الفكر الإسلامي المسيرة التاريخية وآفاق المستقبل (1-5) 

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم: تحاول هذه   المقالة التعريف بالفكر الإسلامي ،1-مفهومه و مصادره -،و2-تبين وسائل الفكر ومناهجه، 3-و تستعرض جهود المفكرين المسلمين وما ابتكروه  في مجال المناهج والعلوم والمعارف ، 4   وتعرض أثر الفكر الإسلامي في أوروبا -وما أضافه إلى الفكر الإنساني ، وأثر ذلك  الفكر في الثقافات الإنسانية 5-واخيرا تًتناول واقع الفكر الإسلامي وآفاقه المستقبلية.


مفهوم الفكر الإسلامي ومصادره (1)

  مفهوم الفكر الإسلامي:،استخدمت المعاجم اللغوية كلمة فكر في عدة معان منها : تردد القلب في الشيء وإعمال الخاطر أو النظر فيه ،والتدبر لطلب المعاني ، إلى غير ذلك من االعبارات التي تفيد في جملتها أن الفكر: عمل عقلي وحركة ذهنية يقصد بها الاعتبار، أو طلب المعاني والوصول إلى الحقائق.(انظر: معجم مقاييس اللغة 4/446 ).

فالفكر إذن يشير إلى المنهج العقلي الذي يتبعه الإنسان في الوصول إلى معلومات معينة أو الكشف عنها ،ولكن الفكر قد يطلق ويراد به نتاج الفكر تسمية للشيء بما يصدر عنه، كما يسمى ما يصدر عن الرأى رأياً ،وما يصدر عن العقل عقلاً .وهكذا يمكن القول بأن الفكر يتضمن المنهج وما ينتج عن المنهج من معارف وعلوم .

      أما كلمة إسلامي فتدل على نسبة هذا الفكر إلى الإسلام . ونسبة شيء أو الحكم عليه بأنه إسلامي ، يعني أن ذلك الشيء فكراً كان أو علماً أو نظاماً ، يتوافق في أهدافه وغاياته ومنهجه ومكوناته، مع ما جاءت به مصادر الإسلام الاساسية القرآن الكريم  والسنة النبوية ،بمعنى: أنه لا بد أن يكون منبثقاً من كليات الإسلام الأساسية ونظرته الى:-الله- والكون –والانسان، وصادراً عنها ، أوأن يكون متوافقاً مع قيم الإسلام ومعاييره ومقاصده. فالإسلام كما هو معلوم ،فوق انه دين  يتعبد الله تعالى به، هو منظومة متكاملة من الأصول والكليات والقيم والمقاصد ، فكل فكر يعتمد على كليات وفلسفات مغايرة لنظرة الإسلام العامة وكلياته أو لا يتوافق مع قيم الإسلام ومبادئه ، ولا يلتزم بالمعايير الإسلامية في فهم النصوص، أو لا يستحضر المقاصد العامة في الشريعة الإسلامية في الاستنتاج والإستنباط ،لا يعد فكراً إسلامياً ، وان كان صاحبه مسلماً بإعتبار دينه وانتمائه العقيدي.

ووفقاً لهذه الضوابط يمكن ان نعرف الفكر الإسلامي بأنه " كل ما أنتجه فكر المسلمين منذ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اليوم، في المعارف الكونية العامة المتصلة بالله سبحانه وتعالى،والعالم، والانسان والذي يعبر عن اجتهادات العقل الإنساني،لتفسير تلك المعارف العامة في اطار المبادىء الإسلامية عقيدة وشريعة وسلوكا" ،( تجديد الفكر الاسلامي ( محسن عبد الحميد)، المعهد العالمي للفكر الاسلامي ط.أولى 1416ه/1999م ص:41.)،أو :هوالمنهج الذي يفكر به المسلمون، أو الذي ينبغي أن يفكروا به ، وما ينتج عن هذا المنهج منبثقاً عن نظرة الإسلام العامة إلى الوجود ، ومتوافقاً مع قيم الإسلام ومعاييره ومقاصده. (انظر: مصطلح الفكر الإسلامي(أحمد حسن فرحات)،ندوة الدراسة المصطلحية والعلوم الإسلامية،ج2 ص:693-694).


-مصادر الفكر الإسلامي:

   مادام الفكر الإسلامي فكر مرتبط بالإسلام فمن الطبيعي أن تعود معارفه ،ومباديء مناهجه ،إلى أصول الإسلام من قرآن وسنة. ومن ثم يمكن القول بأن مصادر الفكر الإسلامي هي: الوحي الالهي المقرؤء والمتمثل في القرآن الكريم،والوحي الإلهي المشاهد والمتمثل في الكون.

1-الوحي:

 لعل من المسلمات أنَّ الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة، هو المصدر الأساسي للمعرفة لاسيما فيما يتعلق بعالم الغيب، الذي لا سبيل إلى إدراك حقائقه عن طريق الحس ، ولا معرفة تفاصيله عن طريق العقل، لأنَّ كلاً من الحس والعقل وسائل يهتدى بها إلى عالم الشهادة أو العالم المادي، ولا سبيل إلى إدراك ما وراء هذا الكون المشاهد أو عالم الغيب ،عن طريقها. ومن ثم كان المصدر الوحيد لتلك الحقائق هو الوحي الإلهي الذي أهتم بتقرير قضايا العقيدة والأصول التي تبنى عليها،من إيمان بالله ،وملائكته ،وكتبه،ورسله،واليوم الآخر،والقدر خيره وشره.والتي تضمنتها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم،ومن ذلك قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة:285، وحديث جبريل الذي سأل فيه النبي عليه السلام عن الاسلام والإيمان والاحسان،وجاء فيه عن الإيمان: " أن تؤمن بالله وملائكته،وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره".

     وقد فصل القرآن القول في تلك الأركان،وآثارها في حياة الإنسان فرداً وجماعة،كما اهتم بالآثار المترتبة على العقيدة وتمكنها في النفس: من ثقة بالله، وتوكل عليه ورضى بقضائه وقدره.. الخ.وعني بإقامة الأدلة والبراهين على تلك القضايا والأصول.

كما أنَّ الوحي هو الذي يوجه ويقوم حركة الإنسان في الأرض، ويحدد له اطار سلوكه وأخلاقه ويضبط فكره وتصوره، ويجيب على كثير من تساؤلاته الفطرية المشروعة حول الأبعاد الغيبية، ويحدد له مكانته في الوجود والغاية منها ، وما توجبه في مقام العبودية، كما يعرفه بحقوقه تجاه نفسه وغيره. وقرر ذلك كله من خلال ما تضمنه القرآن من أحكام وتشريعات.

2-الكون:

    أما المصدر الثاني للمعرفة الإنسانية فهو الكون .وقد اشار القرآن الكريم الى كثير من الظواهر الكونية،في الأرض والسماء وما بينهما،كما سجل حركة الإنسان على هذه الأرض وتفاعله معها.وقد دعا القرآن الانسان الى السير في الأرض والسماوات ، واالنظر في الأنفس والآفاق والكشف عن ما فيها من علوم ومعارف .وقد سعى القرآن الكريم من خلال تلك المعارف الكونية الى أن تكون معرفة الإنسان بالكون برهاناً لاثبات العقائد الغيبية.فالعلاقة بين العالمين: علم الغيب وعلم الشهادة ،علاقة تكامل وتعاضد لا علاقة تمانع وتدافع.والمعرفة الكونية تجيب على أسئلة مهمة للإنسان،تتعلق بعالم الشهادة وواقع الإنسان المعاش:مثل كيف يعيش الإنسان على هذه الأرض،وكيف يستفيد من مواردها؟وكيف يحافظ على كيانه فيها؟ ....الخ.

.  مجالات المعرفة وموضوعاتها في القرآن الكريم :

أثار القرآن الكريم في الإنسان ولفت انتباهه إلى استخدام هذا المنهج، بطرقه المتعددة ومسالكه المتباينة، لاكتساب المعارف والعلوم فيما يتعلق بقضايا الوجود الكبرى: الله والكون والإنسان، واستجلاء كنه الظواهر الكونية والاجتماعية والانسانية، والسنن التي تحكمها وتربط بينها. ومن بين  تلك المجالات والظواهر التي دعا القرآن الى التفكر والنظر فيها :

1- الظواهر والآيات الكونية ، وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من عشرين سورة تدل اسماؤها على بعض الظواهر الكونية مثل: الرعد، والنور، والدخان، والنجم، والقمر، والبروج وغيرها، كما وردت العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق السموات والأرض وما فيهما، وتشير إلى مراحل هذا الخلق، وإلى تعدد العوالم وطبيعة الأجرام السماوية وتوازنها، وإلى الشمس والقمر ومداريهما، وإلى النجوم والكواكب وجمالها ومنافعها للإنسان .وآيات تتحدث عن خلق الله للأرض ، وما أوجد فيها من حيوان ونبات ومعادن.  وتهيئته إياها لحياة الإنسان . وآيات تشير إلى أهمية الماء على وجه الأرض وإلى أنه أصل الحياة عليها، وإلى أثر الجبال في استقرار توازنها ، وإلى مسالك الأرض البرية والمائية وعلامات الهداية للإنسان في حله وترحاله . كما نبهت كثير من الآيات على الظواهر النباتية وأشارت إلى أثر المطر في الزرع وتناسل النبات وتنوع الثمرات ومنافعها وجمالها . أما الظواهر الحيوانية فقد وردت سورعديدة تحمل أسماء الحيوانات مثل: الأنعام والبقرة والنحل والنمل والعنكبوت والفيل وغيرها. وأشارت الآيات القرآنية العديدة إلى أنواع الحيوانات ومنافعها وما فيها من جمال وزينة ، وإلى وجود مجتمعات في عالم الحيوان مثل: مجتمعات النحل والنمل والطيور . شبيهة بالمجتمعات الإنسانية.( انظر:حول النظام المعرفي في القرآن الكريم(محمود عايد الرشدان)  ص:31)

2 - الظواهر الإنسانية والاجتماعية : هناك سورُ عديدة تحمل أسماء أقوام وأمم أو أفراد مثل: هود، ويوسف، وإبراهيم ومريم ، وسبأ والروم وقريش . وسورً تحمل أسماء ظواهر اجتماعية أو إنسانية مثل: التوبة والأحزاب والشورى والمجادلة والمنافقون ،والطلاق والهمزة والمطففين ، وهناك سورة عن الإنسان، وآيات كثيرة تشير إلى خلقه بوجه عام وتطور الجنين بوجه خاص ، ومراحل الخلق التى يمر بها الإنسان ، وآيات أخر تشير إلى الأسرة الإنسانية وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ، وإلى تنوع المجتمعات وإختلاف اللغات والألوان وتباين النشاطات الإنسانية.  وهكذا تتنوع موضوعات القرآن ومحاوره فتشمل: الإنسان فرداً وجماعة، والكون وما فيه من عجائب خلق الله وآياته ، والتاريخ وما فيه من دروس وعبر. وصدق الله تعالى إذ يقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).   وتبعاً لذلك تتنوع مجالات الفكر الإسلامي ليشمل الغيب وحقائقه،وما في الأنفس والآفاق من ظواهر كونية واجتماعية ونفسية.

   فقد لفت القرآن نظر الإنسان إلى التدبر والتفكير فى جزئيات الكون من سماء وأرض وجبال وأنهاروغيرها من مظاهر الطبيعة ،والى النظر في ظاهرة خلق الحيوان والإنسان بصفة خاصة وما في ذلك الخلق من آيات ودلائل الإعجاز الإلهي في الخلق والصنع ، فيقول تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين،وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 20-21) .ويقول: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ،وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثـية:3-5)، (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:185).

 والنظر ليس المراد به مجرد الملاحظة العابرة ،بل ما يؤدي إلى الكشف عن بعض الحقائق التي يمكن استخدامها لاستنباط معرفة جديدة ، وإلا فلن تكون للملاحظة قيمة. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف:105) .وقد دعا القرآن إلى دراسة الظواهر الكونية ومحاولة التعرف على المراحل التى تمر بها ودراستها دراسة دقيقة،ومحاولة معرفتها معرفةعلمية صحيحة من جميع جوانبها، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (الزمر:21) ويقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (النور:43) .

كما يدعو القرآن إلى دراسة كيفيات الأشياء  وما يتعلق بطبيعتها والقوانين التي تحكم العلاقة بين  اجزائها، وأسباب ومراحل حدوثها، فيقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء:30) . كما أكد على الاهتمام بدراسة كميات الأشياء وما فيها من علاقات تؤدى إلى معارف وعلوم أخرى. فمن النظر في ظاهرة الشمس والقمر يمكن التوصل إلى علم العدد والحساب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس:5)

   وقد وجه القرآن الى هذا التتبع والاستقراء الذي يوصل الإنسان الى الحقيقة سواء كانت علمية أو دينية،قال تعالى(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ،أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ،نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ،عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ،وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) (الواقعة: 58-62) ،كما أرشد إلى استخدام هذا المنهج العلمي الذى يقوم على الملاحظة والاستقراء والتجريب، وينتهي بالتذكر والاعتبار ومعرفة سنن الله في الكون، والوصول عن هذا  الطريق الى القياس العقلي واستنباط الحقائق العلمية  والتأكد من صحتها.وقد عبر القرآن عن هذا المنهج بالاعتبار،وهو كما يقول ابن رشد:ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس." (انظر: فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ( ابن رشد) ص:9).

    وباستخدم مجال الكون وعلوم الطبيعة منهجاً يعتمد على الملاحظة الدقيقة والمشاهدة ، ويقوم على الاستقراء والتجريب وبناء الاقيسة والبراهين.ووضعت بذور ما يعرف فيما بعد  بالمنهج الاستقرائي التجريبي.

 ومن جانب آخر اهتم القرأن بالتاريخ ،كأحد مصادر المعرفة الإنسانية، وقدم في هذا الصدد أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، ينتقل من مجرد العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص السنن الإلهية أو القوانين التي تحكم الظواهر الإجتماعية والتاريخية،وما في تلك الأحداث التاريخية من عبر ودروس،فيقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111) .  فالتاريخ في المنظور القرآني تحكمه قوانين ثابتة مطردة عبر عنها بسنن الله ،ودعي الإنسان إلى اكتشافها ،فيقول تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح:23) ،  ويقول أيضا : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137) ،كما بين القرآن الكريم أهمية الدور الإنساني في حركة التاريخ،  (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) ، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم:9).

ووضع القرآن أساساً ومنهجاً لقبول الأخبار وردها، تشير اليه الآية الكريمة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6) ، ما مكن المؤرخين المسلمين من تكوين رؤية واضحة فيما ينقل من اخبار واحداث  ،وباتباع هدي القرآن الكريم في التحقق من مصادر الخبر وتمحيصها،وضع المسلمون أصول علم الحديث ،وبذور ما يعرف بمنهج الاستقراء التاريخي.


وسائل المعرفة  في الفكر الإسلامي ( 2)

     إن المنهج المعرفي الإسلامي منهج إيماني يقوم على التسليم ببداهات الوحي وأحكامه في الوجود الدنيوي والأخروي ،وفي أحكامه القضائية والكونية،وهو منهج عقلي يعتد بأحكام العقل ،كما أنه منهج واقعي لا يلغي الوجود  الحسي من اعتباره في بناء معرفة يقينية وعلمية. فهو إذن منهج يجمع بين الوحي والعقل والحس:فالوحي يمد الإنسان بالمعرفة ،بينما العقل والحواس يقومان كل منهما بدوره في صياغة المعرفة وتفهمها.

1-الحواس: الحواس وسيلة من وسائل الإدراك المؤدية إلى اكتساب المعارف والعلوم،اهتم بها القرآن الكريم ، وعدها من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وامتن بها عليه، ودعا الناس إلى استعمالها لاكتساب العلم النافع في الدين والدنيا.فقد أمر الإنسان بالنظر إلى نفسه وما حوله: فيقول تعالى:( فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، ،خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ،يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) ،الطارق:5-7، وأن يشكر الله تعالى عليها فقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، النحل:78 .كما أخبر  القرآن أن من أسباب إخفاق الناس في معرفة الحقائق والالتزام بها، اهمال نعمة الحواس،واقفالها عن معرفة الحقائق ،يقول سبحانه وتعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، "الملك:10.

2-العقل:  لم يهتم القرآن بالحديث عن ماهية العقل بل لم يرد في القرآن ذكر العقل كاسم علم،بل وردت الإشارة إليه كوسيلة من وسائل الإدراك والتفكير،ومن ثم  وردت الألفاظ التي  تدل على العملية التي يحصل بها الإدراك مثل تعقلون،ويعقلون وعقلوه ونعقل،في تسعة وأربعين موضعاً. كما ذكر القرآن بعض  وظائف العقل:التي  لا تنحصر في العقل الذي هو مناط التكليف وانما تتجاوزه إلى العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح.  وعبر عن ذلك بمصطلحات مثل: التذكر والتفكر والنظر والذكر والفقه والتدبر لتدل كلها على ما يدل عليه التعقل من وظائف. كما ذكر القرآن أعضاء نسب إليها بعض تلك الوظائف،كالقلب والفؤاد ،وذكر ألفاظا تدل على حقيقة الإنسان كاللب والحلم،وتدل على أن فيه قوة رادعة كالنهى والحجر،ومدح أولي الألباب وأولي النهى.

القرآن الكريم والتفكير العقلي :

يكاد يكون من المسلم به أنه لم يهتم كتاب ديني بقضية التفكير كما اهتم بها القرآن الكريم ، وإن اهتمام القرآن بمخاطبة ملكات التفكير والتعقل عند الإنسان، بلغ درجة جعلت بعض الدارسين يعتبرون التفكير فريضة من فرائض الإسلام ،لا يقل شأناً عن فرائض العبادات والشعائر الدينية. فيقول العقاد مثلا:" وليس التفكير في الإسلام عوضا من النص أو ما يشبه النص في الأحكام،بل هو فريضة منصوص عليها،مطلوبة لذاتها ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى،وكلها محظور على المسلم أن يهمله وهو قادر على النهوض بتكاليفه غير مضطر إلى تركه،فإن تركه لغير ضرورة فهو مقصر محاسب على التقصير." )انظر: التفكير فريضة إسلامية( العقاد) ص:142-144.)

 وتبدو تلك المكانة التي يحتلها العقل ووظائفه والتفكير وأدواته في القرآن، في عدة مظاهر من بينها:

 أولاً : الدعوة الصريحة إلى التفكر والنظر وطلب المعرفة والعلم. وإعمال العقل في جميع مجالات الوجود الكونية والنفسية، واستخدم في ذلك ألفاظاً متنوعة وعبارات شتى كما اشرنا الى بعضها اعلاه : كالتعقل والنظر والتبصر والتدبر والتفكر وغيرها من الالفاظ والعبارات، التي تشير الى ملكة التفكير في الإنسان..

 ثانياً : تحرير العقل من عوائق التفكير  وإزالة ما يمكن أن يعطله عن ممارسة وظائفه من تقليد أعمى للآباء واتباع لهم ولو كانوا على الباطل، أو اتباع للهوى وميل إليه من غير تبصر ، أو أخذ بالظن من غير يقين.لذلك ذم القرآن التقليد : كما ذم الهوى ودعا الى اجتناب الظن: ووصف متبعي الظن بالجهل ، وبين إن الظن لا يغني من الحق شيئاً.

 ثالثاً : الدعوة إلى الحوار والجدال وطلب البرهان : أخذ القرآن بمبدأ الحجاج واعتمد الحوار والجدل البناء أسلوباً أصيلاً في توجيه الخطاب إلى الناس كافة، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ،النحل:125 ، وفي الوقت نفسه ذم الجدال الذي لا يستند إلى دليل موضوعي أو برهان منطقي: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) ،(الحج:3) ، وتأكيداً لذلك نبه الرسول صلى الله عليه وسلم، على الآثار السلبية الناتجة عن الجدال بالباطل فقال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ،الزخرف:58، ( صحيح الترمذي،الرقم3253". وطالب القرآن الآخرين بان يبرزوا ما لديهم من أدلة وبراهين:  (أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ۖ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ۗ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُم مُّعْرِضُونَ) الأنبياء:24،وقال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) "البقرة:111".

رابعاً: قدم القرآن نماذج من البراهين،و استخدم وسائل في الاستدلال وأساليب في الجدل وطرقا في الاقناع، تمثل في جملتها منهجاً تميز به القرآن، وأصبح أساساً بنى عليه المسلمون مناهجهم في البحث وطرقهم في الاستدلال.وذلك لاختلاف مشارب الناس وتباين مقاصدهم، وتفاوت مداركهم.( انظر:نماذج من تلك الأسليب: مناهج الجدل في القرآن الكريم( زاهر عواض الألمعي) ص:73-91.القرآن والنظر العقلي ( فاطمة اسماعيل)ص:109-131).

     وهكذا تتنوع اساليب الجدال القرآني وتتعدد طرق الاستدلال والبرهنة لتبين الحق لمختلف انواع المخاطبين،وترد على المعارضين وتكشف بطلان ما اعتقدوه ،ووهم ما تمسكوا به من ادلة وبراهين. يقول الراغب الاصفهاني : " قد اشتمل القرآن الكريم على جميع أنواع البراهين والأدلة وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير تبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به ، لكن أورده على عادات العرب دون دقائق طرق المتكلمين" ( مقدمة في التفسير (ابو القاسم الحسن بن محمد بن الفضل الأصفهاني) – ص41/42 .)

. ولعل مثل هذه النظرة إلى البراهين القرآنية، هي التي أدت بالغزالي إلى محاولة الرجوع بأصل المنطق لا إلى أرسطو، بل إلى علوم الوحي والقرآن، ومحاولة استخراج العديد من البراهين الاستنباطية، والأقيسة البرهانية، وبعض أشكال المنطق الأرسطي، من آيات القرآن الكريم.( انظر ما كتبه الغزالي في (القسطاس المستقيم ) و "معيار المعلم" و "محك النظر" وغيرها من كتبه المنطقية .وأيضا (مناهج الجدل في القرآن الكريم( زاهر الألمعي) ) ص111).

:العلاقة بين الوحي والعقل :

    الوحي- كما أشرنا من قبل- مصدر لحقائق العقيدة  و مبادئ الأخلاق وأصول الشرائع ، بينما يقوم العقل بما يأتي:

1-يفهم تلك الحقائق ويهتدي إلى معرفة الله من خلال النظر في آيات الله في الكون والأنفس والآفاق .

2- يميز العقل بين المعجزات الحقيقية وما يلتبس بها من مظاهر الشعوذة والدجل - ويدرك أوجه دلالة المعجزة على صدق من جرت على يديه.

3- يفهم العقل نصوص الشرع ويستنبط الأحكام لما يجد من أحداث.

.4- هناك مساحة كبيرة من الأخلاق جعل الحكم فيها للعقل.

5- فتح الإسلام الباب واسعاً للعقل كي يجول في آفاق الكون الفسيح مستكشفاً متأملاً ، وشجعه على أن يبتكر ويخترع من وسائل الحياة ما توصله إليه خبراته ، وُوجهه إلى الاستفادة من تجارب الآخرين ، وأن ينتفع بتراث السابقين ومعارف اللاحقين. وهكذا نجد توافقاً تاماً وتعاضداً بين الوحي والعقل ، فالكتاب المنزل والعقل المدرك كلاهما حجة الله على خلقه ،كما يقول ابن القيم( انظر: "الصواعق المرسلة" (٢/٤٥٧، ٤٥٨)

العلاقة بين العقل والحواس :  تتمثل العلاقة بين العقل والحواس في ما يلي:

1-إن العقل مرتبط بحدود الزمان والمكان ويعمل من خلال التجارب والمشاهدات التي تمده بها الحواس .

2 - العقل حاكم على الحواس يحول احساساتها إلى إدراكات حقيقية ومعارف يقينية .

 3-لا يستطيع العقل أن يحكم بشيء في عالم المحسوسات دون أن تقدم له الحواس مادة المعرفة.

4-غاية ما تصل إليه الحواس هو إدراك المحسوسات والمشاهدات إدراكاً جزئياً، بينما يستطيع العقل تجريد المعاني من المحسوسات والربط بين المعاني والتصورات .

  وقد أشار القرآن الكريم في عديد من آياته إلى هاتين الوسيلتين ( العقل والجواس)، كما في قوله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " (النحل : 78 )،وقوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) . ونجد هذا الترابط في كثير من آيات القرآن الكريم التي تبين أن وسائل الإدراك المختلفة الحسية والعقلية لا تغني الإنسان شيئاً إذا ما جحد بآيات الله وتنكر لها ،يقول تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (ألأحقاف:26) .


جهود المفكرين المسلمين في مجال المناهج والعلوم والمعارف) 3)

بفضل ذلك المنهج القرآني الذي يستند إلى إستثارة ملكة التفكير ويدفع الناس إلى إعمال عقولهم،والنظر في الكون وفي أنفسهم، حول الإسلام العرب من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب ، كما عبر القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2) ، إلى أمة رائدة في مجال العلم والمعرفة .وقد استفاد المسلمون من دراسة القرآن الكريم الذي نمى فيهم النزعة العلمية، وغرس في نفوسهم الميل الشديد إلى البحث والنظر والملاحظة والتجربة . وفي رحاب هذه الأجواء العلمية المستمدة من القرآن الكريم، ظهرت أجيال من العلماء والمفكرين الذين وجهوا جهودهم نحو صياغة المناهج العلمية المختلفة في مجال البحث العلمي، مجسدين التصور القرآني للعلم ومناهجه ، فأدى ذلكم إلى قيام نهضة علمية شملت مختلف الميادين العلمية والمعرفية، ونشأت علوم ودراسات حول القرآن وعلومه، والتفسير وفنونه، والسنة ومصطلحاتها ،والفقه ومدارسه، والعقيدة وقضاياها، واللغة وآدابها، والتاريخ ومصادره ، إلى غير ذلك من المعارف والعلوم . لقد فتح الوحي الالهي للعقل المسلم أبواباً شتى من العلوم والمعارف، ليس في مجال العلوم اللغوية والشرعية فقط ، بل امتد ذلك ليشمل الطب والجدل، والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك.

والسؤال الذي يثار هو ما قيمة ما انتجه المسلمون من معارف وما وضعوه من مناهج؟وهل أنشأ المسلمون هذه العلوم وكونوا تلك المناهج بناء على هدي الوحي الالهي فحسب، أم أنهم استفادوا من تجارب  انسانية أخرى لا سيما التجربة اليونانية. وأهمية هذاالسؤال تبدوا في إطار الحملة التى  شنها بعض متعصبي المستشرقين على الفكر الإسلامي، و حاولوا من خلالها انكار أى فضل للمسلمين في تقدم العلوم وازدهار المعارف الإنسانية. بل غالى بعضهم في عصبيته فادعى بأن القرآن هو الذي عاق المسلمين عن التفكير الحر والنظر المعرفي.

وبداية يمكن القول بأن الإسلام لم يضع قيودا على المسلم فيما يتعلق بالثقافات الإنسانية الأخرى، وأعتبر كل جهد بشري مفيد ونافع من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وهو أحق الناس بها أنى وجدها.لذلك لم يجد المسلمون حرجاً في الاستفادة من تجارب الأمم التي اتصلوا بها،والوقوف على ما لديهم من معارف وعلوم.استفادوا منها في صياغة مناهجهم، و في مجال العلم التجريبي وميادين المعرفة المتعددة.

    للاجابة على هذا السؤال سنحاول استعراض مناهج بعض العلوم الاسلامية ونستكشف الأصول التي استمدت منها لنقف على مدى ابداعهم او تقليدهم لغيرهم فيها.كما سنعرض لبعض ما أبدعه المسلمون في مجالات العلوم التجريبية من طب وهندسة وفلك ورياضيات، الخ. وفيما يتعلق بالمنهج ،يمكن الإشارة هنا إلى مناهج أصول الفقه ومناهج  المحدثين،ومنهج المتكليمن في العقيدة،ومنهج الصوفية في مجال السلوك والاخلاق.

منهج أصول الفقه :هو: المنهج الذي استخدمه الفقهاء لاستنباط الاحكام الشرعية ، وتعود بدايات هذا المنهج إلى عصر الصحابة، الذين وضعوا الضوابط التي بواسطتها تستنبط الأحكام - ويشار إلى ابن عباس بأنه واضع فكرة العام والخاص . وفي العصر الأول والعصر الثاني وضعت  قواعد للقياس وشرائط للعلة . ويؤكد ابن خلدون ذلك فيقول عن الصحابة: " إنهم كانوا يقيسون الأشباه بالأشباه منها ، ويناظرون الأمثال بالإمثال ، باجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض في ذلك ، فان كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت، والحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الالحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيها واحد ، وصار ذلك دليلاً شرعياً باجماعهم عليه، وهو القياس"(انظر:مقدمة ابن خلدون،ج 3 ص:1062)، ولكن يعود الفضل إلى الامام الشافعي (150-204هـ ) ،في وضع مقدمات هذا العلم وترتيب قضاياه . ويجمع مؤرخو علم الأصول على أن أول محاولة لوضع مباحث الأصول كعلم إنما  قام بها الشافعي ،حيث وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية ، ووضع نظاماً للاستنباط العلمي الذي لا يعني بالجزئيات والفروع ، بل كانت غايته ضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها".( التمهيد لدراسة الفلسفة  الإسلامية( مصطفى عبد  الرازق) ص:230)،  ولهذا وازن الامام فخر الدين الرازي بين الشافعي وأرسطو، " فاعتبر نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة المعلم الأول(ارسطو)، إلى علم المنطق. وقد أورد الشافعي تلك القواعد الاصولية وتكلم عن الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم .و أفاض في الحديث عن الاجماع وإثبات القياس في رسالته المشهورة ، كما أخذ ينقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريقة الاستنباط ،(انظر: الرسالة ( الإمام الشافعي) ص:223) ، كما أخذ بالدليل الاستقرائي في مجال الأحكام، وحدد معالم المنهج في تحقيق القياس الأصولي. وبعد الشافعي توسع الأصوليون في مباحث القياس، وابتكروا العديد من الطرق الضابطة لا تقل عن طرق الاستقراء المعاصرة.

وقد أرجع الاصوليون القياس إلى نوع من الاستقراء العلمي الدقيق الذي يقوم على قانونين قام على أساسهما المنهج الاستقرائي في العصر الحديث وهما: قانون  العلة، وقانون الاطراد في وقوع الحوداث،. واعتبروا العلة أهم أركان القياس،وعليها مدار تعدية الحكم من الأصل الى الفرع،لهذا أشبع الأصوليون مفهوم العلة بحثا وتحقيقا،وفصلوا أحكامها وشروطها،وكيفية التعرف عليها.وعالجوا ذلك فيما يعرف لديهم بمسالك العلة: والتي من أهمها : السبر والتقسيم ،والطرد والعكس ،والدوران،وتنقيح المناط. وقد سبقوا في ذلك كله المناطقة المحدثين (انظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام ( علي سامي النشار) ص::97-103، 111-117، 140.)، متأثرين في ذلك بمنهج القرآن الكريم ونزعته التجريبية ، ووضعوا منهجاً في البحث العلمي بنى عليه علماء المسلمين التجريبيون علومهم، واستخدموه في مجال بحوثهم العلمية، من فلك وطب وكيمياء ورياضيات،وهندسة  و غيرها. كما سنرى.

مناهج المحدثين :إن مناهج المحدثين نتاج طبيعي وأثر من أثار المنهج القرآني الذي حارب الكذب والوهم، وحذر من نتائج الخطأ والنسيان، وطالب بالبرهان والدليل، وذم اتباع الظن والهوى، وحذر من قبول خبر الفاسق الذي لا يلتزم بمبدأ الصدق والتثبت، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾  (الحجرات:6) . وتبعاً لهدي القرآن وضع المحدثون، ، منهجاً يقوم على قواعد النقد العلمي للأخبار والمرويات ، وطبقو ذلك المنهج في دراسة السُنَّة وروايتها وجمعها ، وذلك لأن معظم السُنَّة جاءت من طرق أحاد من الصحابة ، ولم تنقل كما نقل القرآن الكريم بالتواتر ،وتعرض بعضها لأوهام الرواة وخطئهم ونسيانهم ، ووضع الوضاعين وكذبهم . وقد اجتهد المحدثون في جمع الروايات، ونقدوا أحوال الرواة ومروياتهم، وأحتاطوا أشد الإحتياط في ذلك ، وحكموا بضعف الحديث لأقل شبهة تتعلق بسنده أو بمتنه ، وقدموا الجرح على التعديل، فجاءت الطرق التي سلكوها على أقوم ما يمكن أن تكون عليه الطرق العلمية ، وكانت القواعد التي وضعوها أصح القواعد للاثبات التاريخي ، ونقل الأخبار.

وقد نقد المحدثون سند الحديث ، كما نقدوا متنه .ونظرة موجزة لجهدهم في هذين المجالين، يتضح من خلالها قيمة ما قاموا به . وفي تقييم الرجال ( سند الحديث)، وضعوا علوماً خاصة، (كعلم الجرح والتعديل)، الذي يهتم بأحوال الرجال من حيث الحكم عليهم بالقبول أو الرد ،ووصفهم بأوصاف الثقات العدول أو المجروحين والمتروكين . ووضعوا ضوابط للراوي الثقة ، وبحثوا في كيفية معرفة عدالته ,وضبطه، إلى غير ذلك من الضوابط المتعلقة بأمانة الأداء وقوة الذاكرة، في الحفظ والضبط .كما وضعواعلم العلل الذي يهتم بمتابعة الثقات ورواياتهمويتناول أنواعاً من الفقه النقدي، بعضها تاريخي، وبعضها اجتماعي، وبعضها نفسي، وبعضها عقيدى، وبعضها فقهي"..( انظر: الفكر المنهجي عند المحدثين( همام سعيد) كتاب الأمة أول محرم 1408 ص: 58.)،

أما متن الحديث ، فلم يغفله المحدثون ، كما زعم بعض المستشرقين ، بل اهتم نقدة الحديث بنقد نصوص الأحاديث أو متونها ، وناقشوا ما روي، وبينوا ما يعارضه من النصوص، أو ما يعارضه من أحكام العقل، أوما قد يبدوا فيه من مخالفة لمبادئ الإسلام ومنطقه ومناهجه .

      ومما يدحض دعوى المستشرقين هذه ،ما ورد من استدراكات عائشة رضي الله عنها على ما رواه الصحابة : والتي جمعها الزركشى في كتابه" استدراكات عائشة على الصحابة" . كما أن نشأة المذاهب الفقهية والاختلافات بينها، مبني في معظمه على نقد المتن، وفهم النص لا ثبوته فحسب . وكذلك نشأة المذاهب السياسية والعقيدية والكلامية تعود من بين ما تعود اليه، الي الإختلاف حول تفسير بعض النصوص.  كما أن هناك علم إختلاف الحديث، أو مختلف الحديث، أو مشكل الحديث، الذي يقوم على البحث في المتون، وهناك مؤلفات للعلماء في ذلك. وأخيراً فان كتب السنة المتداولة تؤكد العناية بمتون الحديث ونقدها.

  وبصرف النظر عن هذه الدعوى، فان نظرة عجلى لما قام به علماء الحديث تبين، أن منهجهم منهج قرآني مستمد من القرآن والسنة ،وأنه منهج تأريخي نقدي، وما وضعه المحدثون من منهج وما بنوا من قواعد كان له أثر في معظم العلوم والفنون النقلية ، وتأثر بهم علماء اللغة والأدب وعلماء التاريخ وغيرهم، وتبنوا منهجهم في نقل النصوص ورواياتها وثبوت نسبتها إلى قائلها.

       وبالإضافة إلى علوم الحديث وأصول الفقه إمتدت الحركة العلمية لتشمل مجالات متنوعة كالعقيدة والتصوف وغيرها من العلوم الإسلامية التي نشأت في بداياتها على أسس إسلامية مستنبطة من القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومستصحبة مناهج القرآن وطرقه في المعرفة والبحث والادلة والبراهين.


منهاج المتكلمين :


علم الكلام علم إسلامي نشأ في البيئة الإسلامية ، واستمد قضاياه ومسائله، شأنه شأن العلوم الشرعية، من القرآن و السُنَّة. أما صياغة تلك القضايا والمسائل، ووضع المناهج للتعبير عنها والبرهنة عليها،فقد مال علماء الكلام ،مع استصحابهم للنصوص الشرعية، إلى استخدام العقل والتركيز على مناهجه وبراهينه .

وقد استند المتكلمون- في شرعية استخدامهم للنظر العقلي- الى ما ورد في القرآن الكريم من أمر باستخدام العقل واعماله في الكون والأنفس ، وحث القرآن الكريم على النظر والتفكر والاعتبار،كما اشرنا من قبل. كما أن احتكاك المتكلمين بأصحاب الديانات والملل والثقافات الأخرى ومجادلتهم، وردهم على أصحاب تلك العقائد والاتجاهات الفكرية المخالفة للإسلام،كان له أثر انعكس في صياغتهم لمناهجهم وأساليبهم ، التي توجهت فى الأساس إلى الدفاع عن العقائد الإيمانية وإقامة الأدلة والبراهين عليها .( انظر:مناهج البحث في العقيدة الاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) مجلة كلية الدراسات الاسلامية والعربية، دبي ،العدد:الثامن والعشرون ذو القعدة 1425/ديسمبر 2004م.)

 نتيجة لذلك نجد أن علم الكلام يقوم على اساسين: العقل والشرع، وفى هذا تلتقي كل المدارس الكلامية، على اختلاف فيما بينها، في تحديد العلاقة بين العقل والشرع . فالمعتزلي واصل بن عطاء يذهب إلى أن الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق ، وخبر مجمع عليه وحجة عقل أو إجماع من الأمة" ، (انظر: نشاة الفكر الفلسفي في الإسلام ( علي سامي النشار)ج 1 ص:3-4.كما يقرر القاضي عبد الجبار أن الدلائل أربعة: "حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع". وبالمثل يذهب الأشاعرة إلى أن جملة الطرق التي تدرك بها العلوم تنحصر في خمسة: العقل والكتاب والسنة والإجماع والقياس" . أما الماتريدى (ت:333هـ) فيقرر في كتابه التوحيد:" أن أصل ما يعرف به الدين وجهان : أحدهما السمع والآخر العقل " وبهذا يختلف الكلام عن الفلسفة، التي تستند الى العقل وأحكامه من غير اعتبار للادلة الشرعية او الوحي.

 ومع اصطحاب المتكلمين للسمع( الادلة النقلية) والعقل معاً، فإن اعتدادهم بالدليل العقلي والاعتراف بصحة ما يدل عليه في المسائل الاعتقادية،أدى بهم الى القول: بوجوب النظر والاستدلال العقلي كأساس للاعتقاد،وعدم الاكتفاء بالتقليد في قضايا العقيدة .كما أنّهم أثاروا قضية العلاقة بين العقل و النقل بصورة حادة ، و استخدموا التأويل كمنهج ،واتخذوا موقفاً سلبياً تجاه أحاديث الآحاد كمصدر للعقيدة.( انظر:مناهج البحث في العقيدةالاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) مصدر سابق).

منهج المتصوفة: يعد التصوف في أصوله وبداياته الأولى ثمرة من ثمرات الإلتزام بالعقيدة الإسلامية والمنهج القرآني،حيث سعى المتصوفة الى بلوغ درجة الإحسان التي يرتقي فيها المسلم بعبادته الى درجة المشاهدة أوالمراقبة،( ان تعبد الله كأنك تراه ..).وقد استمد التصوف أصوله الأولى من التعاليم الإسلامية،والقيم الأخلاقية التي أرساها القرآن الكريم والسنَّة المطهرة،وأن هذاالمنهج كان في بداياته وإلى حد ما،صياغة عملية لتعاليم الإسلام في العبادة والسلوك متمثلة في تقوى الله في السر والعلن،واتباع السنَّة في الأقوال والأفعال،والاعراض عن الخلق والتمسك بقيم الصبر والتوكل على الله والرضى بما قسم ،والرجوع إليه سبحانه في السراء والضراء.ولكن التصوف كما هو معلوم مر بمراحل، وتقلب في اطوار بعدت به عن تلك الغاية والوسائل التي تحققها،نتيجة لتأثر بعض الصوفية ببعض التصورات الكلامية،والنظريات الفلسفية الغنوصية. (انظر: طائفة الختمية اصولها التاريخية وأهم تعاليمها ( احمد محمد احمد جلي) ص:7-8.والفلسقة الصوفية في الإسلام (عبد القادر محمود ) دار الفكر العربي ،1966.)

المنهج التجريبي :  رغم أن القرآن الكريم شجع على طلب العلم، وحث على إستكشاف الكون ، وشهد العالم الإسلامي خلال القرون الأولى للإسلام، حركة علمية نشطة ازدهرت على أثرها علوم اللغة والأدب ، وعلوم التفسير والحديث ، فأن نشأة العلوم البحتة أوالتطبيقية: كالطب والفلك والرياضيات والكيمياء والهندسة، لم تزدهر الا مع حركة الترجمة ونقل علوم الأمم الأخرى أو "علوم الأوائل" ، كما اسماها المسلمون ، إلى اللغة العربية . ومهما قيل من بواعث ودوافع وراء حركة ترجمة التراث الأجنبي للغة العربية : ، فلا شك أن القرآن الكريم بتعاليمه وقيمه هيأ نفسية المسلمين لتقبل ما لدى الشعوب الأخرى من علوم ومعارف " أو حكمة" ، فانكبوا من ثم في عصر الفتوحات على التراث المعرفي لمختلف الأمم التي لها سبق في مضمار الحضارة فترجموه إلى اللغة العربية، وانعموا النظر في ذلك التراث،ووقفوا على ما ابدعته الأمم الأخرى من فكر وثقافة وعلم.ونتيجة لتلك الجهود  التي بذلت خلال هذه الحركة الضخمة ،أصبح المسلمون - كما يقول لويس يونج - على صلة تامة بحضارة واسعة تضم بين جدرانها أدبا واسعا مكتوباً باليونانية والسريانية والبهلوية ، لقد صبت جداول كثيرة في نهر الحضارة الاسلامية ، ولعل أشدها تأثيراً رافد الحضارة الهلينية ، ثم الحضارة الفارسية التي انتشرت في الفكر السياسي والعادات الاجتماعية، والحضارة الهندية التي اسمهت في علوم الطب والفلك وخاصة في الرياضيات.

   مما لا شك فيه ان الترجمة كان لها إسهام كبير في تقدم الحركة العلمية ، وازدهار المعارف والعلوم كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها ، إذ اطلع العلماء  المسلمون على تراث الأمم العلمي - واستفادوا من مجهودات العلماء السابقين ، وحفظوا ذلك التراث العلمي الذي سبقهم لا سيما التراث اليوناني من الضياع ، . ولكن لم يقتصر دور العلماء المسلمين على النقل والحفظ، بل إنهم طبعوا ما أخذوه بطابعهم الخاص  . فنقدوا وأضافوا واكتشفوا وابدعوا في مختلف مجالات العلم والمعرفة ، وحققوا انجازات هامة في ميادين العلم التجريبي كالطب والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم ".( انظر: في تراثنا العربي الاسلامي( توفيق الطويل) ص:88)

   ففي مجال الرياضيات طوروا نظام كتابة الأرقام (الغبارية)، وهي الارقام المنتشرة الآن في بلاد المغرب العربي بما في ذلك الاندلس ،والتي انتقلت واستعملت في أوروبا وسميت بالارقام العربية .اضافة الى الارقام الهندية وهي التي تستعمل الآن في المشرق العربي .  كما طوروا مفهوم الصفر الذي سهل العمليات الحسابية ، كما اكتشفوا الكسور العشرية وطريقة كتابة الكسور الاعتيادية ، وعلم الجبر واللوغاريثمات.

أما الطب فقد وضعوا له أصولاً ومناهج نظرية بجانب التجارب العملية، واشتهر منهم ابو بكر الرازي وكتبه: "الحاوي"، و"المنصوري" ، و"الحصى في الكلى والمثانة". واهتدوا إلى العديد من العلل وعلاجها ، وادركوا أن الأوبئة تنتقل عن تعفن تنتقل عدواه عن طريق الهواء والمخالطة ، وسموا الأمراض المعدية ب:" السارية". وكانوا أول من فطن إلى تفتيت الحصاة في المثانة ، ومن أوائل من استخدموا المخدر واخترعوا "الاسفنجة المخدرة" ، وأول من كشف البول السكرى والحصبة وغير ذلك كثير ، هذا في الوقت الذي كانت السلطات الكنسية في أوروبا تنفر من علاج الأمراض ومن استخدام الجراحة لانها في زعمهم،تؤدي الى تغيير في خلق الله.

وفي الكيمياء اكتشف علماء المسلمين أهم  أسس الكيمياء. واجروا عمليات التبخير والترشيح ، وأقاموا المعامل ووضعوا أصولاً لاجراء التجارب ،وعرفوا كثيراً من الاجهزة والآلات التى كانت تستعمل في المعامل.

وفي الفيزياء اشتهر الحسن بن الهيثم، بكتبه في: البصريات، ونظرياته حول الضوء التي تعتبر أساساً لعلم الفيزياء بالمعنى الحديث.

وفي الفلك رصد العرب النجوم وحركة دوران الشمس وظاهرة الكسوف والخسوف وبنوا المراصد الجوية،واطلقت اسماؤهم على كثير من النجوم والكواكب التي رصدوها.

وفي الجغرافيا خطوا خطوات واسعة ، واستطاعوا ان يحددوا مواقع البلدان والطرق بدقة متناهية ، ودرسوا الظواهر الجغرافية ، ووصفوا البلدان جبالها وسهولها وأوديتها وحدودها ونباتاتها وحيواناتها ، وتفننوا في رسم الخرائط.

وقد كان من نتائج هذه الحركة ، ان شهدت الصناعات والعلوم ،تقدما باهرا كان مثار اعجاب ودهشة من أرخوا للعلم،  ونتج عن ذلك العديد من المنجزات والمبتكرات في مجال العلوم والمعارف المختلفة ،من رياضيات وفلك وطب وهندسة ،وفيزياء وكيمياء وغيرها. ،وأجرى المسلمون العديدمن الأبحاث التطبيقية وطوروا استخدامات الري والميكانيكا ، وتحسين صناعة الورق ، وتكرير السكر واختراع البارود، وغيرها الكثير.هذا فضلاً عن اسهاماتهم الكبيرة في حقول العلوم الإنسانية ، كالتاريخ ، والإقتصاد ، والسياسة والقانون ، والتربية ، والنفس ، ومناهج البحث ، والاجتماع ، والنظم الإدارية ، والآداب والفنون .. إلى آخره. وتأثيراتها في مجرى الحضارات البشرية ، وخاصة الحضارة الغربية ، فهي أوضح للعيان وأشد حضوراً من أن يشار إليها أو يدلل عليها. (أثر العرب في الحضارة الأوربية ، جلال مظهر : دار الرائد ، بيروت ، 1967م.:صفحات: 170-171-192 )

  ورغم تلك المبتكرات والمخترعات والكشوف في مجالات العلوم المختلفة، فقد كان الاسهام  الاكبر للمسلمين  في مناهج وطرق البحث العلمي التجريبي، الذي كان أساساً للحضارة الأوربية الحديثة، والذي كان ابتكاراً إسلامياً خالصاً، لان الثقافة القديمة وخاصة اليونانية  كانت تهمل الطرق التجريبية وتحتقرهاـ ولا تعني إلا بالدراسات النظرية المجردة. فاستطاع المسلمون ان ينشئوا منهجاً في البحث العلمي التجريبي يقوم على ما يعرف بأسس المنهج العلمي التجريبي، كالملاحظة، وتمييز الظواهر بعضها عن بعض، والاستقراء، وصياغة القوانين، والموضوعية، وتحري الحقيقة.( انظر:خصائص التفكير العلمي بين تراث العرب وتراث الغربيين،عالم الفكر ،مجلد 3 عدد:4 الكويت 1977.).

ويعود هذا المنهج في أصوله إلى ما سبق أن وضعه علماء الأصول والحديث من أسس وقواعد ،استمدوها مباشرة او بطريقة غير مباشرة من القرآن و السنة.  فلدى ، اولئك العلماء تكونت اسس المنهج العلمي قبل ان ينتتقل إلى العلماء التجريبيين ، الذين نقلوه من مرحلة النظر إلى التطبيق. والدليل على ذلك ما نجده عند ابن الهيثم في رسالته في الضوء، إذ يقرن لفظ الاعتبار "التجربة" بلفظ السبر، والمراد به الابطال، وهو اللفظ الوارد عند علماء الأصول والمتكلمين". ( انظر:منهج  البحث العلمي عند العرب( محمد جلال موسى) ص:27).

ويبتدئ المنهج التجريبي لدى علماء المسلمين بمرحلة الشك المنهجي، الذي يقود إلى تمحيص الحقائق، ونقد المصادر، ويمهد للتثبت من صحة الأفكار. وقد نادى بذلك كل من: النظام، والغزالي، والحسن بن الهيثم، ووفقاً لهذا قيم ابن الهيثم فكر بطليموس وآراءه، وأشاد بجهوده في الرياضيات والعلوم، وذكر أنه وجد في كتبه علوماً كثيرة وفوائد عظيمة، ولكن لم يمنعه هذا من الاشارة إلى مواضع الضعف في أفكاره وعباراته ويقول عن ذلك: " لما نظرنا في كتب الرجل المشهور بالفضيلة،وجدنا فيها علوماً كثيرة،ومعاني غزيرة، كثيرة الفوائد، عظيمة المنافع، ولما خصمناها وميزناها، وتحرينا إنصافه وإنصاف الحق منه، وجدنا فيها مواضع مشبهة، وألفاظ بشعة، ومعاني متناقضة، إلا أنها يسيرة في جنب ما أصاب فيه من المعاني الصحيحة. فرأينا أن في الامساك عنها هضما للحق، وتعديا عليه، وظلما لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه. ووجدنا أولى الأمور ذكره هذه المواضع، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدى إلى حقائقها".(مجموعة رسائل الحسن بن الهيثم،طبع حيدر اباد الدكن 1357،رسالة في ضوء القمر ص:3 نقلا عن تطبيق المنهج ص:113.)

وهكذا زاول علماء المسلمين من ناحية عملية هذا الشك في دراساتهم العلمية ، فلم يسلموا بما قاله مشاهير المفكرين ، بل أخذوا يعيدون النظر فيما يتلقونه منهم ، ويحصوا أفكارهم لمعرفة صوابها من خطئها ، و عملوا على إكمال نقصها أو إبدالها بغيرها من الأفكار التي اثبتت التجربة أو شهد العقل بصوابها.

  أما الملاحظة، وهي الاساس الثاني من أسس المنهج العلمي فقد دعا علماء المسلمين إلى استخدامها، ومارسوها فعلاً في بحوثهم، وإستعانوا بها في تمحيص أقوال من تقدموهم، والكشف عن أخطائهم . فجابر بن حيان (198 هجرية/813م) ، يقول في المقالة الأولى من كتابه، (الخواص الكبير): " ويجب أن تعلم انا نذكر في هذه الكتب، خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه ، بعد أن امتحناه وجربناه. فما صح عندنا بالملاحظة الحسية أوردناه، وما بطل رفضناه".

أما الحسن بن الهيثم فيقول في مقدمة كتابه "المناظر" : ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات ما يخص البصر في حال الابصار ، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والتدريب مع إنتقاء المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج .. ونصل بالتدريج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وتنحسم بها مواد الشبهات". (انظر: في تراثنا العربي والاسلامي( توفيق الطويل) ص:18).

وتبدو مثل هذه الشواهد كثيرة، لا سيما في مجال الطب والفلك والجغرافيا. فرغم إعجاب العلماء المسلمين بجالينوس وطبه، فقد كشفوا في ضوء خبرتهم الحسية وملاحظاتهم، الكثير من اخطائه . . ويقول أحد هؤلاء الأطباء :" فشاهدنا من شكل العظام ومفاصلها وكيفية إيصالها وتناسبها وأوضاعها ما أخذنا علماً لا نستفيده من الكتب ، إما أنها سكتت عنها ، أو لا يعني لفظها بالدلالة عليها ، أو يكون ما شاهدناه مخالفاً لما قيل فيها ، والحس أقوى دليلاً من السمع ، فإن جالينوس وان كان في الدرجة العليا من التحرى والتحفظ  فيما يباشره فان الحق أصدق منه." (المصدر السابق:ص: 20.).

   أما التجربة التي هي مدار البحث العلمي التطبيقي، فقد فطن المسلمون إليها، واهتموا بها. وأسماها جابر بن حيان بالتدريب، وقال: "فمن كان درباً (مجرباً) كان عالماً حقاً ، ومن لم يكن درباً (مجرباً) لم يكن عالما،ً وحسبك بالدربة، (اجراء التجارب) في جميع الصنائع، أن الصانع الدرب يحذق وغير الدرب يعطلويقول أيضاً: إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، و ان المعرفة لا تحصل إلا بها".".( مناهج البحث  عند مفكري الاسلام ( علي سامي  النشار) ص:262).،

وفي ظل تجاربه وفق جابر إلى تحضير كثير من العناصر الكيميائية ، وكان ابن الهيثم يزاول التجربة العلمية تكملة للملاحظة الحسية ، ويسميها "بالاعتبار". وقد قام بالكثير من التجارب التي مكنته من التوصل إلى كشوفه العلمية. وقد تميز علماء المسلمين بالنزاهة في الحكم والموضوعية في البحث . وتشير كثير من النصوص إلى حرصهم على ذلك. ،وقد أكد ابن الهيثم في كتابه "المناظر" على ذلك حيث قال: " ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه إستعمال العدل لا إتباع الهوى ، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ، وليس ينال في الدنيا أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين".

    ويذهب ابن رشد إلى هذا ايضاً إذ يقول: " إن من واجبنا، إذا نظرنا فيما قاله من تقدمنا من أهل الأمم السابقة، أن ننظر الذي قالوه من ذلك ، وما أثبتوه في كتبهم ، فما كان منه موافقاً للحق قبلناه، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم . وعلينا ان نستعين على ما نحن بسبيله بما قال من تقدمنا في ذلك ، وسواء كان هذا الغير مشاركاً لنا في الملة أو غير مشارك".فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال( ابن رشد) ص:17.

وبهذا ابتدع علماء المسلمين منهجاً للبحث التجريبي الاستقرائي ينصب على ملاحظة الظواهر الجزئية، وإجراء التجارب عليها بغية تحديد سلوكها ، والكشف عن القانون العام الذي ترتبط بموجبه هذه الظواهر ، وهذا هوالطريق الذي بدأه الأصوليون في منهجهم، فمارسوا الاستقراء على أساس الظواهر الجزئية منتهين إلى صياغة الحكم الشرعي الكلي ".( انظر: مناهج البحث ( النشار ) ص:261-271).


أثر الفكر الاسلامي في أوروبا (4)

  من سمات الفكر الإسلامي انه فكر إنساني خلا من تلك النزعة العنصرية والأنانية التي تحتكر المعرفة والعلم ، ذلك ان الفكر الإسلامي مرتبط بقيم الإسلام ومبادئه التي تؤكد على المساواة بين الناس ، وان معيار التفاضل هو مقدار ما يحمل كل إنسان من قيم إنسانية أو تقوى كما عبر القرآن الكريم. وكما ان الفكر الإسلامي شارك في صياغة مبادئه وتكوينه، علماء من كل الأجناس والشعوب الإسلامية وغير الإسلامية ، فان علماء المسلمين لم يحتكروا ما توصلوا إليه من علوم ومعارف ، ولم يضنوا بها على الآخرين ، بل أتاحوا دراستها وأباحوا الانتفاع بها لغير المسلمين، بل لم يبخلوا حتى على أعدائهم بعلم أو يضنوا عليهم بمعرفة..

     فالمسلمون فى الأندلس قدموا منجزاتهم العلمية للمسيحيين ، ولم يصدهم شنآن القوم ومحاربتهم للمسلمين من ان يبذلوا لهم العلم. بل فتحوا صدورهم ومعاهدهم لكل طالب علم أيا كانت الجهة التي قدم منها ،ووضعوا كشوفهم ومعطياتهم أمام الجميع.وكان للتسامح الذي تحلى به خلفاء المسلمين  في الأندلس أثره في إقبال العلماء النصارى من أبعد الأقطار على تلقي العلوم من المدن الإسلامية المزدهرة آنذاك.

    وبدأت حركة ترجمة معاكسة هذه المرة من العربية إلي اللغة اللاتينية،ورغم أن بدايات هذه الحركة تعود إلى القرن التاسع الميلادي،فان العصر الذهبي لها كان القرن الثاني عشر الميلادي،ومن خلال مراكز العلم ومنارات المعرفة آنذاك:في أسبانيا وصقلية ونابلس، نقلت كتب الفلسفة والطب وعلوم الرياضة والفلك وغيرها من العربية،ولعبت مدينة طليطلة، دورا هاما في هذه الحركة العلمية لا سيما بعد سقوطها في يد المسيحيين عام1085،فنقلت علوم اليونان التي تناولها المسلمون بالدراسة والتمحيص وإضافة الجديد المبتكر إليها،كما نقلت انجازات المسلمين العلمية في مجالات العلوم الطبيعية والكيماوية والفلكية والطبية وأنشئت الجامعات الأوروبية التي عكفت على تدريس العلوم الإسلامية على أوسع نطاق،مثل جامعة بادوا وبولونيا،اللتان أنشئتا في أخريات القرن الثاني عشر،وجامعة باريس التي أنشئت  ما بين 1150-1170،وجامعة أكسفورد عام 1275،ثم تلتها جامعة كمبردج في نفس القرن،وجامعات أسبانيا عام 1346،وغيرها من الجامعات التي ألهبت حماس الشباب الأوربي إلى الاغتراف من بحر المعرفة العربية في مجالي الفلسفة والعلم." ( أنظر:تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ( عبد الحليم منتصر) ص:236-298.)

   وفي هذه الأجواء العلمية ظهر أعلام النهضة الأوربية الذين قادوا الحركة العلمية من أمثال جاليليو ،ودا فنشي وكوبرنيكس ونيوتن وبيكون وغيرهم،متأثرين خطى العلماء المسلمين من أمثال :ابن الهيثم،وابن سينا،والرازي،والخوارزمي،والبتاني،وابن النفيس،وابن يونس والبيروني وغيرهم.

   ويعترف مؤرخو النهضة الأوربية بان كثيرا من الآراء التي توصل اليها علماء عصر النهضة سبق إليها علماء العرب،والواقع كما يقول كاجوري،ان وجود ابن الهيثم والخازن ،والبيروني،وجابر وغيرهم كان ضروريا لظهور جاليليو وكوبرنيكس ونيوتن وغيرهم من علماء النهضة. (المصدر نفسه: ص:215.)

   فالنهضة الأوربية الحديثة لم تكن من عدم ،ولم تنشأ من فراغ،كما أنها لم تكن أمتدادا مباشرا لحضارة الإغريق والرومان،لأن النهضة الأوربية بدأت في القرن الخامس عشر،بينما انهارت الحضارة الرومانية في القرن السابع الميلادي،وخلال هذه القرون الثمانية التي توسطت بين النهضة ونهاية الحضارة ا لإغريقية،كانت أوربا تعيش فيما يعرف بالعصور الوسطى أو عصور الظلام.

  في هذه الفترة الممتدة كان يحمل مشعل الحضارة العالمية،والثقافة الإنسانية العلماء المسلمون في المشرق الإسلامي ومغربه في الأندلس،وكانت اللغة العربية هي اللغة العلمية العالمية.

  ان الأوروبيين لم يدرسوا كتب اليونان والأمم المتقدمة إلا مترجمة الى العربية أولا ،ولا تزال كثير من  الكتب العلمية لكبار الأطباء والرياضيين والكيميائيين والفلكيين والجغرافيين،والنباتيين المسلمين ،لا تزال موجودة بنسخها الأصلية أو المترجمة الى اليوم في دور الكتب الغربية في موسكو وبطرسبرج،وبرلين ولاهاي،وأكسفورد ولندن وروما وباريس وقرطبة. وتحمل اللغات  الأوربية كثيرا من  المصطلحات العلمية العربية في مختلف مجالات المعارف والعلوم.فالتقدم العلمي التجريبي الذي حققته الحضارة الغربية الحديثة ،لم يقم على ميراث "أوربي غربي"،بقدر ما قام على ميراث شرقي إسلامي.يقول  المؤرخ الأوربي أغناسيو أولاغويه،في كتابه : العرب لم يستعمروا أسبانيا :" لقد ولد الغرب المعاصر من أسبانيا الفونس العاشر،ومن صقلية فردريك  الثاني،وهما المعجبان بالحضارة الإسلامية المتحمسان لها،تلك الحضارة التي كانت كأنها قابلة أو أم مرضع للحضارة الغربية.،(انظر :ما يعد به الإسلام (جارودي) ص:140.)

 ولكن أثر الفكر الإسلامي يتجاوز المنجزات العلمية والإكتشافات التي أفادت منها أوروبا،الى أنه أهدى أوروبا المنهج العلمي، الذي قامت عليه الحضارة الأوربية الحديثة،ويؤكد ذلك بريفولت في كتابه “بناء الإنسانيةHumanity The Making of”،قائلاً: "إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين لها بوجوده نفسه، فالعالم القديم – كما رأينا – لم يكن للعلم فيه وجود، وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علومًا أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم، وأخذوها عن سواهم، ولم تتأقلم في يوم من الأيام، فتمتزج امتزاجًا كليًا بالثقافة اليونانية. وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها، والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا عن المزاج اليوناني، ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهيليني، أما ما ندعوه (العلم) فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة، بطرق التجربة والمقاييس وتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج أوصلها العرب إلى العالم الأوربي" ( Making of Humanity (Robert Briiffault) London,George Allen& Unwin.1st Edit.1919.P.191)

 بهذا المنهج العلمي التجريبي أسهم العرب في نهضة أوروبا حينما انتقل ذلك المنهج إليها وأخذت به ، وكما تقول المستشرقة الالمانية زيغرد هونكه : "إن العرب لم ينقذوا الحضارة الاغريقية من الزوال ، ثم نظموها ورتبوها وأهدوها للغرب فحسب ، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع. لقد قدم العرب للغرب أثمن هدية، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب الطريق لمعرفة الطبيعة وتسلطه عليها اليوم".( انظر: شمس العرب تسطع على الغرب،( زيغرد هونكة) ص:339-375.).

   وقد حاول بعض الأوروبيين أن ينكروا هذه الحقيقة،وينسبوا الفضل في صياغة المنهج التجريبي الى فراسيس بيكون( 1561-1626)،أو من قبله الى روجر بيكون ( 1224-1292)،ولكن هناك من  المنصفين من رد هذا ،ونسب الفضل الى أهله. فهاهو بريفولت يقول: ""إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد، على خلفاء معلميه العرب في الأندلس، وليس لروجر بيكون ولا لسميه (يقصد: فرانسيس بيكون) الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربي وعلوم العرب، هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة. والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هو طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية، وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارًا واسعًا، وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوربا". Making of Humanity (Robert Briiffault) PP: 200-201))

  وهكذا يمكن القول بأن الفكر الإسلامي،قدم إضافة حقيقية للفكر الإنساني يدين بهاهذا الفكر الى يومنا هذا،كما أن العرب والمسلمين من خلال حركتهم العلمية وطابعها الإنساني قبولا وردا،وضعوا مبدأ ساميا في تبادل المعرفة بين الأمم والشعوب.


الفكر الإسلامي الواقع وآفاق المستقبل  (5)

    نتيجة لعوامل  عديدة بدأ الفكر الإسلامي في الجمود والتقهقر والانحطاط ،واصابه ما أصاب الحياة الاسلامية في عمومها من انهيار وتخلف. وقد بدأت بوادر ذلك الانحدار منذ أواخر القرن السادس الهجري،وتمثلت مظاهره في الركود العقلي ،والفرقة النفسية والتحزب الطائفي والانقسام المذهبي .وتوقفت الحضارةالاسلامية عن الابداع  بعد أن توقف المجتمع الاسلامي عن النمو والتطور،وفقد الفكر الاسلامي حيويته وفعاليته،وبلغ هذا الانحدار مداه في أواخر الدولة العثمانية ،حيث استشرى الفساد وسوء الادارة،وتردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ،وساد الضعف والتفكك وتخلف الفكر ،وانتشرت البدع والخرافات.وانطفأت جذوة العلم.

    ورغم جمود الفكر الاسلامي ،والانهيار الذي أصاب الحضارة الاسلامية،فان عوامل القوة الذاتية في الفكر والحضارة ،لم تمت ،وبقيت كامنة في أعماقها،تظهر بين آونة وأخرى،في شكل دعوات تجديد،تحاول مراجعة الماضي وتقويم الواقع ونقد الذات،للوقوف على أسباب التقهقر والسقوط.( انظر: مفهوم تجديد الدين( بسطامي محمد سعيد) ،دار الدعوة،الكويت 1405/1984. ).

 وقد ظهر خلال التاريخ الإسلامي العديد من المجددين الذين حاولوا احياء الأمة والنهوض بها. وقد ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1703-1791م)، رائدا لأول حركة تجديد في العصر الحديث، وقد كانت دعوته رد فعل قوي تجاه الوضع المتردي الذي آلت اليه حال الأمة في ذلك الوقت  وأحدثت تحولاً كبيراً لم يقف عند حدود الجزيرة العربية بل امتدت أثاره لتشمل أنحاء مختلفة في العالم الإسلامي ، فظهرت العديد من الدعوات والحركات الإصلاحية تأثرت بحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كالدعوة الإصلاحية في اليمن على يد الإمام الصنعاني ( 1099 -1182 ) والشوكاني ( 1173-1250) والحركة السنوسية في شمال أفريقيا ، والحركة المهدية في السودان وغيرها من حركات الإصلاح في الهند ونيجيريا ووسط آسيا وشرقها. ( بحوث أسبوع الشيخ محمد ابن عبد الوهاب،ج2 ص:291 إلى نهاية الجزء.).

 الا أن مسيرة الفكر الإسلامي سرعان ما اتخذت منعطفا حاسما حينما اصطدمت بالاستعمار الذي سلب الأمة الأرض والثروة والأمن والهوية ،من خلال عدوانه العسكري وسيطرته الاقتصادية والسياسية والفكرية. وقد بدا رد الفعل تجاه الهجمة الاستعمارية  في مظهرين مختلفين:مثل أحدهما رفاعة رافع  الطهطاوي( 1801-1873م)،وخير الدين التونسي(1810-1884م)، وظهر في صورة الانبهار والاعجاب بالنموذج الغربي ومحاولة تقليد نمطه الحضاري ،والأخذ بأساليبه في السياسة والاقتصاد والاجتماع ،مع الأخذ بعين الاعتبار المحافظة على الشخصية العربية الاسلامية وعدم المساس بأساسيات الشريعة الاسلامية. بينما مثل  المظهر الآخر جمال الدين الأفغاني،(1254 ﻫ-/1838م-1315هـ1897م) ، وتلامذته محمد عبده،( 1266-1323هـ) ورشيد رضا ،(1282/1354 -1865-1935)،رغم الاختلاف بين الشيخ والتلاميذ في الاسلوب والمنهج.فقد اتخذ هؤلاء من الاسلام منطلقا لمحاربة الاستعمار ،واصلاح الأمة من الداخل، ومقاومة مظاهر التخلف الحضاري والجمود الفكري .وقد استطاع الافغاني من خلال احتكاكه المباشر بالواقع والتفاعل الحي مع الساحة الاسلامية،وقدرته على استيعاب حالة الأمة العامة،وما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية أن يسهم بعمق في تطور الفكر الاسلامي وفي تشكيل ملامحه العامة واتجاهاته البارزة،متمثلة في يقظة الأمة والتصدي للهجمة الغربيةـوالدعوة الى الاصلاح السياسي والتخلص من آثار الاستبداد،.بينما قصرت جهود الشيخ محمد عبده، ومحمد رشيد رضا على ميدان الفكر ومحاولة تحريره من قيد التقليد وتطهيره من البدع والشوائب والدعوة لاعلاء قيمة العقل والعودة الى الأصول والدفاع عن الاسلام ضد منتقديه.

        كما أثرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما أنبثق عنها، (حركة الأحياء الحديثة التي قادها الأفغاني وتلاميذه)،  في ظهور جماعات إسلامية  سعت على اختلاف فيما بينها ،إلى أحياء الإسلام وإصلاح أحوال المسلمين، و الدعوة إلى الالتزام بمنهج السلف والعودة إلى القرآن والسنة ، وتطهير العقائد والعبادات من البدع والخرافات . وتطهير المجتمعات الإسلامية من التخلف والجمود، كما وقفت تلك الجماعات في وجه الغزو الفكري الغربي ومظاهر التغريب التي تبنى دعاتها المقولات الغربية في السياسة والاقتصاد ونظم التشريع،ودعو الى تقليد المظاهر الاجتماعية والقيم السلوكية للحضارةالغربية،والأخذ بنظم التعليم الغربي في المدارس والجامعات الى غير ذلك من أوجه التغريب وطمس معالم الأمة وهويتها.

  وقد استطاعت تلك الجماعات تجاوز مرحلة الصدمة الأولى التي واجهوا فيها الفكر الغربي،وحققت ما يلي:

*تأصيل مفهوم الاسلام الشامل عقيدة وفكرا ومناهج حياة ،جامع لكل أوضاع الكون والبشر والمجتمع.

*التصدي لتيارات التغريب ومقاومة التحدي الحضاري والمحافظة على هوية الأمة الحضارية المتميزة وابراز ذاتيتها وخصوصيتها المستقلة.

*احياء روح الاسلام تربية وسلوكاً وقيماً واشاعتها في المجتمع.

*اذكاء روح التحرر الوطني وحشد طاقات الأمة من أجل قضية فلسطين.

*دعم وتعزيز العمل الخيري والاجتماعي،والدعوة الى تحقيق الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الذات في بناء الاقتصاد الوطني.واعادت ثقة الأمة وقناعتها قناعة تامة بمزايا الاسلام وخصائصه وتفوقه فكرا وثقافة وعقيدة ونظاما ومنهاج حياة وأخلاقا وقيما ،وادراك حجم الغزو الثقافي والاستلاب السياسي والاقتصادي الذي أسلم الأمة للتبعية التامة والتخلف المريع.

   وهكذا اسهم الفكر الاسلامي في هذه المرحلة في بعث يقظة عامة في الأمة ،اشعرها بهويتها ،وخلصها من الانهزامية واليأس،وأوقفها على أعتاب ما يعرف بالصحوة الاسلامية.

    ورغم ما صاحب هذه الصحوة من حماس ورغبة أكيدة في التغيير واخراج الأمة من حالة التخلف والقصور التي لازمتها ردحا من الزمن،فان الأمة الاسلامية ووجهت بتحديات متنوعة داخلية وخارجية:

     فخارجيا  نجد أن مواجهة الفكر الإسلامي مع الحضارة الغربية ورموزها في العالم الإسلامي لم تهدأ،بل ازدادت قوة وعنفاً،واتخذ الغرب استراتيجية سعى من خلالها الى اثقال الأمة الإسلامية وشغل الفكر الإسلامي بجملة من المشكلات والقضايا التي تستهلك جهد المفكر وتتحكم بمسارات الامة العقلية ونشاطاتها الثقافية ،واصبحت هناك مراكز متخصصة لصناعة الاهتمامات في العالم الاسلامي لابقائه على الساحة الفكرية نفسها،يراوح فيها و لا يستطيع تجاوزها،وكلما كاد أن يفرغ من قضية القي اليه بقضية أخرى ،وكلما حاول الانتصار في موقع فتح عليه جبهة أخرى ليصرفه اليها ،( انظر: نظرات في مسيرة العمل الإسلامي ( عمر عبيد حسنة)،ص:61. ). وقد كان من آثارهذا الاستنزاف المستمر لطاقات المسلمين الفكرية والاستهلاك الدائم لنشاطاتهم الذهنية، حرمان المفكرين من النظر في مشكلات الأمة الحقيقية  وعدم القدرة على تصنيفها ،والعجز عن تفهم وتحليل تعقد الظاهرة الاستعمارية التي تطورت بعد ذلك الى الامبريالية ،وهي تسير حاليا نحو تشكل جديد في ظاهرة العولمة،والتي تطوقهم من كل جانب وبقوا على مستوى رد الفعل في علاقتهم وصراعهم مع المشروع الثقافي الغربي الأمر الذي يفسر اعادة انتاج الفكرالاسلامي المعاصر لقضاياه القديمة واعادة طرحها بنفس الشروط وذات المواصفات التي كانت ملازمة لها مع أوائل القرن التاسع عشر."( اشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر ( محمد عمارة وآخرون) مركز دراسات العالم الإسلامي –مالطا. ط 1 خريف 1991 ص:218-251.).

    وهكذا استمر ذلك الصراع التاريخي بين الاسلام والغرب الذي سعى الى ممارسة عمليات الاستلاب الحضاري عن طريق ضغوط متنوعة بقصد طمس الهوية والخصوصية العربية الاسلامية وتكريس التبعية الحضارية.

   وفي الداخل واجه الفكر الاسلامي اصنافا من الضغوط المجتمعية التي تمثلت في الصراعات الطائفية والعرقية والدينية،وتزايد موجات العنف والتطرف والقمع والاضطهاد،واخفاق خطط التنمية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة ،التي هددت استقرار الأمة وسلامتها وأمنها،وزادت من الفجوة التي تفصلها عن حضارة العصر.كما نشطت دعوات عملت على تشويه صورة الاسلام وادانته والتخويف منه،وتصويره للرأي العام على أنه ردة حضارية،ومعاد للتطور والديمقراطية ولقيم الحريات وحقوق الانسان والمساواة واحترام أوضاع المرأة والاقليات وأنه دعوة للتطرف والعنف.الأمر الذي القى بمزيد من الأعباء على الفكر الاسلامي ، ويجعل السعي لأي نهضة فكرية للأمة تستلزم ما يلي:

أولاً: أن يقوم الفكر الاسلامي بعملية نقد ذاتي تتم من خلالها مراجعة يقظة ومستمرة ومتطورة ،للبنى الفكرية في المفاهيم والمناهج والممارسات.وتسعى الى تقديم الصيغ والرؤى والمفاهيم التي تأخذ بتعاليم الإسلام بما يتناسب مع الحياة المعاصرة ،ويحفظ للمجتمع هويته وعناصر قوته وتميزه. ويمكن ان يتم ذلك من خلال مؤسسات فكرية توجه مسار الحركة البحثية والعلمية ،وتضع لها أولويات ،وتستفيد من التطور التقني في نظم المعلومات ومصادر المعرفة.وتقنياتها الحديثة.

 ثانياً: ان يقوم  المفكرون الإسلاميون، ، بقراءة موضوعية للتاريخ والتراث الإسلامي، تنطلق من الصف الإسلامي، ووفقا للمعايير الإسلامية ،التي يميز فيها بين الأصول الدينية الثابتة ،وبين تراث المسلمين  الذي هو نتاج للعقل وانجاز انساني يخضع لما يخضع له الإنسان من تغير الزمن واختلاف المصالح والحاجات،على أن يكون هدف هذه القراءة اعادة الاعتبار للتاريخ والتراث ،لاتجريحهما او الإساءة لهما. (انظر :رؤية في الآفاق المستقبلية لتجديد الفكر الإسلامي ( علي فهد الزميع) ،ندوة مستجدات الفكر الإسلامي،الفكر الاسلامي بين البناء والهدم .)

 ثالثاً: تجديد دراسات العقيدة الإسلامية والعودة بها مرة أخرى الى منهج القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم،والبعد عن الجدل الكلامي،والمصطلح الفلسفي. وتخليص العقيدة من مظاهر البدع ،والعقلية الخرافية والتواكلية المميتة.ومجابهة الفكر المادي الحديث، والفلسفات والأفكار المعاصرة. ( انظر: التطور والتجديد في دراسة العقيدة الإسلامية( احمد محمد الجلي) مؤتمر تجيد الفكر الإسلامي ،جلمعة اليرموك 5-7 يوليو 2001.)

  رابعاً:تجديد الفقه الإسلامي،وتنمية وتشجيع روح  الإجتهاد وحرية البحث والتفكير،وتهيئة أجواء صحية  تسمح بتعدد الرؤى وتنوع الاجتهادات ،وتنأى عن العصبية المذهبية الضيقة،وتراعي معطيات الواقع المعاش، وتهتم بقضايا الأمة، وتسعى الى حل المشكلات التي تواجهها .والاهتمام بدراسة المفاهيم الكلية في النظم العامة في الشريعة الإسلامية :كنظام الحكم والاجتماع والاقتصاد والدفاع والقضاء والتربية.

 خامساً:تقديم حلول عملية للمشكلات التي تواجه الفكر الإسلامي والأمة الإسلامية ،كالمظالم الإجتماعية وسوء توزيع الثروات ،وابرازرؤية الإسلام للعدالة الاجتماعية ، وتأكيده لحقوق الإنسان ، الى غير ذلك من قضايا التنمية ،والتربية والإعلام والمرأة .وموقف الإسلام من الأقليات المذهبية والطائفية والعرقية ،والأقليات غير المسلمة، ووضع ضوابط لعلاقات المسلمين بالآخرين عموماً،في ضوء مقررات العلاقات الدولية الراهنة،سعيا ً الى ارساء دعائم التعاون الإيجابي والعمل المشترك وتبادل المنافع ،وفق معايير تتسم بالعدل والتوازن،والسعي الى تعزيز الحضور الإسلامي في المنظومة الدولية.

 سادساً : ان تكون الغاية القصوى من هذا الجهد الفكري ،تقديم نموذج حضاري ،ملتزم بالأسس العامة ،والقواعد الرئسة للإسلام،ويجسد المكونات القيمية والتراثية والإجتماعية والثقافية للمسلمين،مع الاستفادة من خلاصة التجارب الإنسانية والتقدم العلمي الذي بلغته البشرية في مجالات الحياة المختلفة،بما لا يتعارض مع المبادئ الإسلامية .


 أ.د. احمد محمد أجمد الجلي


Ahmed Mohmed Ahmed Elgali

ahmedm.alglai@gmail.com

السبت : 2/ ربيع الأول /1445ه

الموافق: 16/ سبتمبر/ 2023م

 

آراء