المؤتمر الوطنى ينقلب على الديمقراطية الرابعة فى السودان!

 


 

 

وإذ بلغت القلوب الحناجر وظن الناس فى ربوع الوطن أن لا ملجأ من بطش الإنقاذ الا بإعلان الثورة الشعبية وتكرار أكتوبر وأبريل ؛ وزاغت أبصار الساسة القابعين فى المنافى الإختيارية والإجبارية فى أسمرا والقاهرة ولندن وباريس وغيرها من مدن يخططون لمحاربة وإزاحة نظام الإنقاذ ؛ أعلنت الحكومة السودانية توقيع إتفاقية سلام مع الحركة الشعبية. فى ذلك الوقت من العام 2005 حبس الجميع أنفاسهم لما رأو الإتفاقية وقد إحتوت بوضوح على مبدأ التحول الديمقراطى بعد أن صادرها إنقلاب التاسع من يونيو 1989 وأستخسرها فى الشعب السودانى. أى والله لقد إستخسر البشير والترابى وعلى عثمان وعلى الحاج وبدرية سليمان وغازى صلاح الدين والمحبوب والجاز وغيرهم من قيادات الجبهة الإسلامية آنذاك ؛ والتى شاركت بكل أسف فى الديمقراطية الثالثة بكل حماس - إستكثروا أن يعي الوطن جمال الحرية وحلاوة وطلاوة أن يشارك فى صنع القرار. لما رأو الشعب السودانى لا يستحق أن يعيش وينعم تحت ظلال الديمقراطية الوارفة التى من شأنها أن تحرر فيه قيمة الإبداع والإنعتاق من المثبطات القبلية والجهوية وغيرها لِيُحَوِلَ الوطن الى نموذجٍ يحتذى فى القارة السمراء. أَوَا كَمْ ظلمتَ أيها الشعب العظيم فى أن تعيش حراً ولم يمض بعد غير ثلاث سنوات وشهرين منذ أن فجرت إنتفاضتك الميمونة فى أبريل 1986 ؛ ومن قبل ذبح النميرى حريتك على أعتاب نضالك الأُكتوبرى. لقد عاش ثوار أكتوبر الديمقراطية لمدة قاربت الأربع سنوات ونصف قبل أن تأتى مايو بقيادات الشيوعيون الذى توالى عليهم الظلم منذ أن طُرِدَ نوابهم من البرلمان فى 1965 ؛ فكأن ظلمهم بررللإنقلاب ؛ ولا مبرر!

 أما الذين صالوا وجالوا فى إنتخابات أبريل 1986 وحازوا من الممثليين البرلمانيين واحداً وخمسين ، وشكلوا معارضة كان لها هدير وجلجلة ؛ لا بد أنها كانت ستقودهم لتشكيل الحكومة منفردين عند أول إنتخابات كان مخططاً لها العام 1990 كما رأى كثير من المتابعين فى ذلك الوقت لما لمسوه من تقدم فى الفكر السياسى للجبهة الإسلامية على حساب الأحزاب الطائفية. ولكن .... أقولها ، قبل أن أخطها بحسرةٍ شديدة ... لم تمنحهم أنانيهم المفرطة فى التسييد وحبهم الجامح للسلطة الفرصة ليسترشدوا بالمبادئ الديمقراطية  والقيم الدينية والشيم الإنسانية والأخلاق السودانية فقرروا وليتهم ما فعلوا – أن ينقضوا بليل ليأخذوا الشعب السودانى على حين غِرّة. كانت مبراراتهم للقيام بالإنقلاب أَوْهَى من بيت العنكبوت - من أنهم إنما جاءوا لينقذوا الوطن فى وقت وصلت فيه قوات التمرد مشارف مدينة كوستى أو كما زعموا. أستعجلوا تطبيق الشريعة الإسلامية بإعتبار الفلسفة المستنبطة خطأً من قول سيدنا عمر رضى الله عنه - أن الله ليزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن كما كان يردد صديقى "الكوز" أيام الجامعة ممثلا لثقافة تنظيم يوشك أن ينقض على السلطة فى منتصف الثمانينيات !! دع ما قالة أمير المؤمنين فى القرن السابع الميلادى – بل كان هدفهم فى 1989 هو السلطة وحسب !

هكذا قال الخليفة العادل ولكنه لم يحرض على الإنقلاب على الشرعية القائمة. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقلب على شرعية النظام الجاهلى بقوة السلاح وبالخداع بل ترك مكة وما تعبد وهاجر الى المدينة ليقيم أول دولة إسلامية بقيادته على ظهر البسيطة برضاء أهلها الذين خرجوا يستقبلونه وقد هيأوا المكان كما هيأهم الزمان ؛ لرسولهم الكريم ليؤسس دولة إمتد نفوذها فى بضعة عقود لتتضاعف رقعتها الى مئات الأضعاف وقد عمها العدل والمساواة والطمأنينة فكانت إنطلاقات المسلمين الى كل بقاع الدنيا فتحاً وأخلاقاً وعلماً وفوق ذلك إيماناً يرشد النفوس الحيارى فى دياجر الظلمات كلما حلت أو تجلت فى خروقات هنا أو هناك. وما حدث بعد ذلك وبدأ معه العد التنازلى لإضمحلال وضمور المد الإسلامى وتفتت الدولة الإسلامية إنما كان فى الإنقلاب على الشرعية الشعبية والدينية الذى مارسه البشير الأموى والترابى العباسي. تُرِكَت القيم وهُجِرَت الأخلاق وبقى الحرص على السلطة والمغانم والمكاسب ودنيا لا حدود لها كما نرى اليوم فى التحضير لإغتيال الديمقراطية الرابعة فى السودان. فما أشبه الليلة بالبارحة !!

ها هى جحافل المهوسين من المنتفعين من إستمرار الوضع الراهن كما هو عليه تجوب القرى والمدن و"الكنابى" لشراء مزيداً من الذمم. وقد وُضِعَ تحت تصرفهم معظم إمكانيات الدولة وأموال مليارديرات النظام التى جمعوها فى العشرين سنة الماضية بلا رقيب أوحسيب وعلى حساب الملايين من أبناء الشعب المغلوب على أمره. ها هم أتباعهم وأنصارهم يتنقلون بين القرى والمدن على السيارات والمواتر والرقشات  فى سباق مع الأحزاب الأخرى قبل أن تفيق من تحديد أولويات ترشيحاتها وتتنتقل لتتصل بقواعدها إن كان قد بقى منها شيئاً لم تناله أيادى العابثين من المؤتمرجية الذين يفهمون شيئاً واحداً هو أن يكسبوا وبأى ثمن – لا يضيرهم تجاوز أخلاقى طالما كانت الغاية أن لا ينقطع سيل المصالح , ولا يعذبهم ضمير لطالما مات منذ زمن بعيد تحت وطأة التآمر على شعب السودان وإغفاره وإفقاره من كل ما عداهم - عدوءأً لله وللوطن ينبغى أن لا تأخذهم به رحمة ولا شفقة ولو كانوا آبآءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم منذ اليوم الأول الذى بدأت فيه هوجة النظام المجنونة بإحالة المخالفين لهم فى الرأى والتوجه السياسى للصالح العام. كبارهم يخططون لصغارهم بغية أن لا يغلبنكم اليوم موسى - النبى "الشعب" ويقولون لهم: أن لكم لأجر إن كنا الغالبين. وقد أفهموهم ووضعوا فى اذهانهم أن حزبهم حزب الطهارة ؛ رغم ريحه الفائح ؛ إن لم يفز فهذا يعنى فوز آخرين لن يرعوا فيكم ولا فينا إلاً ولا ذمة ولن تقوم لشريعة الله فى السودان قائمة رغم أنهم والجميع يعلم ؛ قد تمردوا عليها وتركوها وراء ظهرانيهم منذ أمدٍ بعيد ولم يبقى من المشروع الحضارى كله غير قشور تجرى وراء بنطالات النساء وزيهن؛ بل أنها لا تعنيهم بقدر ما يعنيهم أن يظلوا قابعين فى كراسى السلطة ساكنين فى القصور راكبين فاره السيارات مستمتعين فى الحل والترحال بين مدن ماليزيا وتركيا وغيرها من المدن التى فتحت أذرعها لتستقبل دولاراتهم ونزواتهم وتكون حصناً لهم إذا دارت عليهم الدوائر أو تنكب الصغار طريق الفوز فى ابريل القادم.

لقد بلغ السيل الزبى وضرب الفساد أوتاداً فى بلادى ولم يعد يخجل قيادات المؤتمرجية أن ينادوا فى الناس: من أراد عملاً فليأتى الينا ، ومن أراد منصباً فلينضم للمؤتمر الوطنى ؛ ومن أراد نعيم الدنيا كله يقابله عذاب الآخرة جله فليركب معنا ؛ وليسر معنا حيث نلقن الديمقراطية درساً تجعل طلابها فى ذهول وحيرة فينادى حاديهم ولا يجد خلفه تابعاً : هل نفقت الخيل أما مادات الأرض تحت الأقدام. وبما قاد ذلك لأن يكفر الغرب - رائد الديمقراطية الليبرالية - بها ويكف عن مطالبة الحكومة السودانية بالإمتثال لمبادى التحول الديمقراطى التى أقرتها إتفاقية نيفاشا وإجراء إنتخابات نزيه تعبر عن ذلك التحول!

إنما يريد المرتمرجية ؛ وهم قادرون أن يحيلوا الديمقراطية نفسها الى نطام يكرهه الشعب عندما يثبت له أنه نظام غير ذى جدوى فى أن يحول بين المفسدين وكراسى الحكم. ولكنهم لا يسفرون ويقولون بغير ذلك فى محاولة لأقناع فتيانهم أنهم أهل الصلاح والتقى ورواد العفاف والغنى – وزد ؛ رواد الديمقراطية ورعاة الحريات ! تتردد مثل هلك الكلمات - عميقة الدلالة فى الفكر السياسى - هذا الأيام على ألسنتهم ويعلم الله أن قلوبهم بها كافرة ولا يرون فى غيرهم بديلا حماة لما يعتقدون أنهم مفوضون من قبل الله ؛ قبل الشعب لحمايته والدفاع عنه وما صناديق الإقتراع الا رجس من عمل الشيطان أُضطروا للقبول به عملاً بفقه الضرورة. وحتى يتضاد القبول بصندوق الإقتراع مع القبول بما ينتج عن فرزه وعد البطاقات التى بداخله عمدوا الى تحديد عدد البطاقات التى ستدخله باكراً منذ مرحلة التسجيل لتضمنوا الفوز ما لم يصوت الجن لصالح المعارضة.

حسموا أمر فوزهم مبكراً والناس نيام والأحزاب منشغلة  فى هل تشارك أم تقاطع. لقد تعمد حزب المؤتمر إشغال المعارضة بمعركة القوانين داخل البرلمان المعين فتركوا الساحة لتلاميذهم يجوبون الفيافى والوهاد يحشدون أتباعهم لتسجيل أسماءهم ومن تعذر عليه الذهاب سجلوا له أولها وحرموا ما عداهم بحجج وزرائع مختلفة وما خفى كان أعظم. لقد مارسوا نفس النهج فى تسجيل المغتربين ؛ ففكرسوا جهدهم فى مناطق النفوذ كدول الخليج ؛ وصعبوا التسجيل فى المناطق والدول التى غالباً ما يحمل فيها السودانى فكراً مغايراً كالدول الأوربية وأميركا. على سبيل المثال يقيم فى هذه المدينة من شمال أميركا حيث أقيم ما يزيد عن الألفين سودانى معظمهم من الجنوب والغرب لم يسجل واحداً إسمه فى كشوف التسجيل نسبة للشروط التى يصعب موافاتها لديهم من إبراز شهادة الميلاد والإقامة فضلاً عن السفر لساعات لمراكز التسجيل محدودة العدد والجميع هنا مرتبط بجدول أعمال لا علاقة له بما يجرى فى السودان. لقد ضربوا بمطالب تجمعات السودانيين التى تشكلت لتطالب بتعديل تلك الشورط القاسية مثل تجمع أيوا للديمقراطية والتى رفعت مطالبها لمفوضية الإنتخابات دون حتى أن ترد المفوضية عليهم فى غياب تام لأى فعل ذى بال من معارضتنا الهمامه التى قررت أن تشارك فى الإنتخابات رغم يقينها بفرصتها المتواضعة فى الفوز. ربما تفوز بمقعد تشريعى هنا أو هناك مما لا يشكل تغييراً ولا تأثيراً على النهج المؤتمرجى القائم ولا يضيره فى شى ؛ بل سيمنحه الحجة الدامغة على الإستمراره لقرنين من الزمان إن حسنت النوايا والا فيتم التسليم لعيسى عليه السلام – أو كما قالوا !!

كتب الأحرار من أبناء وبنات السودان من كل الألوان السياسية والفكرية والأكاديمية آلاف المقالات المؤسسة على واقعية لا تخطى عما أصاب الوطن فى عهد الطغمة الحاكمة. كتبت النخب من أبناء وبنات الشعب ترفض ما آل اليه حال الوطن على أيدى جلاوزة الإنقاد والمؤتمرجية فى العقدين الماضيين وتنادى بإنتهاز الفرصة لتغييره ولكن لا حياة لمن تنادى لقد أسمعت إذ ناديت حياً كما قال الشاعر. لقد بغى أهل السلطة ولم يعد أحداً منهم يسمع غير ما تمليه المصلحة وتفرضه الحاجة لتثبيت النظام وموالاته فى غشمه وجوره وحيفه على من ؟ على أبناء الوطن !! لقد إنخدع الكثيرين من السياسيين عندما اعتقدوا أن المؤتمرجية ربما يعودوا الى صوابهم فى ظل تنامى حاجتهم لذلك تحت الضغوط الدولية وباعتبار خلفيتهم الدينية التى كانو عليها ولها يدعون قبل أن تطالهم جرثومة السلطة القاتلة فى إلتفاتة صحوة ضميرية تعيدهم للإعتذار وترك الساحة الى الأبد. نعم لقد أصابتهم جرثومة السلطة القاتلة وتمكنت منهم ولم يعد للنداء الدينى من مكان فى أولوياتهم ... والا قل لى بربك كيف ينام المشير معاش عمر البشير وقد إعترف بقتل عشرة آلاف دارفورى معظمهم من الشيوخ والنساء والأطفال أثناء زيارنه للصين صيف 2006؟ أما الضغوك الدولية فقد خبروا كيف يتم التعامل معها ؛ بالخداع وبيع الوطن أن دعت الضرورة فى الخفاء ولا مانع من جلب بعض النفايات فليس كل الدول الضاغطة تعمل لمصلحة السودان وأهله.

لقد فعلوا ما فعلوا والعالم صحو يرى ويشهد بأهل السودان ؛ إجمالاً  كل ما من شأنه  أن يعيق نمو أى فكرٍ سياسى أو إجتماعى مغاير لا يحملهم الى سدة السلطة. لقد عمدوا لتحقيق ذلك مستخدمين كل أساليب المراوغة والمخادعة والمهادنة كلما اقتضت الضرورة. ببساطة ؛ لأنهم يعلمون أن لا مكان لهم فى مستقبل الوطن إن تركوا الديمقراطية ترعى حرة طليقة فى أرض السودان. لو كان صندوق الإنتخابات سيحول بينهم وبين طموحهم فى حكم البلد لما سمحوا به ولو كان الصندوق السحرى الذى سيحل مشاكل البلد فى غضون أيام ! واخاله كذلك ؛ إذ بغير الديمقراطية لن تحل مشاكلنا ولن تلتئم لحمة البلد التى تناثرت أشلاءه فى عهدهم بين الجنوب الذاهب دون عودة ، الى دارفور الموجوعة فى شرفها وخيرها وقرآنها وها هى تفكر فى اللحاق بركب الأنفصال ، الى الشرق الممزق الحائر ، والشمال المظلوم تشريداً وتبكيتا وغبناً من أولاد العم.

فليدرك من مازال يحمل بين جوانحه أملاً فى أن يساهم المؤتمرجية فى بناء الديمقراطية الرابعة فى تاريخ السودان الحديث ؛ انهم قد إغتالوها قبل أن تولد. ببساطة – الديمقراطية التى يريدها المؤتمرجية ويؤمنون بها وقد إستعدوا لخوض غمارها ، هى الديمقراطية التى لا تغيير من الواقع شيئا ! فيها يفوز الحزب الحاكم ولو لم ينتخبه أحد !!

mekkimusa@aol.com

 

آراء