القادة الأفريقيون ومحاولات “تصفير العداد”

 


 

 


حملت المدونة الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 25 مارس الحالي مقالاً للسيدة ليندا غرينفيلد مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية تحت عنوان "على الرؤساء الأفريقيين أن يتعودوا على الحياة بعد نهاية دوراتهم الرئاسية". يستهجن المقال كما يشير عنوانه ما يمكن أن يوصف بالتعلق الشديد لغالبية الرؤساء الأفريقيين بالموقع والتحايل على تمديد فتراتهم الرئاسية  دون اعتبار لبنود الدساتير التي تحكم بلادهم. ويقوم الكثير من الرؤساء بتعديل الدستور الذي وضعوه بأنفسهم دون أن يرمش لهم جفن إن أصبح الدستور عائقاً في طريق تحقيق رغباتهم ، وهم لا يعدمون بالطبع من يزين لهم ذلك من بين أفراد بطاناتهم التي تسيطر عادة على مفاصل الدولة. وقد ابتكر عامة الناس في بلادنا لفظاً طريفاً يستعمل في مجال تجارة السيارات المستعملة وينطبق على هذه الممارسة وهو "تصفير العداد".
ومصداقاً لما أوردنا أعلاه ، شهدت القارة الأفريقية عامة وشرق ووسط أفريقيا بصفة خاصة في الآونة الأخيرة عدداً من العمليات الانتخابية المثيرة للجدل. ففي يوغندا جرت انتخابات يشوبها الكثير من التجاوزات مما ألقى بظلال الشك حول حقيقة فوز الرئيس موسيفيني بدورة رئاسية جديدة. أما في بوروندي فقد قاد إصرار الرئيس نكورونزيزا لخوض الانتخابات لدورة رئاسية أخرى بعد ثلاثين عاماً على كرسي  الرئاسة للكثير من الاحتجاج وأحداث العنف مما أدي لمحاولة التدخل من جانب الاتحاد الأفريقي سعياً نحو تفادي تكرار ما حدث في نهاية القرن الماضي من حرب أهلية وإبادة جماعية في ذلك البلد. أما في الكونغو الديمقراطية فقد قام الرئيس نغويسو مؤخراً بتعديل الدستور لإزالة العقبة التي تقف في طريقه نحو فترة رئاسية ثالثة ، وربما فترات أخرى بعدها.
كان الرئيس أوباما قد أكد على حقيقة رفض حكومته لهذه الممارسة وذلك خلال الكلمة التي ألقاها في الاتحاد الأفريقي في يونيو من العام الماضي. اشار الرئيس الأمريكي في خطابه إلى أن أي زعيم يعتقد أن بقاءه في الحكم وعدم الالتزام بضوابط الدستور يمكن أن يؤدي لتحقيق الاستقرار ، أو أنه الشخص الوحيد الذي يضمن وحدة  البلاد إنما يؤكد فشله الذريع في بناء الدولة على أسس ديمقراطية تضمن تداول السلطة بصورة سلمية. وأشار إلى أن القائد الناجح هو ذلك الذي يؤسس لنظام سياسي فاعل ، ومجتمع مدني قوي ، ومؤسسات منيعة تضمن الانتقال السلس للسلطة. كما أكد أن على الرؤساء الأفريقيين أن يتعودوا على فكرة التقاعد ، مشيراً إلى أنه يتطلع لليوم الذي تنتهي فيه فترته الرئاسية الثانية حتى يستمتع بالمزيد من الوقت مع عائلته ويقوم بالكثير من الأعمال المفيدة لخدمة بلاده ومواطنيها ، مؤكداً أن تقاعد الرئيس لا يعني نهاية فترة خدمته لبلاده أو للعالم. أشار الرئيس أوباما في هذا الصدد للدور الكبير الذي لا زال يقوم به الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بالرغم من أنه قد تقاعد عن الحكم منذ عام 1981. ولعل تجربة الرئيس كارتر التي أشار لها الرئيس أوباما في كلمته قد تكررت في القارة الأفريقية وإن كان بصورة محدودة ، وذلك عندما تقاعد القليل من الرؤساء الأفريقيين بعد نهاية الفترة التي حددها الدستور ومن بينهم رئيس بوتسوانا فيستوس موغاي الذي تقاعد في عام 2008 بعد دورتنين رئاسيتين "فقط" ونشط بعد ذلك في مجال العمل الخيري مما أهله للفوز بجائزة مو إبراهيم  للإنجاز في مجال القيادة بأفريقيا. غير أن الكثير من المراقبين يرون أن تجارب هذا العدد المحدود من الرؤساء هي في الواقع الاستثناء الذي يثبت القاعدة كما يقول التعبير المأثور.
ركز الرئيس أوباما في خطابه على ضرورة تبني النظام الديمقراطي في القارة الأفريقية  التي يرى فيها الكثير من المراقبين المعقل الأخير للاستبداد. أشار الرئيس في خطابه إلى أن حكومته لن تتردد في الاعتراض على ما تراه تعدياَ على الممارسة الديمقراطية في القارة حتى وإن أغضب ذلك أصدقاءها المقربين. كما أشار إلى أن تشبث العديد من الرؤساء بكرسي الرئاسة حتى بعد انتهاء الفترة المحددة يمثل تهديداً للديمقراطية في القارة الأفريقية قائلاَ إن محاولة تعديل قوانين اللعبة أثناء المباراة لا يقود إلا لعدم الاستقرار واضطراب الأوضاع كما هو حادث في بوروندي. وفي حديث الرئيس إشارة ضمنية إلى أن عصر الحرب الباردة عندما كانت الدول الكبرى تغض الطرف عن أخطاء أصدقائها قد ولى ، وأن عصراَ جديداً قد حل في مكانه. وفي محاولة للإشارة إلى أن ما تواجهه القارة حالياً هو المرحلة الثانية من "حرب التحرير" ،  أكد الرئيس أوباما أنه كما تلقت الدول الأفريقية الدعم الدولي خلال حرب التحرير من الاستعمار ونظام الفصل العنصري ، فإن الواجب على العالم الآن أن يتحرك عندما تتعرض حقوق المواطن الأساسية للمصادرة بواسطة الأنظمة المتسلطة.
لا شك أن انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة ضيقا كثيراً من هامش المناورة بالنسبة للحكومات الأفريقية وغيرها من حكومات العالم الثالث في التعامل مع الدولة الأعظم في النظام الدولي الجديد. غير أنه وبغض النظر عن مدى صحة موقف أي من الطرفين حول الموضوع الذي تناولناه في هذا المقال ، فإن الرؤساء الأفريقيين يدركون أنهم لا زالوا يملكون هامشاً للمناورة في تعاملهم مع الدولة الأعظم قد يضيق ولكنه لا ينعدم تماماً. لعل الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر حتى الآن من نهاية الحرب الباردة وانفرادها بقيادة العالم ، غير أن النظام الدولي الجديد اتسم بظهور عدد من القوى الدولية كالصين والهند التي وإن لم تبلغ حتى الآن مبلغ الولايات المتحدة من حيث القوة والنفوذ إلا أن دعمها ــ خاصة في المجال الاقتصادي ــ قد يوفر للدول الأفريقية هامشاً من المناورة يمكن أن يساعدها في مواجهة الضغوط التي قد تتعرض لها من أياً كان مصدرها. ويرى بعض المراقبين أن العالم لا زال في مرحلة انتقالية نحو نظام جديد قد يصعب فهم شكله بصورة قاطعة ، ويقول هؤلاء أن كل الدول يجب أن تدرك ذلك لاستنباط الوسائل التي قد تمكنها من لعب دورها على الساحة الدولية يما يخدم مصالحها القومية.

mahjoub.basha@gmail.com

 

آراء