إذ أن حكومة العهد الثنائي (والذي سيطر البريطانيون فيه على مقاليد الأمور) قامت وبعد عام واحد فقط من هزيمتها للحكم المهدوي في السودان في عام 1898م بإصدار جريدة رسمية (Gazette) تصدر باللغتين العربية والانجليزية. وبعد أربعة سنوات من ذلك التاريخ أنشأ صحفيون لبنانيون أول صحيفة مستقلة في المنطقة موجهة أساسا للمصريين واللبنانيين العاملين في خدمة الحكومة السودانية الجديدة. أشعل وجود أولئك الأجانب من العرب حماس المتعلمين في شمال السودان، والذين بدأوا بعد صدور الصحيفة بسنوات قليلة في الكتابة لها والاشتراك فيها. غدت الصحافة بعد ذلك بوتقة للوطنية عند الشماليين المتعلمين الناطقين بالعربية، فصاروا – في البدء - يستوحون الهامهم من القصائد والمقالات المصرية التي يعاد نشرها في صحف السودان، ثم بدأوا يدخلون عبر مقالاتهم رسائل اجتماعية "عصرية" عن التعليم والتقانة والتقدم. ما لبثت النقاشات حول "الوطنية المصرية" أن تسللت إلى الصحف السودانية، مقرونة بما كان يدور من نقاشات مع الموظفين المصريين حول "الوطنية" في البلدان المستعمرة. بلغت تلك النقاشات ذروتها في أخريات العشرينات وبدايات الثلاثينات من القرن الماضي حين بزغت بصورة واضحة معالم الأدب والهوية الوطنية السودانية القائم على أسس عربية وإسلامية.
الصحافة والصحف بين 1820 – 1920م
غزا محمد علي باشا الجزء الشمالي من السودان (الحالي) وضمه إلى الامبراطورية المصرية- التركية في 1820م. وخلال سنواته الستين التي حكم فيها البلاد جلب مطبعة حجرية إلى الخرطوم لطباعة الدفاتر والوثائق الحكومية. صادر المهدي تلك المطبعة بعد انتصاره على الترك واستغل ما تبقى فيها من ورق في طباعة الراتب والمكاتبات الرسمية. لم تدخل للسودان أي مطبعة بعد ذلك حتى عام 1899م حين أحضر البريطانيون معهم مطبعة عربية متحركة متابعة للتقليد الذي سنه نابليون في مصر والأتراك في السودان، واستخدموها في طباعة القوانين والسياسات وكل الأمور البيروقراطية الأخرى من خلال الجريدة الرسمية التي بدأت في الصدور في عام 1899م واستمرت حتى نهاية عام 1989م.
دخلت بعد ذلك الصحافة التجارية للسودان عن طريقة ثلاثة لبنانين (هم فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين ماكراييس) كانوا قد مهدوا الطريق من قبل للصحافة العربية في لبنان ومصر، فأنشأوا "المقتطف" و"المقطم". ولما كانت "المقطم" في مصر تتبع سياسة تمالئ البريطانيين فقد وافق لورد كرومر (حاكم مصر الفعلي بين 1883 -1907م) على السماح لأصحابها بإصدار أول صحيفة في السودان في 28 سبتمبر من عام 1903م وكان اسمها "السودان". كانت تلك الصحيفة ذات الصفحات الأربع تصدر مرتين في الأسبوع، وتباع فقط للمشتركين الذين يدفع كل منهم اشتراكا سنويا يبلغ 60 قرشا، وتطبع على ورق بواسطة مطبعة متحركة تعمل بطاقة البخار حتى عام 1911م حين صارت المطبعة تعمل بالكهرباء. كانت الصحيفة تحصل على الأخبار العالمية من وكالة رويترز تلغرافيا من القاهرة، وعلى الأخبار المحلية من مندوبين لها في مختلف المصالح الحكومية، وكانت تنشر أحيانا مقالات سبق نشرها في "المقطم" أو تنشر مقالات إرشادية في مجالات الزراعة وتنشر أحيانا قصائد شعرية.
اعتمد توزيع "السوداني" على خدمات البريد والتي توسعت خلال سنوات الحكم الثنائي الأولى، وكذلك على وجود الطرق المعبدة والسكك الحديدية والبواخر. كانت تلك الصحيفة تنشر رسائل تزعم أنها من القراء بينما تعتقد الكاتبة أن بعضها رسائل مفبركة يكتبها محررو الصحيفة نفسها، وتنشر لبعض الموظفين مقالات بأسماء مستعارة إذ أن الحكومة كانت تحرم على الموظفين الكتابة في الصحف، ولكنها كانت تشجع تلك الصحيفة الأولى على اعتبارها وسيلة مهمة لنشر أخبار الحكومة، خاصة عندما قامت "السوداني" بإصدار صفحتها الرابعة باللغة الانجليزية، مما وسع من دائرة قرائها، وكافأت الحكومة أصحاب الصحيفة بمنحهم حق طباعة بعض المنشورات والتقارير السنوية الحكومية. لم تكن "السودان" لتستمر في الصدور لولا ذلك العون الحكومي السخي، وذلك لارتفاع تكلفة الاصدار وشح الدخل من الاشتراكات والتي كانت قليلة بسبب ارتفاع مستوى الأمية بالبلاد. الجدير بالذكر أن نسبة الأمية في السودان بين الذكور حتى عام 1939م كانت تفوق 99%، بينما بلغت تلك النسبة قرابة 100% وسط النساء، وأن مصففي الحروف في تلك الصحيفة الأولى كانوا من الأميين! تجنبت الصحيفة الإفلاس فيما أقبل من سنوات بفضل العقود التي أبرمتها الصحيفة مع المصالح الحكومية والإعلانات التي بدأت في الظهور في الصحيفة.
في عام 1908م انشأ رجال أعمال بريطانيون وأغاريق ولبنانيون وأرمن "غرفة الخرطوم التجارية"، وبعد عامين من ذلك أصدرت تلك الغرفة مجلة شهرية (صارت سنوية فيما بعد) اسموها "مجلة الغرفة التجارية السودانية" باللغتين العربية والانجليزية، وكانت تختص فقط بأخبار المال والأعمال والسلع والمحاصيل كالسمسم والصمغ العربي في السودان، ولم تكن تنشر أي مقالات، ولم تبدأ في نشر "افتتاحيات" إلا في الثلاثينات. أنشأ رجال الأعمال السودانيون في عام 1911م غرفة تجارية موازية لتلك التي أنشأها الأجانب في السودان، وأصدروا – وبصورة متقطعة- نشرة اعلامية بالعربية عن غرفتهم، قبل أن ينضموا للغرفة التجارية الأقدم في البلاد. ثم صدرت في عام 1928م صحيفة اسمها "التجارة السودانية" تهتم أساسا بأمور التجارة والمال عند القطاع التجاري السوداني. سرعان ما توقفت تلك المطبوعة وبعد عامين (1930م) صدرت مطبوعة أشمل هي "مجلة الغرفة التجارية السودان" وازدادت أعداد المشتركين فيها مع زيادة أعداد رجال الأعمال السودانيين وازدهار تجارتهم.
أنشأ تاجران إغريقيان مطبعة تجارية ثانية في السودان اسماها "مطبعة فيكتوريا" لطباعة صحيفة باللغتين الإغريقية والإنجليزية صدرت في عام 1911م باسم "The Sudan Herald"، وأتبعوها بعد عامين بصحيفة عربية كانت تنشر الأخبار والتعليقات وأخبار الأدب والأدباء وصدرت في 4/ 1/ 1913م باسم "رائد السودان". وضمانا لتوزيع عال، خفضت الصحيفة قيمة الاشتراك إلى النصف للعلماء والمدرسين والطلاب والعمد (أيضا) فصار الاشتراك 25 قرشا سنويا. كان الإقبال على تلك الصحيفة كبيرا نسبة لنشرها ما تجود به قرائح السودانيين من قصائد شعرية، ولتنظيمها مسابقات وجوائز لشعراء أفضل القصائد، وكما ذكر حسن نجيلة في كتابه الشهير "ملامح من المجتمع السوداني" كان واحدا من تلك المسابقات عن تشطير قصيدة شوقي بمناسبة هبوط أول طائرة تركية يقودها مسلم في القاهرة عام 1914م (والتي قال فيها: "يا أدرميدُ ألا طيري مبلغةً *** رسائل الشوق من عمروٍ إلى عمرِ") وقصائد شعراء آخرين مثل محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم. كانت تلك الصحيفة تنشر أيضا مقالات لسودانيين يكتبون عن البعث الحضاري الإسلامي، وعن محاربة الخرافات والعادات "غير الإسلامية" والضارة (مثل الختان الفرعوني) وعن عروبة السودان. وبعد عشرين عاما ظلت نفس هذه المواضيع تشغل بال القراء (مثل ما نشره في عام 1931م أحدهم في صحيفة "النهضة" تحت اسم "ابن السودان" من مقالات عن شرب الخمر (المريسة تحديدا!) والميسر والشلوخ والختان الفرعوني والمشاط (لا تزال الصحف تكتب وإلى يومنا هذا عن مضار ختان البنات!!!).
غضب حكام السودان من البريطانيين على الصحافي اللبناني عبد الرحمن قليلاتي محرر"رائد السودان" وطردوه من البلاد لنشره مقالا في عام 1913م عن المجاعة التي ضربت البلاد واضطرت السلطات لاستيراد الذرة من الهند، فكتب مقالا عنوانه بيت الشعر المشهور: " تموت الأسد في الغابات جوعا ولحم الضأن تأكله الكلاب" وفهم البريطانيون أنه يقصدهم نسبة لحياتهم المرفهة التي لم تتأثر سلبا بالمجاعة. بعدها أغلقت تلك الصحيفة أبوابها. كان ذلك أول مثال لتغول السلطات على حرية الصحافة السودانية، وأوضح ذلك المثال ضرورة محافظة الصحف السودانية على "علاقة طيبة" بالسلطات الحاكمة لضمان استمرارية صدورها (وهو أمر ما زال ساريا حتى يومنا هذا... فتأمل!).
قبل إغلاق "رائد السودان" بقليل انضم لها حفيد الإمام المهدي حسين شريف (1888 – 1928م) كأول صحافي سوداني. كان حسين شريفا محبا للصحافة شغوفا بها، إذ كتب في عام 1911م (ودون التعريف باسمه كاملا) خطابا إلى محرر "السودان" طالب فيه بصدور صحيفة تحتفي بأعمال الكتاب والشعراء السودانيين، وظل يردد بأن بلدا بلا صحافة مثل قلب ليس له لسان، وأتبع القول بالعمل فأصدر صحيفة أسبوعية اسماها "حضارة السودان" في 1919م (قيل أن ملاكها الأوائل هم عبد الرحمن المهدي ومحمد الخليفة شريف وعثمان صالح وعبد الرحمن جميل وحسن أبو، ثم انتقلت ملكيتها بعد عام إلى السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والشريف حسين الهندي)، وكتب عن "الخدمة الوطنية الجليلة" التي ستقدمها تلك الصحيفة عبر تركيزها على القضايا الاجتماعية وتطوير المجتمع والتعليم وغير ذلك. ساهمت تلك الصحيفة في حشد الجهد الشعبي لإكمال جامع أمدرمان الكبير وإدخال صنابير المياه النظيفة للبيوت في أمدرمان وإنشاء جمعيات خيرية لفتح مدارس أهلية ولمساعدة الطلاب المعوزين. نجحت حملة "حضارة السودان" في جمع ما يلزم من مال لبناء وافتتاح المدرسة الأهلية الأولى في أمدرمان في 1926م، وكان لذلك الحدث أهمية كبرى في حينه لازدياد شغف الآباء بتعليم أبنائهم تعليما اكاديميا "عصريا" وليس تعليما حرفيا (ولا يزال هذا هو ديدن الآباء والأمهات حتى الآن!).
عانت "حضارة السودان" من مصاعب مالية كادت تؤدي لإغلاقها في عام 1924م لولا منحة مشروطة من الحكومة أنقذتها من وهدتها المالية، ولكنها افقدتها استقلالها عن الحكومة، وظل السيد عبد الرحمن (وهو ثالث ثلاثة من ملاك الصحيفة) هو المهمين على سياسة الصحيفة وتوجهاتها، وهو من جعل الصحيفة تنادي بشعار حزب الأمة (والأنصار) الرافض للاتحاد مع مصر والمنادي بأن يكون "السودان للسودانيين".، وهذا مما حبب تلك الصحيفة للبريطانيين أيضا. لعل ذلك مما اشعل جذوة الصراع بين الطوائف المنافسة مثل طائفة الختمية، خاصة بعد قيام الأحزاب السياسية في 1938م. بحسب ما ذكره البروفيسور حمدنا الله عبد الله في مقابلة مع "أوراق جديدة" في 3/11/2011م فإن شعار "السودان للسودانيين" أسبق تاريخيا من شعار "الوحدة مع مصر" حيث أنه قد ورد في مقالة لمحمود القباني في عام 1903م بعنوان: " السودان للسودانيين لا للشيخ شاكر وصهره"!
سنوات الرقابة 1919 – 1924م:
لم يصدر في السودان قانون للصحافة حتى عام 1930م، بيد أنه كانت هنالك نظم ولوائح صارمة (تستند على الأحكام العرفية السائدة في البلاد منذ "استعادة السودان") تقضي بضرورة انصياع الصحف لرقابة قسم المباحث. وبعد الحرب العالمية الأولى ازدادت الرقابة على الصحف السودانية تشددا بعد ازدياد المشاعر الوطنية المعادية للاستعمار في مصر، والتي كان البريطانيون يخشون من تأثيرها على الصحافة السودانية وعلى السودانيين. لما كانت اللغة العربية تقف عائقا أمامهم، فقد نصبوا بعض المسيحيين اللبنانيين كرقباء على الصحف، ليس فقط بسبب اجادتهم للعربية، بل لحيادهم التام تجاه ثقافة أهل مصر والسودان.
شهد عام 1919م مظاهرات وصدامات في مصر ضد المستعمر البريطاني، واغتيل السير استاك في مصر عام 1924م، وأدت الصراعات التي حدثت في البلاد بين عامي 1919 – 1924م لإيقاف صحيفة "السودان" المملوكة لرجل لبناني. في المقابل سلمت "حضارة السودان" من الايقاف بسبب وقوفها إلى جانب البريطانيين (وضد المصريين) في أحداث عام 1924م، إذ وقع مناصرو بريطانيا من السودانيين على بيانات نشرتها "حضارة السودان" تحض على تأييد بريطانيا مع مصر، فكافأتها الحكومة بإسقاط ديونها المتراكمة، وابتاعت لها مطبعة، ووعدتها بعون سنوي منتظم يغطي كل خسائرها.
كانت سنوات 1924 – 1930م عصيبة على الصحافة السودانية، إذ شددت عليها الرقابة، وظلت المطبوعات المصرية المعادية لبريطانيا مثل "البلاغ" و"السياسة" تجتذب أعدادا كبيرة من متعلمي شمال السودان مما دعا الإدارة البريطانية للتشدد في دخولها البلاد، بل وحظر تداولها بالكلية في كلية غوردون التذكارية.
الدعوة لأدب "سوداني":
لعل مساعد المأمورحمزة الملك طمبل (1897 -1951م) كان أول من فكر في الدعوة لأدب سوداني الهوية. فقد نشر ذلك الأديب عدة مقالات في "حضارة السودان" في عام 1927م نبه فيها إلى ضرورة وجود "أدب عربي سوداني"، وحض رفاقه من الكتاب والشعراء على تناول موضوعات "سودانية" في منتوجهم الأدبي. ولد الداعي ل "سودنة" الأدب العربي في السودان، للغرابة، في أسوان بمصر لعائلة أصلها في أرقو، ونشأ وهو يتحدث بالنوبية وليس بالعربية. لذا فإن طمبل يجسد بحق حالة "السيولة" التي اعترت الهويتين "السودانية" و"المصرية" في ذلك الوقت، خاصة بين العائلات التي كانت تعيش حول الحدود بين الدولتين.
أغضبت الدعوة ل"سودنة" الأدب بعض المتحمسين للعربية الذين يحسبون أنفسهم "عربا" وليسوا "سودانيين"، فكلمة "سوداني" في تلك السنوات كانت لها ظلالا سالبة تشير إلى أصل جنوبي أو مسترق. كان للمعترضين على دعوة طمبل أيضا رأيا سالبا يتعلق بدعوته لسودنة الأدب في وقت كانت المطالبة بالاتحاد مع مصر عالية الصوت والتأثير.
النهضة والفجر والوطنية "السودانية":
في عام 1930م أعلنت الحكومة عن أول قانون للصحافة في السودان ينظم توريد وبيع وتوزيع المطبوعات في البلاد، ويشترط على الناشرين الحصول على الحصول على تصريح للصحيفة ولمن سيعمل فيها من المحررين، وأن يقدم نسخة من كل عدد يصدر من الصحيفة ليراجع في قسم المخابرات، وأن يدفع ضمانة "أمنية"، ويقدم معلومات عن من يكتب في الصحيفة إن طلب منه ذلك.
ظهرت في بداية الثلاثينات صحيفتان هما "النهضة" لصاحبها محمد عباس أبو الريش (وهذه لم تعمر سوى عامين من 1931 -1932م) و"الفجر" والتي ظهرت بصورة متقطعة بين 1934 – 1937م وكان رئيس تحريرها عرفات محمد عبدالله. كان المحرران من شباب خريجي كلية غوردون، وتوفي الأول عن 27 عاما والثاني عن 39 عاما، وعزت المؤلفة (ربما دون دليل) وفاتهما المبكرة لما بذلا من جهد خارق وعمل شاق في اصدار الصحافة لا بد أنه أضر بصحتهما.
أدخلت الصحيفتان أبوابا جديدة لم تكن معهودة في الصحافة السودانية وقتها مثل نشر قصص ومسرحيات قصيرة ومقالات نقدية، كلها تعبر عن روح وطنية سودانية جديدة، خاصة وأن غالب قراء الصحيفتين كانوا من الموظفين السودانيين من خريجي المدارس الحكومية الذين حلوا محل الشوام والمصريين الذين طردوا بعد حوادث 1924م. نشرت الصحيفتان أيضا مقالات طبية وعلمية عديدة، وأخرى اجتماعية عن الزواج والمرأة وحقوقها وواجباتها.
من أشهر من كتاب "النهضة" و"الفجر" المهندس والمحامي والشاعر والسياسي محمد أحمد المحجوب (1905 – 1976م)، والذي كتب عدة مقالات تدعو لتقوية العصبية للوطن وللغة والثقافة العربية (والشعر القومي)، و(إعادة) كتابة تاريخ السودان وتلقينه للناشئة من شباب السودان. كان هنالك أيضا كاتب مغمور أرسل من كادقلي لصحيفة "النهضة" في عام 1931م قصة غرامية قصيرة تدور أحداثها في فرنسا، بينما نشر طالب في كلية غوردون قصة عن عائلات ارستقراطية تدور أحداثها في الإسكندرية. نبه عرفات محمد عبد الله من يرسل له أعمالا للنشر بأن يتوخى الواقعية المحلية، خاصة في الأمور العاطفية بين الرجل والمرأة، وأتبع النصح بالعمل، فنشر هو قصة قصيرة من أعماله بعنوان "المأمور" عن موظف كبير متزوج من قريبة له اتخذ لنفسه زوجة حبشية ثانية رغم حب وإخلاص زوجته السودانية له.
ظهور الصحافة اليومية بين عامي 1935 – 1945م:
ظهرت في عام 1935م صحيفة منافسة لصحيفة "الفجر" الأسبوعية هي الصحيفة اليومية "النيل" والتي استحوذ السيد عبد الرحمن المهدي على غالب أسهمها، وبالتالي غدت هي صوت "المهدية الجديدة". يعتقد بعض المؤرخين أن فكرة إصدار صحيفة النيل لم تأت من السيد عبد الرحمن بل أتت من رجل أعمال وصحفي مصري اسمه حسن صبحي (وقد ذكرت المؤلفة لهذه المعلومة مرجعا واحدا باسم واحد هو بابكر مؤلف كتاب "الصحافة والسياسة في السودان دون ذكر سنة الإصدار، ولعله دكتور يوسف عمر بابكر، أستاذي في المدرسة الثانوية، والذي قدم رسالته للدكتوراه من جامعة أدنبرا عام 1979م عن "حركة "الفجر" وموقعها في الأدب السوداني الحديث"). عندما طلب حسن صبحي من الحكومة السماح له بإصدار "النيل" اختارت له الحكومة مجموعة من رجال الأعمال كملاك للصحيفة منهم أغريقي وبريطاني ومصري وأضافت لهم السيد عبد الرحمن المهدي. ترأس حسن صبحي تحرير تلك الصحيفة لعدة أعوام نجح خلالها من التقليل من تأثير مد "المهدية الجديدة" فيما ينشر فيها. وفيما أقبل من سنوات غدت "النيل" صحيفة شعبية تطبع ما يزيد على 2500 نسخة (ولم يكن ذلك مألوفا في تلك الأيام، علما بأن الصحيفتين الأقدم "الفجر" و"حضارة السودان" لم تكونا توزعان أكثر من 1500- 1700 نسخة بين عامي 1935و 1938م). رغم توزيعها العالي فقد تعرضت "النيل" لمصاعب مالية جمة تجاوزتها بفضل العون المالي السخي الذي كانت تتلقاه من السيد عبد الرحمن المهدي ومن إعلانات الحكومة ومنحها المجانية أيضا.
ومع عقد الاتفاقية بين بريطانيا ومصر في عام 1936م وقيام مؤتمر الخريجين بعد عامين من ذلك، وبدء تكوين الأحزاب في عام 1943م، نشط كتاب الصحف وصحيفتي "النيل" و"صوت السودان" على وجه الخصوص في الخوض في الصراعات الطائفية والكتابة السياسية بعد أن تمايزت صفوف دعاة "المهدية الجديدة" المنادين بشعار "السودان للسودانيين" من صفوف الختمية ومن يناصرهم الذين كانوا يدعون للوحدة مع مصر. وفي عام 1943م أنشأ السيد عبد الرحمن صحيفة "السودان الجديد" برئاسة الصحفي (المهدوي الهوى رغم عشقه لمصر وأدبها) أحمد يوسف هاشم، وبعد عام من ذلك أنشأ ذات السيد صحيفة "الأمة" لسان حال حزب الأمة لمجابهة "صوت السودان" صحيفة الختمية التي أنشأها وظل يمولها السيد علي الميرغني منذ عام 1940م.
ظهرت في عام 1939م صحف "محايدة" منها صحيفة "المؤتمر" الصحيفة الشهرية (والأسبوعية فيما بعد) حاولت النأي بنفسها عن الصراعات الطائفية، ودعت للمصالحة الوطنية. لم يعجب ذلك كثير من القراء الذين كانوا يؤثرون المقالات المثيرة والحماسية في تأييد أو معارضة هذه الطائفة أو تلك، فلم يقبل الناس كثيرا على صحيفة "المؤتمر" حتى أدارت ظهرها للحياد وساندت الاتحاديين من "الأشقاء". بيد أن هنالك من الصحف من التزم جانب الحياد ونجح في الاحتفاظ بعدد معقول من القراء. من تلك الصحف كانت الأبرز الصحيفة الإقليمية "كردفان" (التي كانت تهتم بأخبار كردفان ودارفور) وصحيفة "الرأي العام" لمحررها المحاسب الغردوني إسماعيل العتباني (والتي لا أزال أذكر وصف محمد يحي عبد القادر له في كتاب قديم له عن "شخصيات السودان" صدر قبل نحو نصف قرن أو يزيد بأن كتاباته: "لا تغضب ولا تعجب"!). كانت للعتباني محاولات صحفية في بداية الثلاثينات عندما نشر في "النهضة" مقالا عن "صوت الشباب"، ثم عمل رئيسا لتحرير "صوت السودان" بين عامي 1941 – 1944م. أنشأ العتباني صحيفته المستقلة– بحسب ما ورد في مقابلة له مع الكاتبة في عام 1995م- بعون شعبي من المتعلمين السودانيين حيث دفع بعضهم اشتراكات عدة سنوات مقدما، بينما تبرع بعضهم بالعمل مجانا في الصحيفة كمحررين ومحاسبين، وجاد عليه تاجر كبير – لم يسمه- بمكتب للصحيفة.
تطور الصحافة بين عامي 1945 – 1999م:
بدأ المهتمون بالتعليم في السودان في أربعينات القرن الماضي يدركون أهمية المطبوعات الصحفية كوسيلة تعليمية. وقبل ذلك كان اساتذة وطلاب كلية غوردون قد بدأوا في عام 1933م في إصدار مجلة أدبية تسمى "مجلة كلية غوردون". وبعد عقد من الزمان أنشأت مصلحة المعارف مكتبا للنشر لتركيز التعليم ومواصلته عند من هجروا مقاعد الدراسة باكرا. أصدر ذلك المكتب المجلة الشهيرة "الصبيان" والتي كانت تباع في المدارس والمكتبات وأكشاك الصحف والمجلات. كانت لتلك المجلة صفحات للقصص والرسومات الملونة والفكاهة (مثل "عمّك تنقو"، وليس "عم تنقو" كما ذكرت المؤلفة) وأيضا صفحتين مخصصتين للبنات عن أمور الطبخ والخياطة. وبحسب ما جاء في كتاب قريفث الصادر في عام 1953م الموسوم : "تجربة في التعليم" بلغ من شغف الصغار والكبار بشخصية "عمّك تنقو" أنه عندما أبرزت المجلة في أحد الأعداد أنه توفى، انهمرت عليها قصائد الرثاء من كثير من القراء ومنهم شاعر شهير. بلغ توزيع "الصبيان" في الخمسينات 20000 نسخة، بينما لم يتعد توزيع صحف كبرى مثل "الرأي العام" و"صوت السودان" و"السودان الجديد" حتى عام 1956م 4000 نسخة لكل صحيفة. يذكر أن نسبة الأمية في ذلك العام كان قد انخفض إلى 77% عند الذكور و94% عند الإناث (بينما كانت نسبة الأمية في السودان حتى عام 1939م كما ذكرنا آنفا بين الذكور تفوق 99%، بينما بلغت تلك النسبة قرابة 100% وسط النساء) وهذا ما زاد من توزيع المطبوعات وسط السكان العاديين (وليس المثقفين فقط). وبحلول عام 1967م كانت هنالك العديد من المجلات المتخصصة في مواضيع مختلفة مثل الرياضة والدين وشؤون المرأة والشباب وغير ذلك (لسبب ما أغفلت الكاتبة ظهور مجلة "بنت الوادي" في عام 1946م، و"صوت المرأة" في عام 1955م، ثم مجلتي "القافلة" و"المنار" في العام 1956م، و"حواء الجديدة" في عام 1969م و"المرأة الجديدة" في عام 1974م و"نساء السودان" في عام 1974م. لمزيد من المعلومات عن الصحافة النسائية السودانية يمكن الرجوع إلى كتاب "الصحافة النسائية في السودان" لبخيتة أمين).
مثل ظهور الإذاعة السودانية (راديو امدرمان) في عام 1940م والتلفزيون في عام 1963م عنصر منافسة قوية للصحافة المقروءة في السودان، وترك أثرا سالبا – كما حدث في أقطار العالم المختلفة- على شعبيتها عند كافة السكان خاصة بين الأميين، علما بأن نسبة الأمية في السودان عام 1995م بحسب إحصائيات منظمة اليونسكو بلغت أكثر من 42% بين الذكور وأكثر من 65% وسط الإناث.
تعرضت الصحافة السودانية لتغيرات عديدة مع تغير الأنظمة الحاكمة، خاصة في ظل الأنظمة العسكرية الديكتاتورية بين عامي 1958 – 1964م، و1969 – 1985م و1989م إلى الآن. فعلي سبيل المثال عطل النظام العسكري الأول بقيادة إبراهيم عبود صحيفة "النيل" (أول صحيفة سودانية يومية) لنقدها سياسة الحكومة، وأمم النظام العسكري الثاني بقيادة جعفر نميري الصحف كلها في عام 1970م. انتعشت سوق الصحف بعد الانتفاضة في عام 1985م فظهرت نصف درزينة من الصحف الجديدة دفعة واحدة. وبعد الانقلاب العسكري بقيادة عمر البشير في 1989م عادت الرقابة المشددة على الصحف مرة أخرى (وهي بحسب رأي المؤلفة تشابه الرقابة المشددة التي فرضها البريطانيون في بداية حكمهم الاستعماري للبلاد) وبقيت في البلاد خمس صحف سياسية فقط حتى عام 1995م. عبر التربوي المخضرم سر الختم الخليفة (ورئيس وزراء السودان في أول حكومة ديمقراطية بعد سقوط نظام عبود) في مقابلة له مع الكاتبة في عام 1995م عن حزنه وأسفه على اختفاء مجلات الأطفال التي كانت خير معين في القضاء على الأمية في الخمسينات وما بعدها.
اختتمت الكاتبة مقالها بالقول إن الصحافة السودانية اجتذب في العهد الاستعماري خير متعلمي السودان من كتاب وأدباء وأكاديميين وشعراء، وعملوا في الصحافة كمتفرغين، أو عملوا في الصحافة كهواة بينما ظلوا يمارسون أعمالهم الأصلية الأخرى. لعبت الصحافة السودانية دورا مهما في تنمية الوعي والشعور الوطني عند قطاع كبير من السودانيين رغم ارتفاع نسبة الأمية في البلاد. قسمت الكاتبة مراحل تطور الصحافة السودانية لأربعة أقسام:
1. من عام 1903- 1919م حين بدأ أغاريق وبريطانيين ولبنانيين ومصريين في انشاء صحف موجهة أساسا للجاليات الأجنبية في السودان ولقلة قليلة من متعلمي السودان مثل "السودان" و"مجلة الغرفة التجارية" وغيرهما.
2. من عام 1919 – 1935م غذت الصحافة السودانية في هذه الفترة (مثل "حضارة السودان" و"النهضة" و"الفجر") مبادئ الوطنية السودانية في أوساط شباب ومتعلمي السودان، وشجعت النشر في مجالات الأدب "السوداني" بضروبه المختلفة.
3. من عام 1935 – 1956م انتعشت في هذه الفترة الصحف السودانية اليومية على حساب المجلات الأدبية، وانتعشت فيها أيضا كثير من الصراعات السياسية والطائفية.
4. بعد عام 1956م دخلت الصحافة السودانية مرحلة ما بعد الاستقلال. وفي هذه المرحلة مارست كل الأنظمة "الوطنية" (خاصة العسكرية منها) ذات الرقابة والتضييق الذي مارسه الحكم الاستعماري. تعتقد الكاتبة أنه ورغم انخفاض معدلات الأمية وازدياد اعداد القراء، إلا أن معدل الانتشار الجغرافي للمطبوعات قد تضائل جدا. فبينما كانت المجلات في العشرينات تصل إلى القراء في أبعد الأماكن في البلاد، لم تعد الصحف في السبعينات وبعدها تغادر الخرطوم، ربما لزيادة نسبة عدد السكان في العاصمة مقارنة مع سكان السودان على وجه العموم، أو لضعف وسائل الترحيل والاتصال (لا يخفى خطل هذا التفسير الأخير!).
قربت الصحافة المكتوبة السودان من العالم العربي، خاصة وأن مؤسسيي الصحافة السودانية كانوا من المصريين والسوريين واللبنانيين، والذين أدخلوا وغذوا فكرة "النهضة" في أذهان السودانيين، وجعلوا من اللغة العربية لغة وطنية/ قومية في سائر أنحاء البلاد ولعل هذا ما أثار حفيظة غير المتحدثين بالعربية من غير العرب وغير المسلمين (لم تتطرق الكاتبة إلى أن العربية هي اللغة المشتركة/ المتداولة الآن في جنوب السودان حتى بعد انفصاله عن السودان الشمالي!).
رغم أن مقال دكتورة شاركي يعد تلخيصا جيدا لمسيرة الصحافة السودانية في قرن من الزمان إلا أن الجزء الذي تناولت فيه الكاتبة تطور الصحافة بين عامي 1945 – 1999م جاء في نظري المتواضع ضعيفا جدا ومختصرا اختصارا مخلا، فتلك كانت أخصب سنوات الصحافة السودانية، ولا يجوز المرور عليها بتلك الخفة. كذلك لم تخصص الكاتبة - للغرابة- كبير عناية لتاريخ الصحافة النسوية السودانية، والحديث عنها ذو شجون، ويرتبط بالسياسة السودانية ارتباطا عضويا وثيقا.
يتضح من مقال الدكتورة أن تاريخ الصحافة السودانية ما زال مجالا خصبا لمزيد من الدراسات، خاصة في مجال الصحافة المتخصصة كصاحفة المرأة، أو تلك المرتبطة بالأحزاب والحياة السودانية، مثل "تاريخ الصحافة الاسلامية السودانية" أو "تاريخ الصحافة اليسارية في السودان" وغير ذلك من الموضوعات المتخصصة التي تنتظر البحث والتأليف.
****** *************** ******************* *********************
الشكر موصول للكاتبة لمدي بنسخة من مقالها. كاتب المقال
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]