المرحوم يُبعث من جديد: حرب قوات الأشقاء/ الأعداء (١)
أحمد ضحية
30 July, 2023
30 July, 2023
خلال ما يزيد عن ثلاث عقود تعامل "الإسلاموطائفيين" مع "الدولة السودانية" كمُلك عضوض، لا ينبغي لأحد أن يشاركهم فيه! ونسبةً لقصر نظرهم وتوقف تفكيرهم في لحظة واحدة، هي لحظة انقلابهم (الناجح) على نظام برلماني منتخب في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، الذي كانوا قد استعانوا لإنجاحه بكتائب الظل السرّية، التي ظل التنظيم يتعهدها بالرّعاية و يدربها منذ وقت مبكر، وفقاً لمنهج (عقائدي تنظيمي شمولي تربوي خاص)، تميزّت به تجربة (حركات الإخوان المسلمين) خصوصاً في مصر وفلسطين، أصبح بموجب هذا النهج كل أعضاء التنظيم عناصر استخباراتية ومقاتلة، تتخذ من النشاط السياسي الإسلاموي الحركي واجهة، تخفي طبيعتها الراديكالية العسكرية والأمنية المتوحشة.
لكن هذه المرّة أخطأوا في تقديراتهم العسكرية والسياسية! نتيجة العجز عن قراءة التغييرات العميقة في المشهد السوداني.. وهي تغييرات أفضت (إلى) ورافقت وتلت ثورة ١٨ ديسمبر المجيدة ٢٠١٨، والتي كان الوّعي الثوري للثوار وإرادتهم السلمية، قد ساهما بفعالية في إفشال (الانقلاب الكارثي الفاشل) على الانتقال الديمقراطي في ٢١ أكتوبر ٢٠٢١. ومع ذلك لم ينتبه (الإسلاموطائفيين) أن يوم ٢١ أكتوبر ٢٠٢١، ليس كأمس ٣٠ يونيو ١٩٨٩؟!
***
على الرُغم من أن الإسلاموطائفيين منذ البداية، لإضعاف الجبهة العسكرية والسياسية والمدنية المناوئة لهم، نجحوا في شراء جزء من أطراف (الجبهة الثورية) وبعض الانتهازيين الطفيليين من (عطالى السياسة).. ساعدتهم على ذلك الخلافات في أوساط هذه الجبهة، مكونين بذلك ما اصطلحوا على تسميته (بالكتلة الديمقراطية)، كتحالف داعم لمخططات الإسلاموطائفيين وتوجهاتهم، التي تبنتها اللجنة الأمنية القائدة لمليشيتهم داخل الجيش!
وعلى الرُغم من إحداثهم الكثير من الانقسامات في (لجان المقاومة)، وإشاعة مناخ أمني مليشياوي متفلت، أصاب المواطن بالذُعر، وضيق اقتصادي دفع المواطن للسخط على الحكومة المدنية الانتقالية برئاسة حمدوك، ووضعوا بذلك البلاد كلها على حافة الهاوية! إلا أنهم رُغم كل ذلك لم يلحظوا أو ينتبهوا، أن ثمة تغييرات عميقة حدثت خلال ثلاث عقود من حكمهم الفاشي، و أن ثمَّة مياه كثيرة تبعاً لذلك، جرّت تحت جسور الدولة السودانية، جعلت من لحظة انقلابهم في ١٩٨٩، لحظة (ميتة) ليس بالإمكان إحيائها أو تكرارها مرّة أخرى، في ظل انفضاح مشروع الإسلام السياسي الطفيلي المتوحش، وتنامي الوّعي الثورّي السلمي المدّني.
وهكذا، قرروا معالجة فشل انقلابهم في (٢٥ أكتوبر ٢٠٢١) —الذي كانت قد سبقته وتلته عدة انقلابات فاشلة— بانقلاب جديد في فجر ١٥ أبريل ٢٠٢٣. متجاهلين ما أحدثته عقود حكمهم الاستبدادي من تغييرات، تكاد تكون جذرّية في الوّعي المدّني.
وكذلك لظنهم أنهم بهذا الانقلاب، يتفادون تأثير تلك التغييرات، التي أحدثتها ثورّة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة، وبالتالي لم يدركوا أنه من غير الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء!
***
كانت نتيجة سوء التقديرات وخطلها، أن تحوّل انقلاب ١٥ أبريل ٢٠٢٣ إلى حرب ضارّية، بين ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية داخل الجيش، الذي ظل يتكئ على (كتائب الظل) خارجه، في سعي محموم للقضاء على "قوات الدّعم السريع". باعتبار هذه القوات أصبحت عقبة رئيسية أمام عودتهم للسلطة مرّة أخرى، في ظل موقفها المعلن، المتمسك بالانتقال السلمي والتحوّل الديمقراطي المدني!
***
ما أن تأكدت نوايا الفلول العدوانية الانقلابية في إفطارات رمضان ٢٠٢٣، حتى نشطت قوّى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي، في المراوحة بين طرفي الصرّاع، لإيقاف الحرب قبل وقوعها. فيما استمر في السياق نفسه تنظيم الحركة الإسلاموطائفية في عموم البلاد، يلهث في حركة دؤوبة، لتعبئة (كتائب الظل والشعب)، و(التنسيق مع رموز النظام البائد) في السجون، تحت حماية وتمويل اللجنة الأمنية القائدة للمليشيا داخل الجيش. معلناً حربه الضارية ضد "قوات الدعم السريع"، والقوى (السياسية والمدنية ولجان المقاومة)، بحشد عشرات الآلاف من أعضائه وأنصاره ومؤيديه، في مختلف أنحاء السودان، متوعداً الجميع بالويل والثبور وعظائم الأمور، بعد انتصاره في الحرب!
***
جراء هذه الحرب البشعة قُتل وأُسر وأُصيب في معارك الأسابيع الأولى الضارية، عدد كبير جداً من المدنيين الأبرياء العُزل، ومن الطرفين المتحاربين. والتي هي في الواقع —للمفارقة— لم تكن معاركاً متكافئة عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً ودعائياً وتجييشياً!..
فالجيش فضلاً عن خبراته وإمكاناته الإعلامية والدعائية والتجييشية، وتسليحه المتنوع وعدته وعتاده، وعراقته وخبرته التي تناهز المائة عام، إلا أنه بدا من الواضح عاجزاً تماماً عن السيطرة، حتى على مواقعه العسكرية الاستراتيجية والمهمة، ومهزوماً و محاصراً!
ورُغم أن الحرب اندلعت كصراع بين قوتين عسكريتين (الجيش والدعم السريع) لأسباب ذاتية محضة، إلا أنها سرعان ما تحوَّلت إلى (صراع إجتماعي تارّيخي) لا يفتأ يراوح بين (الإثني والجهوي والقومي الوطني!!) مستصحباً كل آفات وجرائم وجرائر تارّيخ السودان، في مراحل تارّيخية مختلفة، منذ العهد الاستعماري التركي المصري، مروراً بالثورّة والدولة المهدية، فالاستعمار الإنجليزي المصري، والتي انعكست —تلك المراحل التارّيخية— على (الجمهورية الأولى) التي ولدت في ١٩٥٦، بما حملته في مكوناتها وأبنيتها من تشوهات تارّيخية هيكلية، سواءاً من صنع الاستعمار، أو من صناعة و تغذية حكومات الأقلية، في المراحل الديمقراطية والعسكرية المتعاقبة، بعد ميلاد الجمهورية الأولى في ١٩٥٦، حتى لحظة اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣.
***
قوات الدعم السريع خاضت الصرّاع في أيامه الأولى، دون إمتلاك "مشروع نهضوي وطني قومي" يستند على أُسس أخلاقية ومعنوية تبرر الحرب! و لإدراكها أنها ستُهزم أخلاقياً وعسكرياً، ما لم تتبنى "مشروع وطني قومي" محدد، تداعب به مشاعر السودانيين وأحلامهم. التقطت مشروع السودان الجديد (إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة تتفادى الاختلال في ميزان السلطة والثروة).. وهو مشروع كانت قد بشرّت به منذ وقت مبكر "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وتبنت (الحركة المستقلة) وحركات مسلحة وقوى سياسية جديدة وحديثة وقوى مختلفة، يمكن تصنيفها كقوى يسار أو وسط أجزاءاً منه!
و بالتقاط الدعم السريع لهذا المشروع، سواءاً كان صادقاً في تبنيه له، أو استخدمه لاكتساب مشروعية لحربه، أصبح هذا المشروع هو (الأساس الأخلاقي والمعنوي)؛ الذي يبرر به الدعم السريع حربه ضد الميليشيا الإسلاموطائفية التي اختطفت الجيش.
وبالفعل نجح الدعم السريع بذلك، في إحداث انقسام في (الموقف الشعبي العام) من حربه، وسط المجتمعات السودانية، خصوصاً في المناطق المهمشة، وترتب على ذلك حصار (خطاب ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية) التي اختطفت الجيش! ففقدت بذلك إجماع الشعب لصالحها، في موقفه من هذه الحرب.
وتعمق انقسام المواقف (مع، ضد الحرب أو التزام الحياد تجاه الطرفين)، ليضعف بذلك موقف الجيش المختطف أكثر فأكثر. خصوصاً مع توالي هزائمه، وانضمام وحدات وأفراد منه، إلى قوات الدعم السريع. وفشل في تحويل الاستقطابات الاثنية والجهوية إلى حرب أهلية طاحنة يتمكن في خضمها من الإفلات بجرائمه!
***
الصراع التارّيخي الذي فجرته قوات الدعم السريع، مصحوباً بالسعي لحسم التفلتات، والخدمات التي أخذت تقدمها للمواطنين، حرّك مشاعر الكثيرون من السودانيين المهمشين والمقهورين والصامتين في القبل الأربعة! الأمر الذي أربك موقفهم من الحرب! ورشحهم كحواضن محتملة، كما نقل كذلك الدعم السريع من (قوات عسكرية نظامية) إلى (تنظيم سياسي مسلح؟!).
وهنا تجدُر الإشارّة إلى نقطة مهمّة، تتعلق بمكونات الدّعم السريع: فالنواة الأساسية، وهي القوة الضاربة هي قوّة قبلية، تدينها كتدين سائر أهل السودان (مزيج سني صوفي)، ليس له أي مظهر أو توظيف سياسي. إلى جانب عناصر لم يسبق لها خوض تجربة التنظيم السياسي (الفلوترز)، وكذلك عناصر كانت منظمة في مختلف الأحزاب السياسية. أو كانت جزءاً من قوى مسلحة في الهامش. أو عناصر كانت في القوات المسلحة.
وكل هذه المكونات لا تمثل مشكلة حقيقية، فتعاطفها مع الدّعم السريع؛ أو كون بعضها انضم للدعم السريع، لا يهدد المشروع الذي تبناه الدعم السريع، إن كان صادقاً حقاً في إعادة بناء السودان على أسس جديدة، تخدم مصالح جميع السودانيين، دون أي نوع من التمييز.
تكمن المشكلة الرئيسية في أن المكون الثاني، قوامه جزءاً مقدّراً من فلول النظام البائد. فعدد كبير من (العناصر القيادية والاستشارية والمقاتلة) في الدعم السريع، مرجعياتها الفكرية، هي أيديولوجية الحركة الإسلاموطائفية ك(نسق شمولي مغلق) نشأت على مبادئه منذ نعومة وعيها، وهؤلاء بطبيعة الحال لا يمكن الوثوق بهم في مشروع بناء (ديمقراطي مدني للدولة)، لأن مشروع كهذا هو على النقيض من نظام التفكير، الذي يرون من خلاله كل شئ! شأنهم شأن من تربوا داخل مدرسة (الإسلام السياسي) ممثلاً في الحركة الإسلاموطائفية بصورة عامة، والذين يقاتلون في الطرف الآخر تحت لواء (كتائب البراء بن مالك)، كما أنهم أيضاً كانوا لعقود جزءاً من تجربة (دولة الحركة الإسلاموطائفية)، وقد شاركوا بهمّة ونشاط في حروبها في الهامش، وجرائمها وفسادها واستبدادها، كما أنهم لم يفصحوا بما يشي بحدوث تمزق ذهني، أوقطيعة فكرية بينهم وبين مدرستهم الأم، أو توبتهم وندمهم على ما ظلوا يقترفونه من تقتيل ونهب واضطهاد وتخريب للدولة السودانية، خلال أكثر من ثلاث عقود.
كذلك بدت سيطرة هذا المكون الفاسد وهيمنته واضحة بشكل لافت، في (الخطاب السياسي والإعلامي والدعائي) لقوات الدعم السريع، رُغم اجتهادها في إخفائه خلف شعارات (بناء السودان على أُسس جديدة) تحقق العدالة والمواطنة بلا تمييز.
ويقيني أن وقوف أمثال هؤلاء خلف الدعم السريع، سيجهض مشروعه الوطني —إذا كان جاداً حقاً في هذا المشروع— وقد يقود إلى إحلال مركز استبدادي (اسلاموي عروبوي) مدعوم خليجياً، محل المركز الإسلاموطائفي البائد الفاسد، الذي تزعم قوات الدعم السريع الآن، أنها تخوض الحرب ضده. ولذلك من الأسئلة المهمّة: هل في نية الدعم السريع، التحول إلى تنظيم سياسي (اسلاموعروبوي) مسلح يطرح نفسه كبديل، للمركز (الاسلاموعروبوي) القديم؟
رُبما أن هذا السؤال خطر على بال حركات مسلحة، اختارت مناهضة الدعم السريع بالانحياز لميليشيا الحركة الإسلاموطائفية (عقار/جبريل)، انطلاقاً من رؤية استراتيجية، قوامها: أن انتصار الدعم السريع سيكون خصماً على (حقوقها التاريخية والاجتماعية والثقافية) كشعوب غير عربية، بصورة أسوأ مما فعل المركز (الإسلاموطائفي البائد).
فيما قد تقترح الحركات المسلحة (المحايدة) في هذه الحرب إجابة مختلفة، قوامها السعي لانتزاع حقوقها عنوة من المنتصر، حال قرر تنفيذ (مشروعه هو) وليس (مشروع التحول الديمقراطي المدني)، أو تحصل على حقوقها سلماً حال تم تنفيذ المعلن من أجندة الحرب على قاعدة الوثيقة الاطارية، إذ لا تعود بحاجة لخيار الحرب في حال انتصار (المشروع الديمقراطي المدني) الذي تنادي به قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي ولجان المقاومة واليسار الأممي والقومي (البعث والشيوعي).
كما أن أي تنازلات بإمكان هذه الحركات المحايدة تقديمها في هذا الواقع الجديد الذي فرضته الحرب، هي أهون من انتصار (أجندة خفية) تفضي إلى (مركز إسلاموعروبي) بديل للمركز (الإسلاموطائفي) المنهار!
نواصل
ahmeddhahia@gmail.com
لكن هذه المرّة أخطأوا في تقديراتهم العسكرية والسياسية! نتيجة العجز عن قراءة التغييرات العميقة في المشهد السوداني.. وهي تغييرات أفضت (إلى) ورافقت وتلت ثورة ١٨ ديسمبر المجيدة ٢٠١٨، والتي كان الوّعي الثوري للثوار وإرادتهم السلمية، قد ساهما بفعالية في إفشال (الانقلاب الكارثي الفاشل) على الانتقال الديمقراطي في ٢١ أكتوبر ٢٠٢١. ومع ذلك لم ينتبه (الإسلاموطائفيين) أن يوم ٢١ أكتوبر ٢٠٢١، ليس كأمس ٣٠ يونيو ١٩٨٩؟!
***
على الرُغم من أن الإسلاموطائفيين منذ البداية، لإضعاف الجبهة العسكرية والسياسية والمدنية المناوئة لهم، نجحوا في شراء جزء من أطراف (الجبهة الثورية) وبعض الانتهازيين الطفيليين من (عطالى السياسة).. ساعدتهم على ذلك الخلافات في أوساط هذه الجبهة، مكونين بذلك ما اصطلحوا على تسميته (بالكتلة الديمقراطية)، كتحالف داعم لمخططات الإسلاموطائفيين وتوجهاتهم، التي تبنتها اللجنة الأمنية القائدة لمليشيتهم داخل الجيش!
وعلى الرُغم من إحداثهم الكثير من الانقسامات في (لجان المقاومة)، وإشاعة مناخ أمني مليشياوي متفلت، أصاب المواطن بالذُعر، وضيق اقتصادي دفع المواطن للسخط على الحكومة المدنية الانتقالية برئاسة حمدوك، ووضعوا بذلك البلاد كلها على حافة الهاوية! إلا أنهم رُغم كل ذلك لم يلحظوا أو ينتبهوا، أن ثمة تغييرات عميقة حدثت خلال ثلاث عقود من حكمهم الفاشي، و أن ثمَّة مياه كثيرة تبعاً لذلك، جرّت تحت جسور الدولة السودانية، جعلت من لحظة انقلابهم في ١٩٨٩، لحظة (ميتة) ليس بالإمكان إحيائها أو تكرارها مرّة أخرى، في ظل انفضاح مشروع الإسلام السياسي الطفيلي المتوحش، وتنامي الوّعي الثورّي السلمي المدّني.
وهكذا، قرروا معالجة فشل انقلابهم في (٢٥ أكتوبر ٢٠٢١) —الذي كانت قد سبقته وتلته عدة انقلابات فاشلة— بانقلاب جديد في فجر ١٥ أبريل ٢٠٢٣. متجاهلين ما أحدثته عقود حكمهم الاستبدادي من تغييرات، تكاد تكون جذرّية في الوّعي المدّني.
وكذلك لظنهم أنهم بهذا الانقلاب، يتفادون تأثير تلك التغييرات، التي أحدثتها ثورّة ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة، وبالتالي لم يدركوا أنه من غير الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء!
***
كانت نتيجة سوء التقديرات وخطلها، أن تحوّل انقلاب ١٥ أبريل ٢٠٢٣ إلى حرب ضارّية، بين ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية داخل الجيش، الذي ظل يتكئ على (كتائب الظل) خارجه، في سعي محموم للقضاء على "قوات الدّعم السريع". باعتبار هذه القوات أصبحت عقبة رئيسية أمام عودتهم للسلطة مرّة أخرى، في ظل موقفها المعلن، المتمسك بالانتقال السلمي والتحوّل الديمقراطي المدني!
***
ما أن تأكدت نوايا الفلول العدوانية الانقلابية في إفطارات رمضان ٢٠٢٣، حتى نشطت قوّى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي، في المراوحة بين طرفي الصرّاع، لإيقاف الحرب قبل وقوعها. فيما استمر في السياق نفسه تنظيم الحركة الإسلاموطائفية في عموم البلاد، يلهث في حركة دؤوبة، لتعبئة (كتائب الظل والشعب)، و(التنسيق مع رموز النظام البائد) في السجون، تحت حماية وتمويل اللجنة الأمنية القائدة للمليشيا داخل الجيش. معلناً حربه الضارية ضد "قوات الدعم السريع"، والقوى (السياسية والمدنية ولجان المقاومة)، بحشد عشرات الآلاف من أعضائه وأنصاره ومؤيديه، في مختلف أنحاء السودان، متوعداً الجميع بالويل والثبور وعظائم الأمور، بعد انتصاره في الحرب!
***
جراء هذه الحرب البشعة قُتل وأُسر وأُصيب في معارك الأسابيع الأولى الضارية، عدد كبير جداً من المدنيين الأبرياء العُزل، ومن الطرفين المتحاربين. والتي هي في الواقع —للمفارقة— لم تكن معاركاً متكافئة عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً ودعائياً وتجييشياً!..
فالجيش فضلاً عن خبراته وإمكاناته الإعلامية والدعائية والتجييشية، وتسليحه المتنوع وعدته وعتاده، وعراقته وخبرته التي تناهز المائة عام، إلا أنه بدا من الواضح عاجزاً تماماً عن السيطرة، حتى على مواقعه العسكرية الاستراتيجية والمهمة، ومهزوماً و محاصراً!
ورُغم أن الحرب اندلعت كصراع بين قوتين عسكريتين (الجيش والدعم السريع) لأسباب ذاتية محضة، إلا أنها سرعان ما تحوَّلت إلى (صراع إجتماعي تارّيخي) لا يفتأ يراوح بين (الإثني والجهوي والقومي الوطني!!) مستصحباً كل آفات وجرائم وجرائر تارّيخ السودان، في مراحل تارّيخية مختلفة، منذ العهد الاستعماري التركي المصري، مروراً بالثورّة والدولة المهدية، فالاستعمار الإنجليزي المصري، والتي انعكست —تلك المراحل التارّيخية— على (الجمهورية الأولى) التي ولدت في ١٩٥٦، بما حملته في مكوناتها وأبنيتها من تشوهات تارّيخية هيكلية، سواءاً من صنع الاستعمار، أو من صناعة و تغذية حكومات الأقلية، في المراحل الديمقراطية والعسكرية المتعاقبة، بعد ميلاد الجمهورية الأولى في ١٩٥٦، حتى لحظة اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣.
***
قوات الدعم السريع خاضت الصرّاع في أيامه الأولى، دون إمتلاك "مشروع نهضوي وطني قومي" يستند على أُسس أخلاقية ومعنوية تبرر الحرب! و لإدراكها أنها ستُهزم أخلاقياً وعسكرياً، ما لم تتبنى "مشروع وطني قومي" محدد، تداعب به مشاعر السودانيين وأحلامهم. التقطت مشروع السودان الجديد (إعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة تتفادى الاختلال في ميزان السلطة والثروة).. وهو مشروع كانت قد بشرّت به منذ وقت مبكر "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وتبنت (الحركة المستقلة) وحركات مسلحة وقوى سياسية جديدة وحديثة وقوى مختلفة، يمكن تصنيفها كقوى يسار أو وسط أجزاءاً منه!
و بالتقاط الدعم السريع لهذا المشروع، سواءاً كان صادقاً في تبنيه له، أو استخدمه لاكتساب مشروعية لحربه، أصبح هذا المشروع هو (الأساس الأخلاقي والمعنوي)؛ الذي يبرر به الدعم السريع حربه ضد الميليشيا الإسلاموطائفية التي اختطفت الجيش.
وبالفعل نجح الدعم السريع بذلك، في إحداث انقسام في (الموقف الشعبي العام) من حربه، وسط المجتمعات السودانية، خصوصاً في المناطق المهمشة، وترتب على ذلك حصار (خطاب ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية) التي اختطفت الجيش! ففقدت بذلك إجماع الشعب لصالحها، في موقفه من هذه الحرب.
وتعمق انقسام المواقف (مع، ضد الحرب أو التزام الحياد تجاه الطرفين)، ليضعف بذلك موقف الجيش المختطف أكثر فأكثر. خصوصاً مع توالي هزائمه، وانضمام وحدات وأفراد منه، إلى قوات الدعم السريع. وفشل في تحويل الاستقطابات الاثنية والجهوية إلى حرب أهلية طاحنة يتمكن في خضمها من الإفلات بجرائمه!
***
الصراع التارّيخي الذي فجرته قوات الدعم السريع، مصحوباً بالسعي لحسم التفلتات، والخدمات التي أخذت تقدمها للمواطنين، حرّك مشاعر الكثيرون من السودانيين المهمشين والمقهورين والصامتين في القبل الأربعة! الأمر الذي أربك موقفهم من الحرب! ورشحهم كحواضن محتملة، كما نقل كذلك الدعم السريع من (قوات عسكرية نظامية) إلى (تنظيم سياسي مسلح؟!).
وهنا تجدُر الإشارّة إلى نقطة مهمّة، تتعلق بمكونات الدّعم السريع: فالنواة الأساسية، وهي القوة الضاربة هي قوّة قبلية، تدينها كتدين سائر أهل السودان (مزيج سني صوفي)، ليس له أي مظهر أو توظيف سياسي. إلى جانب عناصر لم يسبق لها خوض تجربة التنظيم السياسي (الفلوترز)، وكذلك عناصر كانت منظمة في مختلف الأحزاب السياسية. أو كانت جزءاً من قوى مسلحة في الهامش. أو عناصر كانت في القوات المسلحة.
وكل هذه المكونات لا تمثل مشكلة حقيقية، فتعاطفها مع الدّعم السريع؛ أو كون بعضها انضم للدعم السريع، لا يهدد المشروع الذي تبناه الدعم السريع، إن كان صادقاً حقاً في إعادة بناء السودان على أسس جديدة، تخدم مصالح جميع السودانيين، دون أي نوع من التمييز.
تكمن المشكلة الرئيسية في أن المكون الثاني، قوامه جزءاً مقدّراً من فلول النظام البائد. فعدد كبير من (العناصر القيادية والاستشارية والمقاتلة) في الدعم السريع، مرجعياتها الفكرية، هي أيديولوجية الحركة الإسلاموطائفية ك(نسق شمولي مغلق) نشأت على مبادئه منذ نعومة وعيها، وهؤلاء بطبيعة الحال لا يمكن الوثوق بهم في مشروع بناء (ديمقراطي مدني للدولة)، لأن مشروع كهذا هو على النقيض من نظام التفكير، الذي يرون من خلاله كل شئ! شأنهم شأن من تربوا داخل مدرسة (الإسلام السياسي) ممثلاً في الحركة الإسلاموطائفية بصورة عامة، والذين يقاتلون في الطرف الآخر تحت لواء (كتائب البراء بن مالك)، كما أنهم أيضاً كانوا لعقود جزءاً من تجربة (دولة الحركة الإسلاموطائفية)، وقد شاركوا بهمّة ونشاط في حروبها في الهامش، وجرائمها وفسادها واستبدادها، كما أنهم لم يفصحوا بما يشي بحدوث تمزق ذهني، أوقطيعة فكرية بينهم وبين مدرستهم الأم، أو توبتهم وندمهم على ما ظلوا يقترفونه من تقتيل ونهب واضطهاد وتخريب للدولة السودانية، خلال أكثر من ثلاث عقود.
كذلك بدت سيطرة هذا المكون الفاسد وهيمنته واضحة بشكل لافت، في (الخطاب السياسي والإعلامي والدعائي) لقوات الدعم السريع، رُغم اجتهادها في إخفائه خلف شعارات (بناء السودان على أُسس جديدة) تحقق العدالة والمواطنة بلا تمييز.
ويقيني أن وقوف أمثال هؤلاء خلف الدعم السريع، سيجهض مشروعه الوطني —إذا كان جاداً حقاً في هذا المشروع— وقد يقود إلى إحلال مركز استبدادي (اسلاموي عروبوي) مدعوم خليجياً، محل المركز الإسلاموطائفي البائد الفاسد، الذي تزعم قوات الدعم السريع الآن، أنها تخوض الحرب ضده. ولذلك من الأسئلة المهمّة: هل في نية الدعم السريع، التحول إلى تنظيم سياسي (اسلاموعروبوي) مسلح يطرح نفسه كبديل، للمركز (الاسلاموعروبوي) القديم؟
رُبما أن هذا السؤال خطر على بال حركات مسلحة، اختارت مناهضة الدعم السريع بالانحياز لميليشيا الحركة الإسلاموطائفية (عقار/جبريل)، انطلاقاً من رؤية استراتيجية، قوامها: أن انتصار الدعم السريع سيكون خصماً على (حقوقها التاريخية والاجتماعية والثقافية) كشعوب غير عربية، بصورة أسوأ مما فعل المركز (الإسلاموطائفي البائد).
فيما قد تقترح الحركات المسلحة (المحايدة) في هذه الحرب إجابة مختلفة، قوامها السعي لانتزاع حقوقها عنوة من المنتصر، حال قرر تنفيذ (مشروعه هو) وليس (مشروع التحول الديمقراطي المدني)، أو تحصل على حقوقها سلماً حال تم تنفيذ المعلن من أجندة الحرب على قاعدة الوثيقة الاطارية، إذ لا تعود بحاجة لخيار الحرب في حال انتصار (المشروع الديمقراطي المدني) الذي تنادي به قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي ولجان المقاومة واليسار الأممي والقومي (البعث والشيوعي).
كما أن أي تنازلات بإمكان هذه الحركات المحايدة تقديمها في هذا الواقع الجديد الذي فرضته الحرب، هي أهون من انتصار (أجندة خفية) تفضي إلى (مركز إسلاموعروبي) بديل للمركز (الإسلاموطائفي) المنهار!
نواصل
ahmeddhahia@gmail.com