المثلث السحري: العيلفون، الدبيبة، العسيلات
سيف الدين عبد الحميد
12 March, 2024
12 March, 2024
سيف الدين عبد الحميد
كثيرةٌ هي المثلثات من لدن مثلث أبي حامد الغزالي حتى مثلث حلايب ومثلث العوينات ومثلث برمودا، ولكلٍّ من هذه المثلثات الثلاثة الأخيرة تعريفاتها الجغرافية لكن ما نحن بصدده اليوم هو المثلث السحري الكائن شرق النيل بولاية الخرطوم والذي تمثله المناطق قيد العنوان. في هذا المثلث سرٌّ خفي لم يكشف لنا مثل سر لبنان لدى إيلياء أبو ماضي "للهِ سرٌّ فيكَ يا لبنانُ لم يكشف لنا". هذا المثلث السحري إما أنجب لك شاعراً غنائياً خيال شعره يرتاد الثريا أو مطرباً يجعل الحيطان تتراقص والخمائل تتمايس أو روائياً خصب الخيال. حاولتُ أن اعزو هذا السر -- الذي هو قيد الاستكشاف -- إلى بركات ود الأرباب التي سرت على هذا المثلث منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر وكان من مخاضها جلاءُ النفوس وترقيقها لتأتي نفوساً شاعرةً ومطربةً. كما عزوتُ هذا السر إلى وجود شياطين تملي على المبدعين نصوص أشعارهم وإيقاع أنغامهم إذ كان العرب يعتقدون أن لكل شاعرٍ شيطاناً أو شيطانة توحي له شعره، فقد كان حسان بن ثابت يعتقد أن له شيطانة اسمها "النضيرة" توحي إليه زخرف القول حيث خاطبها في قصيدة له يقول مطلعها:
حيِّ النضيرةَ ربةَ الخدرِ أسَرَت إليكَ ولم تكن تسري
فوقفتُ بالبيداءِ أسألها أنى اهتديتِ لمنزلِ الشعرِ؟
لم يكن مبدعو المثلث السحري بعيدين عن عادات شعراء العرب في قصيدهم وطربهم مع اختلاف الأدوات الفنية. ورأيت أن أمر في عجالة على مبدعي المثلث السحري آملاً أن يضيف القارئ لهذه المقالة ما لديه من معلومات تتعلق بهؤلاء المبدعين ذلك أني لم أجرِ بحثاً استقصائياً عنهم بل اعتمدت على مخزون الذاكرة من معلومات وسائط إعلامية أو ما تلقيته كفاحاً من جلسائي في مختلف الأزمنة والأمكنة ذلك أن عدد مبدعي المثلث السحري يعد كبيراً بالنسبة إلى مساحة المثلث. ومن هؤلاء المبدعين:
١. محمد ود الرضي: من مواليد العيلفون عام ١٨٨٤، وحفظ القرآن الكريم بخلوة الشيخ "العبيد ود بدر" بأم ضبّان، وتوفي بها عام ١٩٨٢م، قضى حياته يقرض الشعر الغزلي الغنائي متي واتته المناسبة إذ يرتجل القصيدة على طريقة "القطع الأخدر" على الحسناوات اللاتي صادرن منام عينيه، فهو دائماً تلفان من الأجفان، ولا يدخر مطربو ذاك الزمن جهداً في تلقف قصيدة ود الرضي والتغني بها. يُعد ود الرضي أبا الشعراء الغنائيين جميعاً لاسيما مبدعي المثلث السحري وقد أعجب الشاعر إبراهيم العبادي بأغنيته "متى مزاري" وقام بتشطيرها بحيث أصبحت وحدة متماسكة ذات روحٍ واحد. ومن أروع ما قال في آخر عمره عن طالباتٍ طلبن منه كتابة قصيدة فيهن في إلحاح:
يشطبن توبتي من كامن ضميري ويِمحن
والشاف فاتن جمالن وانكسارن يِمحن
قلوباً ما انشون بي نار غرامكن قِمحن
الله يِكبِّرِن ديل الكبّرنّي وسِمحن
٢. أحمد محمد الشيخ: يتنفس شعراً وحركاته وسكناته شعر، فعالمه عالم شاعري كأنما خرج من بطن أمه شاعراً ويصفه إعلام الإذاعة السودانية بالمتعدد المواهب، فهو أحياناً يكتب القصيدة ويلحنها ويغنيها. أطلق عليه أصدقاؤه لقب "الجاغريو" وهو تحريف لاسم ممثل سينمائي أمريكي يمثل رئيس عصابة واسمه "جاك ريو" Jack Rue فقد كان أحمد عندما يجد أصحابه جالسين يقول لهم مهدداً ومازحاً بالإنجليزية Hey, hands up! I am Jack Rue وحرَّف أصحابه الاسم بقلب الكاف غيناً ليصبح "جاغريو" أو "الجاغريو" مع دمج الاسمين. جُمع شعره بدءاً في ديوان صغير عام ١٩٦٤م بعنوان "ليالي الجاغريو" ولكن ابن العيلفون الأستاذ علي محمد عثمان الفكي جمع كل شعره تقريباً عام ٢٠٠٠م في ديوان أكبر بعنوان "عندليب الجاغريو".
٣. أحمد محمد بركات: بحسب رواية الأستاذ الراحل السر قدور في كتيبٍ صغير أعده عن أحمد المصطفى فقد جاء الشيخ/ محمد بركات قادماً من قرية الدبيبة إلى الخرطوم عام ١٩٢٦م مصطحباً ابنه أحمد البالغ من العمر ثماني سنوات وزار رجل الأعمال عبد المنعم محمد حسن عبد المنعم وترك له ابنه أحمد ليعمل معه لأنه كان رجل بر وإحسان ولم يرزق ذرية. ومن منزل عبد المنعم محمد بدأت حياته الفنية آخر الثلاثينيات ولكنه كان متحفظاً بحيث أضاف كلمة "المصطفى" لاسمه تقيةً ليصبح اسمه الفني "أحمد المصطفى" إذ كان الفن آنذاك من المحظورات المجتمعية كما أن الحاجة سكينة زوجة عبد المنعم محمد كانت تنهاه عن الغناء. وفي عام ١٩٤٢م انضم إلى الإذاعة السودانية وسجل فيها أولى أغانيه تحت إدارة مديرها طه حسين زكي، وانطلق صوته في الأثير مطرباً قومياً أصيلاً حيث تعاون معه بدءاً خاله الجاغريو وصديقه حسن عوض أبو العلا.
٤. سيد خليفة: أطلقت عليه والدته نايرة علي عبد القادر اسم "علي السيد" تيمناً بالسيد علي الميرغني ولكن الاسم اختصر ب"سيد" حيث ذكر ذلك في إحدى إفاداته التلفزيونية. كان سيد مطرباً وملحناً، سافر الى مصر عام 1951م والتحق بمعهد الموسيقى العالي واكمل دراسته في مصر. بنى سيد خليفة بمصر علاقات اجتماعية واسعة ومتينة فكان معيناً للبعثات الدبلوماسية السودانية المقيمة بمصر لأنه أول سفير للدبلوماسية الشعبية حيث ولج قلوب الملايين بمصر ومازال مطرباً متفرداً خلال نصف قرن من الزمان منذ ظهوره.
٥. مبارك حسن بركات: بلبل أغنية الحقيبة الغريد ، وفي رواية أخرى شيخ أغنية الحقيبة، وواجهتها التي أطلت بها على أجيال كثيرة. درس في الخلوة التي أسهمت كثيراً في صحيح نطقه وسلامة مخارجه للحروف، وأظهر منذ وقت مبكر من عمره ميولاً للغناء حيث كان يردد الغناء الشعبي وما يسمعه من أغنيات الحقيبة، وكان يتصيّد الفرص ليملأ فترة الراحة للفنانين في الحفلات أو ما تسمى بالفواصل، وواصل في طريقه الفني بعد أن وجد التشجيع من الأسرة وأهل المنطقة الذين كانوا دائماً ما يلتفون حوله طالبين أن يغني لهم. تمت إجازة صوته من لجنة الأصوات بالإذاعة عام ١٩٥٦م بأسرع ما كان معروفاً في ذلك الوقت وذلك لقوة صوته ونداوته، وبعد ذلك شق طريقه وأصبح فناناً معروفاً على امتداد البلاد، بعد أن أثبت جدارته وسط الكبار، وأثبت عبقريته في الحفظ السريع والأداء الرائع. في تقديري يعد ثالث ثلاثة ورثوا غناء الحقيبة بعد رحيل كبارها وهم: مبارك حسن بركات، بادي محمد الطيب، عوض الكريم عبد الله.
٦. خلف الله حمد: فنان الحماسة الأول في السودان، نشأ وترعرع فى منطقة وبيئة دينية محافظة وغنية بالتراث الشعبي، وتأثر خلف الله حمد بهذا الموروث الشعبي فجمع بين ألوان الغناء المختلفة، الحماسة والطنبور والدوبيت والحقيبة
والفن الحديث. وتكونت فرقة الفنان خلف الله حمد فى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وجزء كبير من أغاني خلف الله حمد لشاعرات وحكامات من أهله وعشيرته ويعرفهم معرفة جيدة ويعرف قصص وحكاوي هذه الأغنيات ومع صوته القوي والثري وإمكاناته الأدائية الجيدة سجل أغنيات الحماسة للإذاعة والتلفزيون وله 27 لحناً مسجلاً بمكتبة الإذاعة السودانية. ومن أشهر أغانيه أغنية "الكان دا كا" التي لحنها خلف الله حمد برؤية جديدة غير تقليدية وأدخل الجملة التقاطعية حيث يؤدي الفنان "الكوبليه" فى نفس الزمن مع أداء الفرقة ومصاحبة الإيقاع الثابت حيث تردد الفرقة (الكان داكا كان داكا كان داكا) بصورة مستمرة ومتكررة، وفى نفس الوقت يؤدي خلف الله حمد "الكوبليهات" ويرددها.
٧. ثنائي الدبيبة: الثنائي عبد الله يوسف ودفع الله عشيب امتازا بنفس موهبة أسلافهما من ثنائيات حقيبة الفن في الأداء والإطراب إذ تجدهما منسجميْن في تناول الأغنية سواءً أكانت أغنية عاطفية أو حماسية، وهما يعيشان جو الأغنية وينفعلان بكلماتها ويخلصان لها.
٨. الأخَوَان إسحاق وعمر أحمد فضل الله: يتلبس جن القصة إسحاق الروائي والصحفي، فاسم عموده الصحفي مأخوذ من توقيت زيارة الجن له "آخر الليل" وهو يملي عليه ما يكتب بحيث أصبح أسلوب كتابته مدرسة قائمة بذاتها، تجده مثلاً يروي الخبر ثم يستطرد بإلحاق الخبر واواً تعقبها نقاط لها مغزاها، كأن يروي قصة خبرية بهذه الطريقة: (والمدينة المرهقة من كدّ النهار تستجمع أنفاسها وسكانها يغطون في النوم وشخيرهم يفزع كلاب الحي التي تقفز مرتاعة وتحدق في أشباحٍ ترتدي أسمالاً كأسمال محاربي القوط وتنبح الكلاب وتنبح ويستيقظ النائمون وتمسك الكلاب عن النباح و.................). فطريقة إسحاق في قطع الخبر تشبه طريقة الفنان حسن عطية في إخفاء بعض كلمات الأغنية، وهو ما علله د. عبد الحليم محمد تعليلاً حسناً، ذلك أن حسن عطية يفعل ذلك بغرض ملء الفاقد الموسيقي في الأغنية، وكذلك إسحاق يريد ملء الفاقد القصصي برص النقاط بعد الواو بأمرٍ من جن "آخر الليل".
لم يكن عمر أحمد فضل الله الروائي بأقل استحضاراً لجنون المثلث السحري في صناعة أعماله من شقيقه إسحاق، ولأن "الجنون فنون" كما يقولون فقد اقترح عمر على المشاركين في أعمال المؤتمر الاقتصادي في مطالع التسعينيات الاستعانة بالجن لإصلاح الاقتصاد السوداني لكن يبدو أن جن المثلث السحري لم يكن متخصصاً في الاقتصاد كتخصصه في قرض الشعر والغناء وكتابة الرواية. وربما يكون عمر قد وجد جن إدارة الاقتصاد في مهجره في دبي حيث يتشابك هذا الفن مع فن التكنولوجيا الذي يجيده عمر علاوةً على كتابة الرواية.
سيف الدين عبد الحميد
abunizar1959@gmail.com
كثيرةٌ هي المثلثات من لدن مثلث أبي حامد الغزالي حتى مثلث حلايب ومثلث العوينات ومثلث برمودا، ولكلٍّ من هذه المثلثات الثلاثة الأخيرة تعريفاتها الجغرافية لكن ما نحن بصدده اليوم هو المثلث السحري الكائن شرق النيل بولاية الخرطوم والذي تمثله المناطق قيد العنوان. في هذا المثلث سرٌّ خفي لم يكشف لنا مثل سر لبنان لدى إيلياء أبو ماضي "للهِ سرٌّ فيكَ يا لبنانُ لم يكشف لنا". هذا المثلث السحري إما أنجب لك شاعراً غنائياً خيال شعره يرتاد الثريا أو مطرباً يجعل الحيطان تتراقص والخمائل تتمايس أو روائياً خصب الخيال. حاولتُ أن اعزو هذا السر -- الذي هو قيد الاستكشاف -- إلى بركات ود الأرباب التي سرت على هذا المثلث منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر وكان من مخاضها جلاءُ النفوس وترقيقها لتأتي نفوساً شاعرةً ومطربةً. كما عزوتُ هذا السر إلى وجود شياطين تملي على المبدعين نصوص أشعارهم وإيقاع أنغامهم إذ كان العرب يعتقدون أن لكل شاعرٍ شيطاناً أو شيطانة توحي له شعره، فقد كان حسان بن ثابت يعتقد أن له شيطانة اسمها "النضيرة" توحي إليه زخرف القول حيث خاطبها في قصيدة له يقول مطلعها:
حيِّ النضيرةَ ربةَ الخدرِ أسَرَت إليكَ ولم تكن تسري
فوقفتُ بالبيداءِ أسألها أنى اهتديتِ لمنزلِ الشعرِ؟
لم يكن مبدعو المثلث السحري بعيدين عن عادات شعراء العرب في قصيدهم وطربهم مع اختلاف الأدوات الفنية. ورأيت أن أمر في عجالة على مبدعي المثلث السحري آملاً أن يضيف القارئ لهذه المقالة ما لديه من معلومات تتعلق بهؤلاء المبدعين ذلك أني لم أجرِ بحثاً استقصائياً عنهم بل اعتمدت على مخزون الذاكرة من معلومات وسائط إعلامية أو ما تلقيته كفاحاً من جلسائي في مختلف الأزمنة والأمكنة ذلك أن عدد مبدعي المثلث السحري يعد كبيراً بالنسبة إلى مساحة المثلث. ومن هؤلاء المبدعين:
١. محمد ود الرضي: من مواليد العيلفون عام ١٨٨٤، وحفظ القرآن الكريم بخلوة الشيخ "العبيد ود بدر" بأم ضبّان، وتوفي بها عام ١٩٨٢م، قضى حياته يقرض الشعر الغزلي الغنائي متي واتته المناسبة إذ يرتجل القصيدة على طريقة "القطع الأخدر" على الحسناوات اللاتي صادرن منام عينيه، فهو دائماً تلفان من الأجفان، ولا يدخر مطربو ذاك الزمن جهداً في تلقف قصيدة ود الرضي والتغني بها. يُعد ود الرضي أبا الشعراء الغنائيين جميعاً لاسيما مبدعي المثلث السحري وقد أعجب الشاعر إبراهيم العبادي بأغنيته "متى مزاري" وقام بتشطيرها بحيث أصبحت وحدة متماسكة ذات روحٍ واحد. ومن أروع ما قال في آخر عمره عن طالباتٍ طلبن منه كتابة قصيدة فيهن في إلحاح:
يشطبن توبتي من كامن ضميري ويِمحن
والشاف فاتن جمالن وانكسارن يِمحن
قلوباً ما انشون بي نار غرامكن قِمحن
الله يِكبِّرِن ديل الكبّرنّي وسِمحن
٢. أحمد محمد الشيخ: يتنفس شعراً وحركاته وسكناته شعر، فعالمه عالم شاعري كأنما خرج من بطن أمه شاعراً ويصفه إعلام الإذاعة السودانية بالمتعدد المواهب، فهو أحياناً يكتب القصيدة ويلحنها ويغنيها. أطلق عليه أصدقاؤه لقب "الجاغريو" وهو تحريف لاسم ممثل سينمائي أمريكي يمثل رئيس عصابة واسمه "جاك ريو" Jack Rue فقد كان أحمد عندما يجد أصحابه جالسين يقول لهم مهدداً ومازحاً بالإنجليزية Hey, hands up! I am Jack Rue وحرَّف أصحابه الاسم بقلب الكاف غيناً ليصبح "جاغريو" أو "الجاغريو" مع دمج الاسمين. جُمع شعره بدءاً في ديوان صغير عام ١٩٦٤م بعنوان "ليالي الجاغريو" ولكن ابن العيلفون الأستاذ علي محمد عثمان الفكي جمع كل شعره تقريباً عام ٢٠٠٠م في ديوان أكبر بعنوان "عندليب الجاغريو".
٣. أحمد محمد بركات: بحسب رواية الأستاذ الراحل السر قدور في كتيبٍ صغير أعده عن أحمد المصطفى فقد جاء الشيخ/ محمد بركات قادماً من قرية الدبيبة إلى الخرطوم عام ١٩٢٦م مصطحباً ابنه أحمد البالغ من العمر ثماني سنوات وزار رجل الأعمال عبد المنعم محمد حسن عبد المنعم وترك له ابنه أحمد ليعمل معه لأنه كان رجل بر وإحسان ولم يرزق ذرية. ومن منزل عبد المنعم محمد بدأت حياته الفنية آخر الثلاثينيات ولكنه كان متحفظاً بحيث أضاف كلمة "المصطفى" لاسمه تقيةً ليصبح اسمه الفني "أحمد المصطفى" إذ كان الفن آنذاك من المحظورات المجتمعية كما أن الحاجة سكينة زوجة عبد المنعم محمد كانت تنهاه عن الغناء. وفي عام ١٩٤٢م انضم إلى الإذاعة السودانية وسجل فيها أولى أغانيه تحت إدارة مديرها طه حسين زكي، وانطلق صوته في الأثير مطرباً قومياً أصيلاً حيث تعاون معه بدءاً خاله الجاغريو وصديقه حسن عوض أبو العلا.
٤. سيد خليفة: أطلقت عليه والدته نايرة علي عبد القادر اسم "علي السيد" تيمناً بالسيد علي الميرغني ولكن الاسم اختصر ب"سيد" حيث ذكر ذلك في إحدى إفاداته التلفزيونية. كان سيد مطرباً وملحناً، سافر الى مصر عام 1951م والتحق بمعهد الموسيقى العالي واكمل دراسته في مصر. بنى سيد خليفة بمصر علاقات اجتماعية واسعة ومتينة فكان معيناً للبعثات الدبلوماسية السودانية المقيمة بمصر لأنه أول سفير للدبلوماسية الشعبية حيث ولج قلوب الملايين بمصر ومازال مطرباً متفرداً خلال نصف قرن من الزمان منذ ظهوره.
٥. مبارك حسن بركات: بلبل أغنية الحقيبة الغريد ، وفي رواية أخرى شيخ أغنية الحقيبة، وواجهتها التي أطلت بها على أجيال كثيرة. درس في الخلوة التي أسهمت كثيراً في صحيح نطقه وسلامة مخارجه للحروف، وأظهر منذ وقت مبكر من عمره ميولاً للغناء حيث كان يردد الغناء الشعبي وما يسمعه من أغنيات الحقيبة، وكان يتصيّد الفرص ليملأ فترة الراحة للفنانين في الحفلات أو ما تسمى بالفواصل، وواصل في طريقه الفني بعد أن وجد التشجيع من الأسرة وأهل المنطقة الذين كانوا دائماً ما يلتفون حوله طالبين أن يغني لهم. تمت إجازة صوته من لجنة الأصوات بالإذاعة عام ١٩٥٦م بأسرع ما كان معروفاً في ذلك الوقت وذلك لقوة صوته ونداوته، وبعد ذلك شق طريقه وأصبح فناناً معروفاً على امتداد البلاد، بعد أن أثبت جدارته وسط الكبار، وأثبت عبقريته في الحفظ السريع والأداء الرائع. في تقديري يعد ثالث ثلاثة ورثوا غناء الحقيبة بعد رحيل كبارها وهم: مبارك حسن بركات، بادي محمد الطيب، عوض الكريم عبد الله.
٦. خلف الله حمد: فنان الحماسة الأول في السودان، نشأ وترعرع فى منطقة وبيئة دينية محافظة وغنية بالتراث الشعبي، وتأثر خلف الله حمد بهذا الموروث الشعبي فجمع بين ألوان الغناء المختلفة، الحماسة والطنبور والدوبيت والحقيبة
والفن الحديث. وتكونت فرقة الفنان خلف الله حمد فى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وجزء كبير من أغاني خلف الله حمد لشاعرات وحكامات من أهله وعشيرته ويعرفهم معرفة جيدة ويعرف قصص وحكاوي هذه الأغنيات ومع صوته القوي والثري وإمكاناته الأدائية الجيدة سجل أغنيات الحماسة للإذاعة والتلفزيون وله 27 لحناً مسجلاً بمكتبة الإذاعة السودانية. ومن أشهر أغانيه أغنية "الكان دا كا" التي لحنها خلف الله حمد برؤية جديدة غير تقليدية وأدخل الجملة التقاطعية حيث يؤدي الفنان "الكوبليه" فى نفس الزمن مع أداء الفرقة ومصاحبة الإيقاع الثابت حيث تردد الفرقة (الكان داكا كان داكا كان داكا) بصورة مستمرة ومتكررة، وفى نفس الوقت يؤدي خلف الله حمد "الكوبليهات" ويرددها.
٧. ثنائي الدبيبة: الثنائي عبد الله يوسف ودفع الله عشيب امتازا بنفس موهبة أسلافهما من ثنائيات حقيبة الفن في الأداء والإطراب إذ تجدهما منسجميْن في تناول الأغنية سواءً أكانت أغنية عاطفية أو حماسية، وهما يعيشان جو الأغنية وينفعلان بكلماتها ويخلصان لها.
٨. الأخَوَان إسحاق وعمر أحمد فضل الله: يتلبس جن القصة إسحاق الروائي والصحفي، فاسم عموده الصحفي مأخوذ من توقيت زيارة الجن له "آخر الليل" وهو يملي عليه ما يكتب بحيث أصبح أسلوب كتابته مدرسة قائمة بذاتها، تجده مثلاً يروي الخبر ثم يستطرد بإلحاق الخبر واواً تعقبها نقاط لها مغزاها، كأن يروي قصة خبرية بهذه الطريقة: (والمدينة المرهقة من كدّ النهار تستجمع أنفاسها وسكانها يغطون في النوم وشخيرهم يفزع كلاب الحي التي تقفز مرتاعة وتحدق في أشباحٍ ترتدي أسمالاً كأسمال محاربي القوط وتنبح الكلاب وتنبح ويستيقظ النائمون وتمسك الكلاب عن النباح و.................). فطريقة إسحاق في قطع الخبر تشبه طريقة الفنان حسن عطية في إخفاء بعض كلمات الأغنية، وهو ما علله د. عبد الحليم محمد تعليلاً حسناً، ذلك أن حسن عطية يفعل ذلك بغرض ملء الفاقد الموسيقي في الأغنية، وكذلك إسحاق يريد ملء الفاقد القصصي برص النقاط بعد الواو بأمرٍ من جن "آخر الليل".
لم يكن عمر أحمد فضل الله الروائي بأقل استحضاراً لجنون المثلث السحري في صناعة أعماله من شقيقه إسحاق، ولأن "الجنون فنون" كما يقولون فقد اقترح عمر على المشاركين في أعمال المؤتمر الاقتصادي في مطالع التسعينيات الاستعانة بالجن لإصلاح الاقتصاد السوداني لكن يبدو أن جن المثلث السحري لم يكن متخصصاً في الاقتصاد كتخصصه في قرض الشعر والغناء وكتابة الرواية. وربما يكون عمر قد وجد جن إدارة الاقتصاد في مهجره في دبي حيث يتشابك هذا الفن مع فن التكنولوجيا الذي يجيده عمر علاوةً على كتابة الرواية.
سيف الدين عبد الحميد
abunizar1959@gmail.com