الغائب المفتقد
عمر العمر
31 October, 2022
31 October, 2022
مالم يصعد الجيل (راكب رأسه) إلى الكابينة السياسية لن يتمكن الشعب من صناعة ذلك الغد المأمول .فالقوى السياسية شظايا وحطام تاريخ غير زاهٍ. ذلك جانب من مشهد الإحباط القاتم .مما يزيد المشهد احباطا غياب القيادات المؤهلة لتجاوز نثار الشظايا والحطام . مفصل المحنة ليس في انعدام الوعي .ذلك ربما يكون تشخيصًا قاسيا يجافي الموضوعية .لكن الجزم بافتقاد أصحاب الكاريزما والشجاعة الذكية يعري عظم المحنة وعصب الوهن .الوثيقة المعنونة (الإعلان السياسي )ثم تشكيلة مجلس السيادة يختزلان ضعف كل المتصدرين للمشهد السياسي فجر الثورة. عوز في التفكير ،ادقاع في الخيال تناسلت عنهما كل رزايا وبلايا المرحلة الانتقالية .فلنتصور فقط كم هو مفيد وجود تشكيلة جوهرية ذات طابع يليق بمجلس السيادة آنذاك!
******
تحت عاصفة حماس الثورة ارتضينا خلاصات مفاوضين انتزعوا حقوق التفاوض دون الحصول على تفويض شرعي فارهقوا المرحلة بأثقال عرقلت تقدم الثورة وأرهقت كاهل الشعب . من هناك بدأت سحب الإخفاق والإحباط تتراكم وتتسع .
من فرط البؤس يرفض البعض التفاوض لمّا أمسى أحد الخيارات ذات الكلفة الأدنى بغية الخروج من نفق المرحلة الملبّد بالأزمات . تلك الشظايا والقيادات وجلت عن التفاوض ليس عن قناعة بل عن خوف من أشلاء وحطام مماثل. تحت حمى الخوف من التخوين صار التفاوض خيانة والحوار صار جريمه !! كلاهما أسلوبان يفرضان نفسيهما خيارات عقلانية حتى إبان الحروب !فالإشتباك مع عدو في حوار تستوجبه موازين القوى غالبا . تقييم حصادالعملية التفاوضية يتم وفق نتائج المكاسب والخسائر على الارض .
******
نحن في حالة أشبه بالركض في المكان ذاته. فطوال السنة الانقلابية ما من طرف يحرز تقدما على أي مسار. وراء ذلك غياب القيادة ذات البصيرة النافذة المعززة بالحكمة الراكزة على الخبرة والكلمة المسقاة بالرأي والشجاعة المشرّبة بالقدرة .مفصل أزمتنا التاريخية يتمثل في غياب قيادة حزبية أو فردية تتأبط مشروعا وطنيا. ذلك فراغ ظل شاغرا منذ رحيل محمد احمد المهدي. فحركة اللواء الأبيض رغم دورها في إنعاش الحس الوطني وإيقاظ الوعي القومي السوداني وغرس بذور حركة التقدم السياسي انطوت على كثير من انعكاسات مؤثرات داخلية وخارجية غلّب عليها رد الفعل دون فعل بلورة مشروع وطني . ممارسة الركض في المكان يكاد يفقد الشعب ثقته ليس فقط في الخروج من المأزق المأزوم الراهن بل اكثر من ذلك الأمل في إمكانية رسم مشروع وطني لبناء مستقبل
******
رغم ذلك ربما يرجّح الدارس المدقق في الظروف التاريخية دور اللواء الأبيض على أداء مؤتمر الخريجين في كتابة مشروع وطني .المؤتمر كرّس باكورة انشغالاته بالقضايا الاجتماعية . على نقيض اللواء الأبيض انتكس رواد المؤتمر إلى الطائفية حينما انشغلوا بالهم السياسي.هم عندما فعلوا ذلك حقنوا جسمنا السياسي بفيروسات الانقسامات والتشظي.بتلك الفعلة بدأت مناعتنا السياسية في الوهن حتى فقدنا القدرة على التماس والوحدة. جوهرة المؤتمر السياسية اليتيمة هي المذكرة الصادرة في العام ١٩٤٢. رغم انها لا ترقى الى مصاف مشروع وطني إلا ان قيمتها تكمن في كونها قداحة النضال بين النخبة السودانية والإدارة الاستعمارية. فالمذكرة انطوت على ١٣ مطلبا وطنيا عاما.الإدارة البريطانية لم تكتف برفضها بل هددت بحجب اعترافها بالمؤتمر .لكن المؤسف مقابلة قيادة المؤتمر بانشطاره كتلتين.تلك بداية التوغل في التشظي الوطني.
******
لئن أضحت انتفاضة اكتوبر المعلم الأبرز في تاريخنا المعاصر بعد مؤتمر الخريجين كما يشير استاذنا الراحل منصور خالد .إلا أن إنتاج اكتوبر الفكري أدنى مضمونا من مذكرة الخريجين .فميثاق الثورة المتغنى به لم يعبر عما جاشت به صدور الثوار فخرج أقصر رؤى وأخف مضمونا .هو أشبه ببرنامج عمل ذي سبعة محاور تمت صياغته على عجل يلامس مشاعر الجماهير ولا ينفذ إلى طموحاتها.مع ذلك غرقت نخب الساسة في الفجوة بين الفكر والممارسة فانزلقت مضامين الإنتفاضة وغاياتها إلى لجة الخصومات والمكايدات الحزبية. لكن ينبغي منح كل ذي حق حقه .فكما شكل مؤتمر الخريجين بداية الصدام بين النخب والسلطة فإن اكتوبر استهلت بجسارة محاولات الشارع تكسير الأُطر السياسية التقليدية .
******
بما أن مايو لم تكن عهدا واحدًا بل أربعة مايوات كما أبان منصور خالد فلم يكن لها مشروع وطني موحّد .بل ارتجلت كل فترة منها بابطالها ونجومها نسختها الخاصة بها في كتاب البراغماتية المايوي. ربما تسبب ذلك في إطالة أمد نظام النميري لكنه راكم ما أفضى لانفجار الغضب الشعبي على نحو اطاح بالنظام في١٩٨٥ على نحو باغت النميري وأركان حقبه الأربع .
******
بالفعل نظم حسن الترابي انقلابا متأبطاً مشروعاً للحكم تحت مظلة الإسلام السياسي.هو بذلك أسدل ستارا حديديا على التنوع والتسامح . هما من أخص ملامح المجتمع السوداني وسمات ثقافته. الترابي نفسه يعترف (بسقوط النظام من الدرج الصاعد نحو الرشد والتقوى والحكمة إلى مدارك هوى الطغيان والظلم والاستبداد). فالمشروع الترابي تآءكل من الداخل أولا من قبل المفتونين بشهوة السلطة و استباحة المال العام . ثم تحول الى مشروع استهدف تدمير البنى التحتية ومشاريع التنمية ونهب الموارد. التعليم فقد فعاليته وأهليته درجا للترقي إلى آفاق المعرفة وهرم المجتمع.نظام الإنقاذ قوامه(عساكر وحرامية )مجردون من الحد الأدنى من الاستقامة الأخلاقية والوطنية فأصبح الترابي هو نفسه أحد ضحاياهم.
******
واقعنا الراهن ليس غير بقايا كل ما مضى.فيه ملامحنا لكنه لايشبه حتما طموحاتنا وربما قدراتنا كذلك.أكبر التحديات الماثلة تتجسد في كيفية استرداد النخب ثقة الشعب . بل ربما استرداد الشعب ثقته في نفسه. فكل سوداني بات يردد بلسانه أولسان حاله قول شاعره :
كل شيء غلا في سوقه ثمناً
إلا ابن آدم أضحى بلا ثمن
هناك فجوة عميقة بقدر ماهي واسعة بين الجيل (راكب رأسه ) والقوى السياسية .هو لايرى نفسه في النخب الحاكمة والمعارضة . كذلك هو غير قادر على الصعود الى الكابينة السياسية. هناك فجوة مماثلة بين النخب إذ يفترسها الخوف من بعضها البعض في غياب الكاريزما الغالبة.الثابت بالتجربة التاريخية أن الشعب ربما يصيبه التعب لكنه لايخطئ الطريق الحاكم هو من يتنكب الصواب وينزلق إلى الجريمة .
******
aloomar@gmail.com
******
تحت عاصفة حماس الثورة ارتضينا خلاصات مفاوضين انتزعوا حقوق التفاوض دون الحصول على تفويض شرعي فارهقوا المرحلة بأثقال عرقلت تقدم الثورة وأرهقت كاهل الشعب . من هناك بدأت سحب الإخفاق والإحباط تتراكم وتتسع .
من فرط البؤس يرفض البعض التفاوض لمّا أمسى أحد الخيارات ذات الكلفة الأدنى بغية الخروج من نفق المرحلة الملبّد بالأزمات . تلك الشظايا والقيادات وجلت عن التفاوض ليس عن قناعة بل عن خوف من أشلاء وحطام مماثل. تحت حمى الخوف من التخوين صار التفاوض خيانة والحوار صار جريمه !! كلاهما أسلوبان يفرضان نفسيهما خيارات عقلانية حتى إبان الحروب !فالإشتباك مع عدو في حوار تستوجبه موازين القوى غالبا . تقييم حصادالعملية التفاوضية يتم وفق نتائج المكاسب والخسائر على الارض .
******
نحن في حالة أشبه بالركض في المكان ذاته. فطوال السنة الانقلابية ما من طرف يحرز تقدما على أي مسار. وراء ذلك غياب القيادة ذات البصيرة النافذة المعززة بالحكمة الراكزة على الخبرة والكلمة المسقاة بالرأي والشجاعة المشرّبة بالقدرة .مفصل أزمتنا التاريخية يتمثل في غياب قيادة حزبية أو فردية تتأبط مشروعا وطنيا. ذلك فراغ ظل شاغرا منذ رحيل محمد احمد المهدي. فحركة اللواء الأبيض رغم دورها في إنعاش الحس الوطني وإيقاظ الوعي القومي السوداني وغرس بذور حركة التقدم السياسي انطوت على كثير من انعكاسات مؤثرات داخلية وخارجية غلّب عليها رد الفعل دون فعل بلورة مشروع وطني . ممارسة الركض في المكان يكاد يفقد الشعب ثقته ليس فقط في الخروج من المأزق المأزوم الراهن بل اكثر من ذلك الأمل في إمكانية رسم مشروع وطني لبناء مستقبل
******
رغم ذلك ربما يرجّح الدارس المدقق في الظروف التاريخية دور اللواء الأبيض على أداء مؤتمر الخريجين في كتابة مشروع وطني .المؤتمر كرّس باكورة انشغالاته بالقضايا الاجتماعية . على نقيض اللواء الأبيض انتكس رواد المؤتمر إلى الطائفية حينما انشغلوا بالهم السياسي.هم عندما فعلوا ذلك حقنوا جسمنا السياسي بفيروسات الانقسامات والتشظي.بتلك الفعلة بدأت مناعتنا السياسية في الوهن حتى فقدنا القدرة على التماس والوحدة. جوهرة المؤتمر السياسية اليتيمة هي المذكرة الصادرة في العام ١٩٤٢. رغم انها لا ترقى الى مصاف مشروع وطني إلا ان قيمتها تكمن في كونها قداحة النضال بين النخبة السودانية والإدارة الاستعمارية. فالمذكرة انطوت على ١٣ مطلبا وطنيا عاما.الإدارة البريطانية لم تكتف برفضها بل هددت بحجب اعترافها بالمؤتمر .لكن المؤسف مقابلة قيادة المؤتمر بانشطاره كتلتين.تلك بداية التوغل في التشظي الوطني.
******
لئن أضحت انتفاضة اكتوبر المعلم الأبرز في تاريخنا المعاصر بعد مؤتمر الخريجين كما يشير استاذنا الراحل منصور خالد .إلا أن إنتاج اكتوبر الفكري أدنى مضمونا من مذكرة الخريجين .فميثاق الثورة المتغنى به لم يعبر عما جاشت به صدور الثوار فخرج أقصر رؤى وأخف مضمونا .هو أشبه ببرنامج عمل ذي سبعة محاور تمت صياغته على عجل يلامس مشاعر الجماهير ولا ينفذ إلى طموحاتها.مع ذلك غرقت نخب الساسة في الفجوة بين الفكر والممارسة فانزلقت مضامين الإنتفاضة وغاياتها إلى لجة الخصومات والمكايدات الحزبية. لكن ينبغي منح كل ذي حق حقه .فكما شكل مؤتمر الخريجين بداية الصدام بين النخب والسلطة فإن اكتوبر استهلت بجسارة محاولات الشارع تكسير الأُطر السياسية التقليدية .
******
بما أن مايو لم تكن عهدا واحدًا بل أربعة مايوات كما أبان منصور خالد فلم يكن لها مشروع وطني موحّد .بل ارتجلت كل فترة منها بابطالها ونجومها نسختها الخاصة بها في كتاب البراغماتية المايوي. ربما تسبب ذلك في إطالة أمد نظام النميري لكنه راكم ما أفضى لانفجار الغضب الشعبي على نحو اطاح بالنظام في١٩٨٥ على نحو باغت النميري وأركان حقبه الأربع .
******
بالفعل نظم حسن الترابي انقلابا متأبطاً مشروعاً للحكم تحت مظلة الإسلام السياسي.هو بذلك أسدل ستارا حديديا على التنوع والتسامح . هما من أخص ملامح المجتمع السوداني وسمات ثقافته. الترابي نفسه يعترف (بسقوط النظام من الدرج الصاعد نحو الرشد والتقوى والحكمة إلى مدارك هوى الطغيان والظلم والاستبداد). فالمشروع الترابي تآءكل من الداخل أولا من قبل المفتونين بشهوة السلطة و استباحة المال العام . ثم تحول الى مشروع استهدف تدمير البنى التحتية ومشاريع التنمية ونهب الموارد. التعليم فقد فعاليته وأهليته درجا للترقي إلى آفاق المعرفة وهرم المجتمع.نظام الإنقاذ قوامه(عساكر وحرامية )مجردون من الحد الأدنى من الاستقامة الأخلاقية والوطنية فأصبح الترابي هو نفسه أحد ضحاياهم.
******
واقعنا الراهن ليس غير بقايا كل ما مضى.فيه ملامحنا لكنه لايشبه حتما طموحاتنا وربما قدراتنا كذلك.أكبر التحديات الماثلة تتجسد في كيفية استرداد النخب ثقة الشعب . بل ربما استرداد الشعب ثقته في نفسه. فكل سوداني بات يردد بلسانه أولسان حاله قول شاعره :
كل شيء غلا في سوقه ثمناً
إلا ابن آدم أضحى بلا ثمن
هناك فجوة عميقة بقدر ماهي واسعة بين الجيل (راكب رأسه ) والقوى السياسية .هو لايرى نفسه في النخب الحاكمة والمعارضة . كذلك هو غير قادر على الصعود الى الكابينة السياسية. هناك فجوة مماثلة بين النخب إذ يفترسها الخوف من بعضها البعض في غياب الكاريزما الغالبة.الثابت بالتجربة التاريخية أن الشعب ربما يصيبه التعب لكنه لايخطئ الطريق الحاكم هو من يتنكب الصواب وينزلق إلى الجريمة .
******
aloomar@gmail.com