العلاقة بين عملية صناعة الدستور ومضامين الدستور
اهداء:
الى رو ح المرحومة الدكتورة آمنة رحمة
التي كلفتني بكتابة هذه الورقة لمجلة جمعية بابكر بدري
قبيل مغادرتها للأردن حيث انتقلت روحها الى بارئها،
تقبلها الله بواسع رحمته.
مقدمة
ان صناعة الدستور لم تجد الاهتمام الذي تستحق في مراحل كتابة كل الدساتيرالسبعة السابقة في السودان (1953،56،64،73،85،98،2005) ناهيك عن العلاقة بين عملية صناعة الدستور ومضامين الدستور، بل حتى الدستور نفسه لم يجد في الماضي الاهتمام الشعبي الذي يستحق باستثناء دستور 2005م الذي انبثق من اتفاقية السلام الشامل 2005م وذلك لان الدساتير الأخرى بما فيها هذا الدستور كتبت بواسطة نخب سياسية وقانونية محدودة وراء الدهاليز المغلقة.
تحاول هذه الورقة أن تحلل العلاقة بين عملية صناعة الدستور ومضامين الدستور الذي يحقق السلام الدائم وحقوق الانسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحكم الراشد والتنمية المستدامة والمتوازنة.
في عام 2011 بدأ اهتمام منظمات المجتمع المدني بصناعة الدستور. ففي مارس 2011 عقدت حوالي 40 منظمة من منظمات المجتمع المدني السودانية تحالفا أو شبكة سميت بالمبادرة السودانية لصناعة الدستور كما بدأت مبادرة مركز الأيام لصناعة الدستور وتبعتها مبادرة المعهد الاقليمي لدراسات الجندر والتنوع والسلام والحقوق بجامعة الأحفاد للبنات. هذا بجانب مبادرات أخرى عديدة لم تظهر على الساحة السياسية والفكرية السودانية بوضوح لانها غابت عنها المشاركة والشفافية أو تجسدت فيها جهود نخبة محدودة فلم تنشر مداولاتها في اصدارات للرأي العام ولذلك تقتصر هذه الورقة على تناول المبادرات الثلاث سابقة الذكر التى تولي مبادئ عملية صناعة الدستور الأساسية اهتمامها وهي: المشاركة والشفافية والشمول والتوافق والملكية الشعبية للدستور وذلك لتحقيق كتابة دستور يؤسس للديمقراطية والحوار المستمر والاجماع الوطني والارادة الوطنية الشاملة فيكون الدستور أداة لحل كل الصراعات ببلد افتقدت الديمقراطية لسنوات طويلة وعاشت في ظل حكم شمولي تهيمن فيه مجموعة محدودة تمنع الحوار والمشاركة وحرية التعبير والمصالحة والوفاق الوطني والسلام المستدام. وهذا ما يؤكد عليه الأستاذ محجوب محمد صالح في احدى اصدارات مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية حين يكتب عن فوائد مبادرة صناعة الدستور التي تقوم على المبادئ المذكورة أعلاه فيقول: أما فوائد هذه المبادرة هي توعية المواطنين بمفهوم الحكم الدستوري وبالدستور نفسه وضرورة الالتفاف حوله والتمسك به والدفاع عنه مما يوطد للديمقراطية وترسيخ مبدأ الحوار بديلا للمواجهات المسلحة والمشاركة في قضايا الحكم وهي في حد ذاتها تمرين في التربية الوطنية.
هذه هي الأهداف من هذه المبادرات الثلاث وليس كتابة الدستور نفسه وهذا النهج يؤكد أن عملية صناعة الدستور على هذه الأسس لا تقل أهمية عن مضامين الدستوربل أن عملية صناعة الدستور هذه تنعكس ايجابا على أهداف ومضامين الدستور من حكم راشد وديمقراطية وسلام دائم وتنمية شاملة ومتوازنة وعدالة اجتماعية.
وبالرغم من أن القبول الذي وجدته هذه المبادرات والمشاركة الفعالة فيها في كل أقاليم السودان الا أن هناك أصواتا قد ارتفعت من المعارضة السياسية ترى أن عملية صناعة الدستور التي تقوم على مبادئ: الشمول والمشاركة والشفافية والتوافق وملكية الشعب للدستور لا يمكن أن تتم الا في ظل حكم ديمقراطي وسلام مستدام فالحروب ما زالت مستمرة في مناطق عديدة من البلاد فيعبرون عن ذلك بشعار مقتضب: السلام أولا والديمقراطية أولا ثم صناعة الدستورولذلك ترى بعض دوائر المعارضة ضرورة اسقاط النظام الحالي كما يرى آخرون في هذه الدوائر ضرورة الاتفاق على حكومة قومية ومرحلة انتقالية جديدة تتم خلالها مناقشة ووكتابة الدستور بينما يرى الحزب الحاكم ألا يربط بين الدستور ونظام الحكم القائم ولذلك قاطعت المعارضة اللجنة التي أعلنت الحكومة عن تكوينها بحسبانها لجنة حكومية تفتقر للقومية والشمول والتوافق والشفافية والمشاركة الشاملة.
ويرى أصحاب المبادرات أن هذه المبادرات لا تلغي مطلب السلام والديمقراطية بل ترى أن هذه المبادرات عامل من عوامل تحقيق الديمقراطية والسلام وذلك لسعيها للتوافق على مبادئ صناعة الدستور وتثقيف الشعب بأهمية هذه المبادرئ وهي أساس لصناعة السلام الدائم والديمقراطية المستدامة والجدير بالذكر أن بعض دوائر النظام اعترضت على ومنعت بعض مناشط هذه المبادرات مما يدل على أهميتها في تحقيق السلام والديمقراطية والمشاركة.
قدمت هذه المبادرات وثيقتين هما:
وثيقة المبادئ الدستورية وخارطة طريق عملية صناعة الدستورالتي يتم التوافق عليها في قانون يحدد خطوات ومراحل صناعة الدستور، يوضحها الأستاذ محجوب محمد صالح كالآتي:
- تكوين هيئة مستقلة يتم التوافق على عضويتها لتنال ثقة الجميع. مهمة هذه الهيئة أن تدير الحوار وتجمع وترصد كل الأفكار والآراء والمقترحات التي يطرحها المواطنون.
- تستعين الهيئة بفريق فني لحصر وتحليل وتصنيف الأفكار التي تم التعبير عنها خلال الحوار الحر والديمقراطي وتضعها في نتائج بمسح اجتماعي سياسي لمجمل الأفكار التي جاءت في الحوار.
- تحول هذه النتائج الى لجنة قومية تتولى صياغتها كمسودة أولية للدستور مستعينة بخبراء دستوريين لتطرح في مناقشة عامة تحت اشراف الهيئة الأولى.
- تقدم هذه المسودة بعد مناقشتها الى جمعية تأسيسية تنتخب خصيصا كجهاز تأسيسي لاجازة هذه المسودة.
- نعرض المسودة على استفتاء عام يشارك فيه كل المواطنين.
يحدد القانون المقترح هذه المراحل وتكوين هذه اللجان والجداول الزمنية لكل مرحلة.
ومن أهم المضامين التي تشرحها هذه المبادرات : القيم والمبادئ الموجهة الدستورية وهي بمثابة مظلة لبقية المضامين والتي تتمحور حول العلاقات الآتية:
1- علاقة مكونات الدولة ببعضها البعض واختصاصها ومسئولياتها. وهذا جانب تركز عليه الدساتير التقليدية وعلاقة هذه المكونات تجسد نظام الحكم ( رئاسي/برلماني) وشكل الدولة (مركز/ لا مركزية: فدرالية..اقليمية..الخ)
2- علاقة الدولة بالمواطنين التي تحكمها وثيقة الحقوق وهي أهم جزء في الدساتير الحديثة.
3- علاقة المواطنين ببعضهم البعض التي تتضمنها وثيقة الحقوق كذلك.
4- علاقة الدولة بالدول الأخرى والمنظمات الدولية والاقليمية.
ان مبادرات صناعة الدستور توظف وسائل مختلفة في مناشطها مثل المحاضرات العامة والندوات والدورات التدريبية والمقالات الصحفية واستطلاعات الرأي والاصدارات والملصقات والأفلام والأقراص المدمجة.
ان هذه المبادرات توسع أفق المواطنين وتملكهم الثقافة الدستورية وتؤهلهم للمقارنة بين برامج الأحزاب السياسية فتجد الأحزاب نفسها أمام تحد المام المواطنين بأساسيات الدستور والقدرة على التمييز بين برامج الأحزاب المختلفة.
وفي هذه الورقة لابد من الاشارة الى خصائص المبادرات الثلاث للتعرف عليها بدقة.
أ- المبادرة السودانية لصناعة الدستور:
تركز هذه المبادرة على التعريف بمبادئ صناعة الدستور الخمسة: المشاركة والشفافية والشمول والتوافق والملكية الشعبية للدستور. وبما ان هذه المبادرة تقوم على شراكة وشبكة وتحالف بين العشرات من منظمات المجتمع المدني فقد اهتمت ونجحت بالانتشار في كل مناطق السودان وذلك بتكوين نقاط ارتكاز لها في الأقاليم المختلفة وتدريب المدربين الذين ينطلقون من هذه النقاط لتدريب المواطنين في محيطها الواسع لذلك بدأت المبادرة تنتشر بتوعية المواطنين بالتدريب في صناعة الدستور ومضامينه.
كما تركز هذه المبادرةعلى الاعلام وخاصة الصحافة المقروءة بنشر صفحة متخصصة في عدد من الصحف واسعة الانتشار واتاحة الفرص لاعضاء المبادرة والمواطنين عامة لنشر آرائهم ورؤاهم حول الدستور في هذه الصفحات.
ب- مبادرة مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية:
انتهجت مبادرة مركز الأيام في مرحلتها الأولى نهجا ركز على مضامين الدستور وذلك بتقديم أوراق رصينة عميقة بأقلام شخصيات علمية متخصصة ومعروفة فصارت هذه الأوراقمادة أساسية في التثقيف الدستوري. وأهم خصائص هذه المبادرة هي شرح القضايا الخلافيةفي التنوير الدستوري. وأهم هذه القضايا الخلاقية حسب ما جاء في سلسلة اصدارات لهذه المبادرة بعنوان دراسات حول الدستور هي:
- نظام الحكم: رئاسي، برلماني، مختلط. كيف يكون رأس الدولة فردا أم مجلسا.
- علاقة الدين بالدولة: هل تكون الشريعة هي المصدر الأساسي والوحيد للدستور والتشريع أم يهتدي التشريع فقط بالمصلحة العامة ومبادئ العدالة الاجتماعية والمقاصد الكلية الواردة في القرآن الكريم والسنة ورأي ثالث لا يرى مبررا للنص على مصادر التشريع في الدستور لان المسلمين هم أغلبية في الدولة وسيكونون أغلبية في الهيئة التشريعية.
- شكل الدولة: حكم مركزي أم لا مركزي فدرالي يقوم على الولايات أم لامركزي يقوم على نظام الأقاليم الكبيرة لتفادي القبلية. ويجب أن يراعى في هذا النظام الفدرالية المالية على مستويات الحكم المختلفة التي يجب الاتفاق عليها وعلى أهميتها ومخصصاتها ووظائفها.
- حقوق الانسان: الاتفاق على الضوابط التي تضمن تطبيق وثيقة حقوق الانسان لتفادي انتهاكات وثيقة الحقوق كما هو في الدستور الحالي ودور المحكمة الدستورية ومواصفاتها واختصاصاتها التي تؤدي لاستقلالها وحيويتها. ثم مدى تقيد الدولة والمحاكم بالاتفاقيات الدولية والاقليمي. ووضع المرأة والفئات الأخرى مثل الشباب في الدستور والتقيد بالاتفاقيات الدولية في هذا الصدد.
- الاصلاح الأمني: قومية ومهنية هذه الأجهزة واختصاصاتها ومنهج الحصانة لهذه الأجهزة.
- قضية الأراضي وحيازتها والانتفاع بها والتضارب بين تقاليد الملكية والحيازة العرفية من ناحية وبين القوانين من ناحية أخرى خاصة والأرض من أهم أسباب النزاعات القبلية والمجتمعية الدموية.
ومن هذه المرحلة الأولى ستنطلق مبادرة مركز الأيام الى مرحلة الانتشار وذلك بالتدريب المكثّف للمدربين في جميع أقاليم السودان على مبادئ صناعة الدستور ومضامين الدستور الأساسية.
ج- مبادرة المعهد الاقليمي لدراسات الجندر والتنوع والسلام والحقوق بجامعة الأحفاد للبنات
من الأهداف الأساسية لهذا المعهد تمكين المرأة في المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك ينظم المعهد دورات تدريبية وكورسات وينشر اصدارات في هذا المجال وامتد هذا التوجه في عمل المعهد الى الى التثقيف الدستوري. يتميز عمل المعهد في هذا المجال باصدارات عديدة وعميقة وأهمها: "سلسلة اصدارات الدستور في حياتنا" التي جاء فيها الكتاب الرابع عن المرأة والدستور في السودان. من الواضح في عمل المعهد الدستوري التوجه الأكاديمي ممثلا في تعاون المعهد مع الجامعات في مناشطه الولائية ومن الواضح أيضا أن المعهد اهتم بمضامين الدستور بأعمال عميقة باقلام متخصصين في هذه المضامين. لقد صارت اصدارات هذا المعهد متاحة للمشاركين في أنشطة مبادراته ولغيرهم من المهتمين بالقضايا الدستورية.
انتهجت مبادرة جامعة الأحفاد في مداولاتها نهج مجموعات العمل بعد المحاضرات حول مضامين الدستور وذلك لتحقيق تفاعل المشاركين ولاستخلاص توصيات حول القضايا الدستورية المختلفة.
نخلص من تجربة هذا المبادرات الثلاث الى نتائج عديدة نلخصها في الآتي:
- نجحت هذه المبادرات في اشراك أعداد كبيرة من الشباب والنساء في مناشطها وفي تنظيم هذه المناشط وبذلك أحدثت حراكا سياسيا واسعا وعميقا شمل الشباب والنساء واسهم في تفجير طاقات كانت معطلة.
- انتجت هذه المبادرات ثروة تثقيفية ضخمة في مجالات القانون والسياسة لعامة الناس في بلد تشح فيه الاصدارت التثقيفية الرصينة والموجهة لشرايح المجتمع المختلفة.
- ان المشاركة الواسعة في هذه المبادرات ستكون عاملا هاما في الحماية الشعبية للدستور بعد وضعه.
- ان خروج هذه المبادرات باصداراتها الى خارج الخرطوم بوضعها في مكتبات الجامعات الولائية والأندية الثقافية وخاصة الشبابية في المدن المختلفة سيساهم في تحقيق مبادئ عملية صناعة الدستور من شمول ومشاركة وشفافية وملكية شعبية للدستور.
- مما يدعموا للاعجاب أن هذه المبادرات كانت تنسق تنسيقا دقيقا بين مناشطها لذلك لم تقعدها أي منافسات مضرة بل أن شخصيات مهمة وفاعلة كانت وما زالت مشتركة بين هذه المبادرات مما رسخ لفهم مشترك في عملية صناعة الدستور وهذا سيمهد للتنسيق في عملية صناعة الدستور الفعلية في المستقبل.
- يمكن القول أن بعض المرجعيات التي قامت بكتابة مسودات دساتير وراء الدهاليز المغلقة دون مشاركة وشفافية وشمول لم تفلح في تقديم هذه المسودات للعامة بسبب أثر هذه المبادرات والمبادرات الأخرى التي انتهجت نهج المشاركة الشعبية والشفافية والشمول وذلك لأن أثر هذه المبادرات ملأ الساحة بتحريك جموع الشباب والنساء في العاصمة والولايات.
أن نتائج هذه المبادرات تؤكد على العلاقة الدقيقة بين صناعة الدستور ومبادئه وهي : المشاركة والشفافية والشمول والتوافق وملكية الشعب للدستور.
كما تؤكد على أنه في حالة توفر هذه المبادئ في صناعة الدستور فانها ستنعكس ايجابا على مضامين الدستور الذي يحقق الحكم الراشد والديمقراطية والمشاركة والتنمية المستدامة والمتوازنة والعدالة الاجتماعية. كما يجب أن نؤكد على أن هذه المبادرات لا تلغي المطالبة بالسلام والديمقراطية لتحقيق البيئة السياسية اللازمة والملائمة لكتابة الدستور المبتغى.