العرب وأمريكا: انطباعات عن مؤتمر الدوحة (2)

 


 

 


كما هو الحال في مثل هذه المؤتمرات فقد كان المدخل لتناول الأوجه المختلفة للعلاقات العربية الأمريكية نظرة عامة للأمر ركزت بصورة أساسية على الجوانب الفكرية والتاريخية في المسيرة الطويلة للعلاقات بين الجانبين. كانت نقطة الانطلاق في هذا المسار الحديث عن العلاقات منذ مطلع القرن الماضي وحتى الحرب العالمية الثانية ، وقد كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال تلك الفترة لا زالت تعيش تداعيات "العزلة المجيدة". وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الرأي العام العربي ينظر لهذا المارد الجديد في ذلك الوقت باعتباره "قوة خيِّرة بعيدة" كما يقول السيد ريتشارد ميرفي في ورقته ، وهو سفير أمريكي ومساعد سابق لوزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى عمل في عدد من الدول العربية. وقد كان هذا الاحساس العربي وراء الترحيب بالموقف الأمريكي الداعم لاستقلال الأقاليم العربية عن الامبراطورية العثمانية. إلا أن المعروف هو أن المصالح البريطانية والفرنسية كانت هي الغالبة في مؤتمر فرساي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى فوقعت معظم هذه الأقاليم تحت وصاية البلدين مستبدلة سيدها القديم بسيد جديد ، وقد كان موقف الولايات المتحدة في ذلك الوقت هو القبول بالأمر الواقع.
تحولت الأمور بصورة درامية بعد الحرب العالمية الثانية عندما برز إلى الوجود نظام القطبين الكبيرين والحرب الباردة بينهما ، وجدت الولايات المتحدة نفسها في المعسكر المناهض لتطلعات الشعوب المستعمرة بالرغم مما احتواه ميثاق الأطلنطي من مبادئ سامية حول حق الشعوب في تقرير مصائرها. في ظل الصراع بين التوجهات الفكرية المتعارضة للمعسكرين كانت الولايات المتحدة بالرغم من بعض محاولاتها النادرة كما حدث في أندونيسيا مثلاً تقف إلى الجانب الذي تمثله القوى الاستعمارية وبعضها خاضت الحرب العالمية الثانية إلى جانب الولايات المتحدة وأصبحت من الأعضاء البارزين فيما عرف بالمعسكر الغربي خلال الحرب الباردة. وبالرغم من موقف الحكومة الأمريكية الايجابي من أزمة السويس في عام 1956 والذي كان وراء انسحاب قوى العدوان الثلاثي من القناة ، إلا أن اعترافها بدولة اسرائيل قبل ذلك والوقوف القوي إلى جانبها ظل يمثل شوكة غائرة في خاصرة العلاقات العربية الأمريكية. تمحورت الفلسفة الأمريكية للتعامل مع الأوضاع في الشرق الأوسط عندئذٍ حول ما عرف بمبدأ أيزنهاور الذي كان يهدف أساساً لمحاربة النفوذ الشيوعي في المنطقة ، وقد كان الرئيس أيزنهاور بحكم خلفيته العسكرية ومشاركته في الحرب العالمية الثانية لا يفرق بين الشيوعية والتطلعات الشرعية للشعوب في سعيها نحو الإطاحة بالأنظمة الاستعمارية التي أقامتها الدول الأروبية في معظم أنحاء العالم الثالث. ولعل عملية الاطاحة بنظام الدكتور محمد مصدق في إيران والتي نفذتها المخابرات الأمريكية في إيران كانت من الأحداث التي عكست موقف الولايات المتحدة تجاه المنطقة ككل. ويرى الكثير من المراقبين أن الموقف الأمريكي إلى جانب القوى الاستعمارية في المنطقة كان وراء ميلاد ما عرف باسم "العالم الثالث" ككتلة دولية رافضة للسياسة الأمريكية. وقد كان من الطبيعي أن تسعى الدعاية السوفيتية نحو استغلال هذه الحقائق في محاولتها لتوسيع الرتق في العلاقات الأمريكية مع الدول العربية والعالم الثالث ككل.
بالرغم من التباين الكبير في التوجهات الفكرية لحركات التحرير في العالم الثالث ومن بينها تلك التي ظهرت في العالم العربي ، إلا أن الموقف الأمريكي المناهض في مجمله لهذه الحركات والدعم السوفيتي لها في حربه الباردة ضد الولايات المتحدة أدى إلى بروز قيادات وطنية في العالم الثالث من أمثال سوكارنو وعبد الناصر ونهرو وجدت نفسها وبدرجات متباينة على الجانب المناوئ للولايات المتحدة. أدى ذلك كما هو متوقع لوجود معسكرين متنافرين داخل العالم العربي فيما يتعلق بمسألة العلاقات مع الولايات المتحدة ، مما جعل الحكومة الأمريكية تصنف قيادات من أمثال الرئيس عبد الناصر في خانة الأعداء. ولعل نظرة لخطاب التكليف الذي تلقاه أول سفير أمريكي بالخرطوم في عام 1956 من وزير الخارجية عندئذٍ جون فوستر دالاس ، ومحضر اجتماع نائب الرئيس الأمريكي ريتشارد نكسون مع رئيس الوزراء عبد الله خليل عند زيارة الأول للخرطوم في عام 1957 يؤكدان هذه الحقيقة. كانت الحكومة الأمريكية كما تشير هذه الوثائق تعمل من أجل إبعاد السودان عن التأثير الناصري ،لإيمانها بأن ذلك يعني تغلغل النفوذ السوفيتي في الخرطوم ، مما يمثل "انتكاسة خطيرة" للسياسة الأمريكية في القارة الأفريقية على حد قول وزير الخارجية دالاس.
برزت خلال مؤتمر الدوحة العديد من القضايا المهمة التي تنعكس على العلاقات بين الطرفين مثل النفط ، وثورات الربيع العربي ، والقضية الفلسطينية ، والأوضاع في العراق. ولعل الحديث عن النفط تركز بصورة كبيرة على ما عرف بثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة والذي تأمل الحكومة الأمريكية أن ينقل البلاد في سنوات قليلة من خانة الدول المستوردة للنفط إلى خانة الدول المصدرة لهذه المادة الحيوية. ولا شك ان نقلة كهذه ستساهم بصورة كبيرة في ارتفاع واضح في أهمية مكونات القوة الأمريكية وبالتالي على الأوضاع الدولية عامة بما في ذلك الشرق الأوسط. ولا شك أن تقليل اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط سينعكس بصورة سالبة على المكانة التي ظلت تحتلها المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة. ورغم أن البعض ما زال يشكك في احتمال استغناء الحكومة الأمريكية عن نفط الشرق الأوسط إلا أن التطورات في المجال التقني تشكل صداعاً بالنسبة لصانع القرار في الكثير من الدول العربية المنتجة للنفظ ، خاصة وأن التقنية الجديدة قد تستغل لتحقيق الاكتفاء الذاتي بواسطة دول أخرى ظلت حتى الآن تعتمد بصورة كبيرة على نفط الشرق الأوسط.     
كان من الطبيعي أن يستحوذ موقف الحكومة الأمريكية من أحداث الربيع العربي وما تبعها من تطورات على جانب مقدر من النقاش خلال جلسات المؤتمر.  ومع أن جلستين فقط من جلسات المؤتمر ارتبطت بصورة مباشرة بالموضوع وهما الجلستان الأولى والثانية لليوم الثاني ، إلا أن الموضوع كان يثار بواسطة الحضور الكثيف في الكثير من جلسات المؤتمر. ولعل الاتجاه العام كان يشير بوضوح إلى خيبة أمل واضحة من الموقف الأمريكي حيال الديمقراطية في الوطن العربي بصفة عامة ، فبالرغم من  الحديث المتواتر عن الأمر من جانب السياسيين والإعلام في الولايات المتحدة إلا أن الإحساس العام هو أن الحكومة في واشنطن تفضل التعامل مع الأنظمة المتسلطة. وفي عدد من اللقاءات الجانبية التي أتيحت لنا خلال فترة انعقاد فإن الكثير ممن تحدثنا معهم يرون أن الموقف الأمريكي يضر بموقف الديمقراطية كنظام للحكم في الشرق الأوسط. تناولت الجلسة الأولى لليوم الثاني المقاربات الأمريكية تجاه ثورات الربيع العربي بينما تناولت الجلسة الثانية حالتي كل من تونس ومصر من منطلق السياسة الأمريكية تجاه  التحول الديمقراطي في العالم العربي ، وقد كان أهم ما برز خلال الجلستين هو أن الحكومة الأمريكية تغلب مصالحها الأمنية والاقتصادية على مبادئها السياسية.
كان المؤتمر فرصة طيبة لتلاقح الأفكالا والآراء بين المفكرين العرب ورصفائهم من الجانب الأمريكي حول هذه العلاقة المهمة ، ولا شك أن التوقيت كان مناسباً خاصة وأن المنطقة تشهد تحولات سياسية بالغة الأهمية تلعب فيها الحكومة الأمريكية دوراً كبيراً ، حتى إن البعض كانوا يتحدثون عن إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة برمتها. ويحمد للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تنظيم هذا المؤتمر بالصورة التي جعلت التواصل بين الطرفين ميسوراً ، وإن كان من ملاحظة عليه فإن ضيق الوقت المحدد له جعل من الصعب إتاحة الفرصة للمزيد من التداول وتبادل الآراء حول عدد من القضايا المهمة بالصورة التي تقود إلى نتائج نهائية ، وهي المهمة التي نتوقع أن تقوم بها إدارة المركز عند إعداد تقريرها الختامي حول مداولات المؤتمر.
mahjoub.basha@gmail.com

 

آراء