“القبيلة” بين الواقع و المخيال! مدخل في آنثروبولوجيا الهوية والإنتماء

 


 

 

لعل من أخطر المؤسسات الإجتماعية و الثقافية، في أفريقيا بصفة عامة، و في السودان بصفة خاصة، و أكثرها حضوراً في الخطاب الرسمي والشعبي على حد سواء هي مؤسسة ما تعارف الناس عليها بـ"القبيلة". فقد سُميت حروب و صراعات بإسمها (كالحروب أوالصراعات القبلية، إلخ) و نظم البعضُ شعرا و نثرا في مدحها، و تشدق آخرون فخرا بإنتمائهم إليها. إذن لا أحد يُنكر حضور "القبيلة" كخطاب يومي شديد الحساسية! و لعل حادثة الفتاة (ابرار أمير) التي تعرضت مؤخراً الى سيل من التنمر هنا في السودان بسبب إتهامها بـ"الإساءة" لـ"قبيلة" الجعليين لهو خير دليل على خطورة وحساسية خطابي القبيلة و القبلية!

نحاول هنا في عُجالة مُقاربة سؤال ماهية "القبيلة" وفقا لمعطيات الأنثروبولوجيا أو بالاحرى آنثروبولوجيا التاريخ.
بداءاً نتساءل: هل هناك "حقيقة" تُوجد "قبيلة" بالمعنى "الوجودي" للدالة بحيث أنها تُصبح قادرة على إحتلال حيزاً مُتعيّناً/شاخصاً، و إفتراض حياةً فو-تاريخية تفترض نقاءاً ما يُميزها عن بقية "القبائل" بحيث يُمكن تلمس هذا النقاء المُفترض و التحقّق من مصادره و تتبّع جذوره؟ أم أن المسألة لا تعدو عن كونها محض ضرب من ضروب الخيال البشري حيث تمت خلقنتها كسردية خرافية "فو-زمكانية" حتى تُوفر حيزاً آمنا للافراد المنتمين إليها حتى يشعروا في "داخلها" المُتخيّل بالأمن والامان و بالإحساس بالإنتماء و الاهمية؟
نقول، القبيلة، كوجود مادي مُتخيّل، و ليس كخطاب/سردية، هي صناعة كولونيالية محضّة، حيث لم تُوجد في عموم أفريقيا مؤسسة بهذا الشكل الجامد و المُتكلّس قبل "دخول" المُستعمر، حيث كانت القبيلة قبل ذلك لا تعدو عن كونها كيان فضفاض أشبه بالنادي و كانت عُضويتها "شبه" مفتوحة للغاشي و للماشي لطالما كانت هناك مصالح مشتركة سواءا كانت في أوقات السلم أو أوقات الحروب، و كان بإمكان الناس أفرادا و جماعات الدخول أو الهجرة إلى و الإندماج في هذه القبيلة أو تلك في لحظة تاريخية محددة أو الخروج من هذه أو تلك القبيلة (التحالف) و الإلتحاق بقبيلة (تحالف) أُخري، و هكذا. فهب أن شخصا من مناطق حلفا في أقصى شمال السودان ربطته علاقة تجارية (أو أي علاقات أخرى) مع اشخاص في سوق الفاشر_في شمال دارفور_ و إعتاد هذه الشخص على زيارة سوق الفاشر بصورة راتبة تمكن مع الوقت من تعلم لغة و بعض من عادات شركائه في الفاشر يُصبح في إمكان هذا الشخص الإنضواء بسهولة إلى نادي الفور إن كان شركاؤه من الفور أو الداجو أو القمر، الخ.
و الإشكالية الاخرى حول صعوبة حضور "القبيلة" كوجود مُتعيّن و مُتميّز هو إستحالة إرتباط كافة أفراد القبيلة المُحددة بصلة "الدم المحض"، و للحقيقة نقول بأن ممالك غرب أفريقيا، على وجه الخصوص ومن ضمنها مملكة الفور، قد قامت من وقت مُبكر جدا بتجاوز فكرة السلطة السياسية التي كانت تقوم على كيان العائلة/الأسرة الواحدة و التي كانت تنهض على وشيجة علاقة الدم، وذلك عندما أجبرتها الحوجة التاريخية للتوسع خارج نطاق العائلة الضيق الشيئ الذي هيّئ الفرص للقبول بإنضمام مجموعات ثقافية عديدة و متنوعة إلى هذه المملكات مما أدى إلى تقويتها عسكريا و سياسيا و إقتصاديا، ولعل تبني هذه المملكات "الإسلام" خلال هذه الفترة كان ذلك بسبب أن هذا "الدين الجديد" قد جاء بمفهوم "الامة" و الذي سرعان ما صار بمثاية آيديولوجيا براقة في وسعها أن تسوّغ لفكرة التوسع و الإنتشار خارج أطر الاسرة الضيقة و المتكلسة.إذن مع صعوبة و بل إستحالة وجود رابطة نقاء الدم كشرط أوحد لتشكّل مؤسسة القبيلة، يمكننا القول بأن "القبيلة" في حقيقة الأمر هي ليست سوى شكل من أشكال تحالف عائلات و اسر و مجموعات اخرى عديدة مع بعضها البعض بسبب الحروب أو السلام إستطاعت مع الوقت أن تُخلق مجموعة/مجموعات ثقافية "متميزة" سرعان ما تطورت تلك العلاقة نحو تبني لغة محددة أو ممارسات ثقافية أو دينية محددة وفقاً لقوانين صراع القوة و التي غالبا ما تنتهي بالتبني الكلي أو الجزئي للصفات اللغوية أو انماط الإنتاج و الإستهلاك و الطقوس الثقافية أو الإجتماعية الاخرى للمجموعة الاقوى في التحالف و هكذا. ومن هذا السياق يمكن توصيف "القبيلة"، أية قبيلة، بأنها في حقيقتها ليست إلاّ عبارة عن تحالف مجموعات ثقافية و إجتماعية ترتبط ببعضها البعض بإقتصاد المصالح الحياتية و الصراع من أجل البقاء و ليس بـ"نقاء الدم" المُتخيّل! فـ "قبيلتي" الفور و الرزيقات، على سبيل المثال، هما في حقيقة أمريهما عبارة عن تحالفات لمجموعات ثقافية كثيرة تم دمجها خلال فترات تاريخية طويلة و لاسباب كثيرة سياسة و تاريخية، إلخ. و إذا ما تفحصنا علاقة الفور و الرزيقات، على سبيل المثال و ليس الحصر، عبر التاريخ الجيوسياسي للمنطقة نجد أنه قد تحول الكثير من العناصر المُنتمية إلى الفور إلى "رزيقات" و ذلك بتخلي هؤلاء عن حرفة الزراعة و تبني تربية الابقار و من ثم تعلم لغة الرزيقات السائدة و تبني الكثير من عاداتهم و تقاليدهم، و بالمثل أصبح عدد من عناصر الرزيقات عناصر في"قبيلة "الفور بعد أن تركوا تربية الابقار و تبنّوا الزراعة و من ثم تعلموا لغات الفور و الكثير من عاداتهم و طقوسهم. هذه السيرورة كانت سائدة و كانت تُميّز الكثير من المجموعات الثقافية في السودان أو خارج السودان بخاصة في فترة ما قبل الكولونيالية! و لعله من السهولة بمكان أن يلاحظ المتتبع لمسارات المجموعات الثقافية الموسومة بالقبائل، إختلاف سحنات أفراد المجموعة الواحدة من حيث تدرج لون البشرة، أو الشعر، أو شكل الفم، أو الطول و القصر، الشيئ الذي لا يؤكد إلاّ على تعدد مصادر الدماء التي غذت هذه المجموعات عبر فترات تاريخية طولية!
إذن كيف وصلنا إلى هنا، حيث أصبحت "القبيلة " كخطاب، جامد يتحسس المنتمون إليها مُسدساتهم كلما شعروا ب"تهديد" أو "إساة" ما حقيقة كانت او مُتخيلة تستهدف "قبيلتهم" التي تُمثّل دمهم النقي المُتوهّم؟
و كما ذكرنا سابقا، يرجع الفضل (أو قل اللعنة) للمستعمر والذي عندما دخل إلى إفريقيا وجد نفسه في موقع الأقلية بالنسبة لسكان المناطق التي تواجد بها، و كان هذا سيُمثل تهديدأ كبيرأ لوجوده إن إستمر الوضع على هذا النحو، و لكي يُكفي نفسه شر هذا الإحتمال المُميت توصّل "الرجل" الأبيض إلى حيلة (سياسة) فرق تسد (divide and rule)، وكانت من أولى الآليات التي إستخدمها لتنفيذ تلك السياسة هي ألية "التعداد السكاني" (census) و السجلات المدنية. فمع دخول التعداد السكاني تم تسجيل الاشخاص كأعضاء في هذه القبيلة أو تلك بصورة نهائية لا فكاك منها أبدا (تخيل أن يُصبح رنالدو لاعبا إلى الابد في الريال)، وكانت اللغة التي يتحدث بها الافراد في يوم التعداد السكاني هي من المعايير الرئيسية التي أُستخدمت لتحديد "القبيلة" التي يجب أن ينتمي إليها هولاء الافراد. و بهذه الطريقة الجهنمية (حرفياُ) تم حرق قدرة "القبيلة" على التحول و التطور لتصبح بعد ذلك مجرد رماد ميت و بلا خيال. و من الضروري أن نذكر هنا بأنه مع دخول آلية التعداد السكاني كان من الممكن أن يتم تسجيل صاحبنا من حلفا الذي كان يتاجر مع الفاشر كعضو في قبيلة الفور بصورة تعسفية إذا كان قد تزامن تواجده بالفاشر مع يوم التعداد السكاني. و كذلك و بفضل هذه الآلية الجهنمية تم إدراج مفهوم "الوافدين" لتوصيف قطاع إجتماعي/ثقافي عريض بسبب غيابهم عن مناطقهم في اليوم الذي تم فيه إجراء التعداد السكاني سواءا كان ذلك بسبب رحلات الرعي الموسمية أو بسبب الرحلات التجارية بعيدة المدي، أو لاي أسباب اخرى و عودتهم بعد ذلك!
وللأسف، قد لعب الأفندي السوداني المخصي دوراً فاعلاً في إحياء الكيان القبلي بعد أن ورث آلة الدولة و ذلك و نسبة لفشله و عدم قدرته على إستحداث برامج سياسية و إجتماعية و ثقافية بإمكانها أن تستقطب القوى الاجتماعية و المجتمعية المختلفة و المتعددة، لجأ، كسيده الابيض، إلى إستخدام آلية/كرت "القبلنة" للحصول على "التاييد" الشعبي حتي "يُشرعن" هيمنته السياسية و الإجتماعية. و القبلنة المقصودة هنا هي ليست سوى إستخدام القبيلة كدالة خالية (Empty signifier) للكسب السياسي أو الإقتصادي السهل والسريع. لقد شهدنا تنامي مثل هذا الإتجاه خلال إنتخابات النميري لما سُميت بـ"مجالس الشعب"، و نلاحظ الآن ذات الإستخدام و الذي لا يزال يتم في المناطق "الهامشية" التي تنشط بها الحركات المُفلسة و التي لا تجد ما تُسوّق به ذواتها الخاوية سوى آلية "القبيلة" من أجل الإستقطاب الرخيص و المميت لتُجيّش الناس حولها عوضاً عن إفتقارها لبرامج تُخاطب قضايا الناس و هموهم الحقيقية. و السبب الآخر الذي قد يُفسر صعود خطاب القبيلة و القبلية في السودان ليس فقط هو "غياب الدولة" و عدم قدرتها على توفير الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية اليومية للناس الخاصة بالمأكل و المشرب والامن، و لكن أيضاً لتحوّل الدولة التي أصبحت أكثر الجهات إحتكاراً للعنف و لقيامها بالترويع الممنهج و سلب أرض و عرض المواطن البسيط. ففي مثل هذه الظروف غير المؤاتية لا يجد المرء بُداُ من الإحتماء بقبيلة مُتخيّلة حتي يضمن بقاءه.
و أخيراً، و ليس آخرا، نقول، القبيلة هي في نهاية المطُاف عبارة عن بنية ذكورية-أبوية بإمتياز أو قل هي هي، تُستخدم فيها المرأة فقط كحامل لرمزية "شرفها"، و "سمعتها"، وبالتالي يتم حصار المرأة في أضابير هذا الخطاب القاسي و الذي لا فكاك منه، و في ذات الوقت تكون المرأة هي أول من يدفع الاثمان الباهظة إذا تم "خدش" هذا الشرف الجمعي المُتخيّل أثناء الحروب أو أثناء الصرعات الأهلية أو حتى في أوقات السلم.
هاملتون
8 اغسطس 2022

zalingy@gmail.com

 

آراء