الفنان النصري.. قوش يسيئك، اعتذارك للثوار يفيدك،!

 


 

 

وفقاً لما رُوي، جاء شاب إلى حكيم وطني فقال له: يا حبر الأمة، والعارف بكاشف الغمة، من أحق الناس بالحذر في شؤون الموقف السياسي من الحكومات؟ قال: الفنانون، قال: ثم من؟ قال: الرياضيون، قال ثم من؟ قال: الإذاعيون، والتلفزيونيون معاً، قال ثم من؟ قال: الدبلوماسيون، قال ثم من؟ قال: الدبلوماسيون!
فتعقل الشاب القرامشي الباحث عن صدفة الحق. ولكن ما شغل مخيخه هو تكرار صاحب الحكمة لمفردة أهل السفارة دون الآخرين الأحق له الحذر من تخاليطهم السياسية. قفل الشاب عائداً إلى منزله ثم غشي دار الوثائق عند الصباح حتى يجد في أرفف الأرشيف المغبر خبراً عن دبلوماسيين اعتذروا لنميري، أو البشير، عن تمثيلهما في المحافل الإقليمية، والدولية، فوجد صلاح أحمد إبراهيم، وعلي حمد لا غيرهما.
وعندما نقب الشاب المهموم بوطنه في الإنترنت وجد أقل من عشرة دبلوماسيين استقالوا عن نظام البرهان بينما الذين أعادتهم ثورة ديسمبر يعدوا بالمئات ممن فصلهم البشير. ولكن هؤلاء النفر المخادعين سياسياً استمرأوا حياة الدعة فاستمروا في جني الدولارات، وتنسم المقامات المهنية العليا بلا ضمير وطني، او أخلاقي. ومن بين هؤلاء الشابة الثورية حديثاً أميرة عقارب، والحارث إدريس الذي قام بدور خرافي للدفاع عن انقلاب البرهان في أروقة الأمم المتحدة، وهو الذي قضى ثلاثين عاما معارضاً، ومنادياً بالديموقراطية أصالةً عن نفسه، وربما حزب الأمة أيضا.!
والحقيقة فإن قائمة الفنانين، والمثقفين، خصوصا، الذين يفصلون مسار الفن والثقافة عن واقع السياسة كثر، وسذج. ومع ذلك فهم مراوغون مثل علي شمو، والتيجاني السيسي، وأبناء المراغنة، أو قل حقيقة مثل مبارك - وعبد الرحمن - المهدي. وإذا أردنا الإحصاء البياني في ما يتعلق بمواقف هؤلاء المعنيين بالسياسية فلا بد أن نبدأ بالذين يجمعون بين مجالهم المحدد والسياسة - إذ لا يفصلون بين المجالين - نظراً لقلتهم في الوسط الثقافي، والفني، والرياضي، والإذاعي، والتلفزيوني، والدبلوماسي. ذلك لأن هناك عازف كمان اسمه جراهام عبدالله يحدثك عن الإمام الغزالي ثم يأكل من مائدة البشير، ويستعطف حمدوك منافقاً بأنه غير إسلامي، ثم يبقى في موقعه وزيراً لإعلام الانقلابيين. ومع ذلك لاحظنا تساهل اعتى المثقفين الذين يتخذون موقفاً مبدئياً في معارضة السلطات الشمولية مع هؤلاء المبدعين لدواعي أنهم صححوا مواقفهم لاحقاً. فاليساريون، والليبراليون والمستقلون، يغفرون لمبدعيهم الذين غنوا لمايو، أو عملوا في مصالحها الثقافية، وتقاربوا مع البشير، واليمينيون يفعلون ذات الشئ. أما الكثير من الجهويين في الغرب والشمال والجنوب والوسط والشرق فلا يرون سببا يجعلهم يخاصمون المبدع الذي يتحدر من أقاليمهم، وهؤلاء تأخذهم العصبية الجهوية، أو القبلية، لدرجة أنهم يرون في ترك، وصلاح قوش، وأبو قردة، نماذج مثمرة لأبناء المناطق البارزين، البارين. فكل جهة من هذه الجهات تفتخر أقلية فيها بمبدعيها، وتغفر لهم إن انحنوا لنميري، أو البشير.
وقد شاهدنا أن في الشرق قد عاد إيلا، وفي الغرب علي محمود وزير المالية المنحل الذي عالج ابنه بنحو ثلاثين ألف دولار من مال البلاد. عاد هذان المتهمان بالفساد لقبيلتيهما - وليس لله - وكأنهما بطلان من أبطالهما. وفي هذه الأثناء نسمع عن استعدادات تجرى هناك لاستقبال قوش ابن الشمال البار - إن لم يكن القبيلة - كما هو متصور لدى فئة قليلة. ذلك رغم أن رئيس جهاز الأمن السابق من أكثر الذين عذبوا مثقفي الشمال في المعتقلات، والسجون، وفي عهده حدثت انتهاكات، وتحرشات جنسية بشماليين، وشماليات. ومع ذلك تطرش أذن فنان الدليب الذي كان يغني في حملات قوش الانتخابية، وبجواره الفنان خالد الصحافة الذي تنكر لمصطفى سيد أحمد الذي خلق نجوميته بأغنيتين من تلحينه، وعاد للجهوية، ورأيته في التلفاز متلفحاً بشال المؤتمر الوطني!.
نعم، إلى حد كبير، القبلية، والجهوية، متوطنتان في كل مجال في السودان بالرغم من كثير مجهودات بذلها بعض من المفكرين، والمثقفين، والفنانين، لتوحيد العقول، والعواطف. ولهذا السبب لم نستغرب أن يسفر الفنان النصري عن جهويته، وهو الذي يصدر بإبداعه من موقع قومي، وبالتالي يقع هكذا فريسة في شراك الذين يرصدون الفنانين الذين يسيرون عكس مسار ثورة ديسمبر العظيمة، والتي استهدفت أول ما استهدفت تحطيم جهاز صلاح قوش، ونظامه المستبد. ولعل النصري شاهد بأم عينه التضحيات الجسام لأبناء الشمال في منازلة نظام المشروع غير الحضاري، ولكن ربما خانه وعيه السياسي، أو بدا كارهاً للثورة التي أطاحت بصديقه قوش.
فالنصري بكل ما جاء في تصريحه حاول أن يقدم مصلحة المنطقة على مصلحة البلد كما فكر ثم دبر بتصريحه الحر، ولكنه من الجهة الأخرى هو التصريح الأخرق المستفز لجملة الثوار في كل بقعة من بقاع الوطن.
وفي هذا لم يراع عازف الطمبور الجيد أنه غنى لحميد أعمالاً ثورية، ولم يراع كذلك أن أبناء المنطقة، والقبيلة، والسودان، ممن يفضلون غناءه تجاوزوا القبلية لإرساء دعائم دولة القانون التي توحد السودان، وتقيم الإصلاح المهني لجهاز قوش، ونافع، الذي عذب، وهجر، المعارضين الشماليين، ومن بينهم الآلاف من أبناء الشايقية الذين هجروا البلد. وأخطأ النصري مرة ثالثة حين لم يراع لدماء آلاف الشهداء من أبناء السودان، وبينهم أبناء الشمال الذين ساهم قوش في الفتك بهم، وملاحقتهم في الداخل، والخارج. فالنصري يدري أن هناك بعض الأمهات الثكلى، والآباء، المكلومين الذين ينتظرون محاكمة عادلة لقوش، وزمرته من بقية جهات السودان الذين استخدموا أسوأ السبل لكسر عزيمة المناضلين، وكان أولهم شهداء رمضان الذين في غالبيتهم شماليون.
لو أن النصري كان عميقاً في نظرته لواقع الثلاثين عاما لوجد أن قوش، ونظامه الخبيث، جعل الشماليين جميعا يدفعون ثمناً باهظاً لهذا النظام الذي شرد أبناء القرير، ومروي، في بلاد الله البعيدة، وانه ليس هناك تنمية عمرانية، أو بشرية، انحاز فيها قوش، وزمرته، لمنطقة الشايقية لا تضاهيها صنائع من هذا القبيل في مناطق السودان الأخرى.
لقد أشفقت على هذا الفنان الذي امتلك شعبية، وحضوراً، وفرصاً، للظهور لم يبلغها فنانو الطمبور العظام أمثال النعام، وبلاص، واليمني، ومحمد جبارة، وصديق أحمد، وجعفر السقيد، وعبد الرحيم أرقي، وغيرهم من فناني، وشعراء المنطقة المناضلين الذين عارضو نظام قوش، وفي قمة هؤلاء الشاعر الفذ محمد جيب الله كدكي الذي قدم القصائد بلغة المنطقة التي هجا فيها النظام، وفوق كل هؤلاء محمد الحسن سالم حميد الذي يدرك النصري رسالة قصائده التي غناها كبغبغاء. وهي ليست قصائد للترويح فقط، وإنما أيضاً لسودان متسامح اجتماعياً لا يتكرر فيه أمثال الدموي قوش. ويكفي النصري أن يعود لسيرة فناني منطقة الشايقية، وشعرائها الصناديد ليعرف إلى حد بلغوا القومية، ولم يسفروا عن جهويتهم يوماً في مواقفهم السياسية حتى غدوا يمثلون لوحة للتعدد الثقافي السوداني، وحقق فنهم، وإيقاعهم، استماعاً عظيماً في كل بقاع السودان. بل أصبح رصيدهم الفني هو رصيد كل سوداني يؤمن بدولة المواطنة التي تتكامل فيها فنون السودان لتعبر عن تنوعه الثقافي.
اتمنى أن يعتذر الفنان محمد النصري عن تصريحه الذي استفز فيه ثوار الشمال المغاوير، وأبناء منطقة الشايقية خصوصاً. ومن الجهة الأخرى فليقبل الثوار اعتذاره لكونه بحاجة إلى الوعي السياسي أكثر من الحاجة إلى ذمه، لمجرد تعبيره عن رأي غير محيط بمجمل ما جرى في البلاد خلال حكم الإنقاذ، حيث لعب قوش دوراً محورياً في تلطيخ سمعته عبر تعذيب الشرفاء من السودانيين.

murtadaelhassan55@gmail.com
///////////////////////////////

 

آراء