لكل دعوة وثورة تسفر عن تحولات كبرى ممهدون يتقدمون مسيرتها ويسبقون حراكها بمؤشرات تمهيدية . ولذلك نعتقد ان الثورة المهدية فى السودان كان لها ممهدون وموطئون فى الداخل والخارج. ومنهم الشيخ بدوى أبو صفية والشيخ أحمد الطيب البشير ومدرسته المتمثلة بالطريقة السمانية والشيخ عثمان بن فودى والشيخ على الكرار جد الخليفة عبدالله. وراجت أفكار المهدى وقرب موعد ظهوره فى حزام عريض امتد من وادى النيل الاوسط إلى غرب السودان وأفريقيا حيث تناول السيد الصادق المهدى فى كتابه ( عبد الرحمن الصادق إمام الدين) مسألة الفكرة او العقيدة المهدية فى السودان موضحا ان الافكار السنية والصوفية حول المهدى لقيت رواجا ملحوظا فى السودان من عدة روافد كلها سنية أو صوفية ولا صلة لها بالتتشيع ؛ حيث أشار د. مكى شبيكة فى كتابه السودان والثورة المهدية إلى المصادر السمانية التى أشارت إلى ذكر المهدى والمهدية وان بعضها أشاع ان المهدى سيكون من بين أتباعها وان الشيخ السمان قال بإنه وزير المهدى والممهد لزمنه ( ص 8) . كما ذكر مؤسس الطريقة الختمية السيد محمد عثمان الميرغنى (الختم) المكى الميرغنى بن السيد على الميرغنى والمرفوع نسبه إلى السيد على بن زين العابدين بن الحسين السبط بن على ابن أبى طالب عدة مرات المهدى فى أقواله:
" قيل لى إن مقامك الوسيلة مع النبى – ص- وفاطمة والحسن والحسين والمهدى وأنت السادس ...". وكان يقول "...إن معنى الختم على اربعة أوجه: الختم النبوى : والثانى الختم المهدى؛ والثالث ختمك ؛ والرابع الختم الذى لا ولى بعده؛ وهو فى آخر الزمان". وذكر أيضا قوله" قيل لى لك كرسى حول العرش بعد كرسى المهدى ... و إنك تعطى راتبا لم يقدر على قراءته أحد غير النبى والمهدى ...وإن موضعك فى الكثيب فى الكثيب بعد المهدى والنبى ص ...وقيل لغوث من الاغواث ؛ هل تعلم أحدا أكمل منك فأشار إلى صورتى وصورة المهدى ....وقيل لى أنت خاتم أعلا مقام فى الولاية وليس لأحد فوقك إلا المهدى...و نظيرك المهدى .( أحمد بن إدريس الرباطابى: الإبانة النورية فى شأن الطريقة الختمية ؛ بيروت ؛دار الجيل ص 163؛ 164؛ 165). ومن جهة اخرى اورد السيد يوسف أحمد محمد عوض السيد إن السيد إسماعيل الولى أعد كتابا حول المهدية بعنوان " جامع الكلم وأوجز النظم فى معرفة سيدى الامام المهدى المنتظر والختم" ؛ ولقد ذكر الامام المهدى نفسه بعد مهديته فى كتاب بعثه إلى استاذه الشيخ محمد شريف نور الدائم شيخ الطريقة السمانية فى أواخر عام 1300 هجريه " وبالجملة فأمر المهدية هذا قد أطلعك الله عليه قبل كل العارفين في زمانك فأخبرتني وأخبرت غيري كما أخبرني بذلك غير واحد" ( د. محمد إبراهيم أبو سليم ؛ الاثار الكاملة للامام المهدى، ج1 ص 423).
ولما اكمل محمد احمد دراسته مع الشيخ محمد شريف ؛ قال الشيخ عبد المحمود انه رغب فى الانتقال إلى صحبة عارف وقته ؛ ليكتمل له مقصوده . فالتحق هو وحوارييه بالعارف الربانى الشيخ القرشى بن الزين آخذا عليه الطريق بإذن من الشيخ احمد الطيب البشير وانه لزمه ملازمة " الشبلى للجنيد ". ثم ان المهدى نهل من فيض بحر الشيخ القرشى المديد واجازه شيخه " فى جميع ما اجازه به الاستاذ الاكبر " وعاد إلى جزيرة أبا ومن هناك استمر فى زيارته الى ان حلت وفاة الشيخ القرشى فى يوم الجمعة 25 رجب من عام 1295 هجرى والتى لم يحضرها المهدى ( أزاهير الرياض ص 313 ). وكان الشيخ القرشى وارثا للطريقة الطيبية التى اورثها بدوره إلى الشيخ محمد أحمد واعلن ذلك قبل وفاته ووافقه على ذلك كل المريدين خاصة ابناء الشيخ القرشى . وكان له فرسه بيضاء هزلت جراء ما لحقها من إهمال العليقة والرباط كما هو متبع فى إناث الخيول التى لا تستخدم للركوب . وقد رآها ذات مره واقفة وهو فى طريقه إلى المسجد فطلب إلى غلمان كانوا يسيرون من خلفه بإن يهتموا منذ الآن فصاعدا بهذه الفرس لأن المهدى سيركبها وكان ذلك قبل اربعة اشهر من التحاق المهدى بالشيخ القرشى . وفى احدى المرات خلال ايام الاعياد لما حانت الصلاة امر الشيخ القرشى بتجهيز الفرس باحسن زينتها ؛ ولما ادنيت إليه الفرس ليركبها امر الشيخ القرشى الشيخ محمد أحمد بركوب الفرس إلى موقع الصلاة غاديا ورائحا. الطريقة السمانية حيث تلقى المهدى تعليمه الصوفى وتدريبه الروحى بشيوخها العظام كانت موطئة لمهدية محمد احمد بغض النظر عما ورد من خلاف كبير بين محمد احمد وشيخه الاول محمد شريف نور الدائم والذى سنتطرق إلأيه فى موضع آخر.
الشيخ محمد بن عبدالله بن على الكرار:
وسبق ان تنبأ والد الخليفة عبدالله فى غرب السودان بظهور المهدى فى السودان وان ابنه عبدالله سوف يكون ساعدا له ووزيرا ؛ حيث أكد فى تنبؤاته حول مستقبل الاحياء الاسلامى ان ابنه سوف يستشرف " مستقبل يعلو فيه إسمه ويطوف ذكره آفاق الارض ويهز الجبابرة والمتكبرين". ولذلك شرع الخليفة عبدالله بمجرد ظهور خبر المهدى بالسودان النيلى بالتوجه إليه ثقة فى نبوءة السيد محمد بن على الكرار بن القطب الواوى. ووصف السيد محمد بن خليفة المهدى ان الخليفة كان للمهدى " صاحبه وحبيبه وخليله وصفيه وامينه على مايشاء ويختار وهو اول الصديقين واول المبايعين على انه المهدى المنتظر " وان عائلته كانت فى عداد أول من هاجر إلى المهدى. وكذلك بشارة السيد أحمد بن إدريس الفاسى مهنئا والد الخليفة السيد محمد بمولد عبدالله (خليفة الصديق ) واطلق عليه ابيه (وارث مقام الصديق) . وقد تكون وفاة والد الخليفة عبدالله قبل ان تتحقق البشائر قد شكلت ضغطا نفسيا على الخليفة عبدالله الذى صدع امام الزبير باشا بكل سلطانه يومذاك بإنه وزير المهدى الاكبر.
الشيخ عثمان بن فودى ممهدا للمهدية:
يعتبر الشيخ عثمان بن فودى ( 1754-1817 م) من اميز الموطئين لمهدية محمد احمد مؤسس الخلافة الاسلامية فى سكوتو ؛ وهو الذى مهد لها وحدد موعد الظهور ومكانه مؤشرا إلى سودان وادى النيل ؛ حيث يشير بروفسور محمد إبراهيم أبو سليم إلى ان حركة الشيخ عثمان بن فودى قد " مهدت لحركة محمد المهدى ووضعت اسس الالتقاء بين الاتباع فى صعيد الدين والسياسة معا. بل ان الشيخ عثمان نفسه قد أعلن ان حركته ما هى الا تمهيد لحركة المهدى المنتظر الذى يظهر فى المشرق وان تباعه يكونون فى سلك أنصاره ". (ابوسليم ص 92 ) . بل ان هجرة الفولانيين من المشرق إلى المغرب وإقامتهم هناك ما كانت إلا رباطا ممدودا لأمة ومنتظرية متلهفة لخروج المهدى قبل ظهوره . وفى ذلك كتب الشيخ حياتو بن سعيد بن محمد بيلو بن الشيخ عثمان بن فودى " وما أقمت فى هذه البلاد إلا لإنتظارك وأنت اعلم بذلك ... وقد أوصانا جدنا الشيخ عثمان بن فوديا .... بالهجرة اليك إذا ظهرت ومعيتك ونحن معك قلبا وقالبا على نصر دين الله وسنة رسول الله ص". ( الخطابات المتبادلة بين الامام المهدى والشيخ حياتو)
وقد كتب الشيخ عثمان بن فودى عدة مؤلفات حول المهدية مثل " الخبر الهادي الى امور الامام المهدي» ؛ و«تحذير الاخوان من ادعاء المهدية الموعود بها آخر الزمان» و«القول المختصر في امر الامام المهدي المنتظر" و" تنبيه الافهام على ان المهدى هو الختام " و" مدارج السلامة فى جملة من مسائل الامامة" و" الغيث الوبل فى سيرة الامام العدل" و" منظومة فى الفتن المتعلقة بخروج المهدى" و" الكافى فى علم الجفر والخوافى" . وهى مخطوطات لا تزال محفوظة فى جامعات إبادان والخزانة الوطنية بكادونا ومكتبة جامعة كنو ؛ ومركز التاريخ فى سكوتو؛ وزاريا ؛ والمعهد الفرنسى فى باريس. وفى كتابه المعنون الخبر الهادى إلى امور الامام المهدى" قال الشيخ عثمان ان تواتر الاخبار بمجىء المهدى بلغ حد الاستفاضة؛ وأن من انكر خروج المهدى فهو كافر؛ وان المهدى لم ينقضى زمانه كما ذهب البعض الى القول وأنه متأخر إلى وقت خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم ؛ وان إدعاء إبن تومرت انه المهدى قد انكره الفقهاء عليه مشيرا إلى كتاب الجلال السيوطى المعروف بالعرف الوردى فى أخبار المهدى من ان المهدى متأخر حتى يكون فى آخر الزمان لوقت خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم . وكان الشيخ عثمان قد نال الفتح بالصلة على النبى (ص) وكان مستغرقا فى المحبة الرسولية وكذلك محبة اهل موقع الظهور فى السودان. كما ابان بواعث الشوق الرسولية تبدو واضحه فى داليته المشهورة متلهفا لزيارة الرسول (ص) حيث يقول عن مكابدات الصبابة والشوق الجارف لزيارة الرسول ( ص):
هل لي مسير نحو طيبة مسرعا لأزور قبر الهاشمي محمد
لما فشا رياه في كنافها وتكمّش الحجاج نحو محمد
غودرت أنهمل الدموع موبلا شوقا إلى هذا النبي محمد
أقسمت بالرحمن ما لي مفصلإ إ لا حوى حب النبي محمد
أحكي المصاب بشوقه لما عرى ما لي لذيذ العيش دون محمد
قد كدت شوقا أن أطير لقبره ما لي سرور دون زورة سيد
إن قيل لي ماذا يشوقك في الورى فأ قول إني عاشق لمحمد
من عرش رب العالمين جنوده ما في الورى مثل النبي محمد
وقد نظم الشيخ عثمان بن فودى قصيده مبايعا الامام المهدى قبل ظهوره:
يا من ولايته أصل الولايات ومقامه فى العلا .. فوق ..المقامات
من نور خير الورى قد كنت منفجرا نورا وجسما وشأنك ظاهرا يأتى
وبيعتى لك واجبة على فخذ يدا بايعت قد أخلصت بنياتى
قبل الظهور وان طال الزمان فقد سبقت مبايعتى لك قبل انكشافاتى
كما حدد الشيخ محمد بيلو بن عثمان بن فودى فى كتابه ( الجفر والخوافى ) ظهور الامام المهدى فى عام 1280 هجريه ؛ واوضح فى كتابه ( القول المختصر) ان المدة بين وفاة الشيخ عثمان بن فودى وظهور الامام المهدى 57 عاما ( 1289 هجريه) ؛ وأضاف فى كتابه ( إنفاق الميسور فى تاريخ بلاد التكرور) إن جهاد هم لا ينقضى حتى يفضى إلى المهدى( الصادق المهدى؛ م. سابق ص9) . وكتبت الشيخة مريم بنت امير المؤمنين الشيخ عثمان بن فودى تؤكد ان والدها اوصى بالهجرة الى المهدى دون ان يحدد وقتها ولكنه قال: اذا جاء ذلك الوقت لا يخفى على احد بل هو كنار على علم ومن علامات ذاك الموعد " إمساك المطر حتى ان الشخص ليحفر فى بحرنا هذا بيرا ولم يدرك من الماء شيئا " ومن العلامات ايضا " هيجان الفتن فى جموع المغرب حتى انهم ينفصلون من بلدانهم يتوجهون إلى المشرق فإذا هم لم يجدونا فوجدونا قد سبقناهم الى الرحيل". كما اشارت الى فشو انواع القحط والجوع والحروب بين المسلمين والكفار وقلة العمارات. وهى العلامات التى اكدها الشيخ بن فودى وابنه الشيخ محمد بيلو.
وبيّن الشيخ ابن فودى منازل طريق الهجرة للمهاجرين المهدويين من شمال نيجيريا الى المشرق الاوسط حيث ظهور الامام المهدى. واوردت الشيخة مريم بنت الشيخ عثمان بن فودى فى رسالة لها إلى امير كنو نقلا عن امير المؤمنين الشيخ أبو بكر عتيق ابن الشيخ عثمان بن فودى قول ابيه: " ان جماعة اهل الرباط الذين نصّبوا هم الذين ينتقلون الى بحر النيل والى بلاد الحجاز بعينهم او ذرياتهم وهم بقية امر الشيخ وفيهم نوره وبركته وهم الذين يجتمعون بالامام المهدى ويبايعونه ومعهم رايات الشيخ ومقامهم عند الله عظيم واما من خرج من اهل الرباط ورجع القهقرى الى محله الأول فلا يعد فيهم لأنه نكص على عقبيه ". وفى نبؤءة اخرى تشير الوثيقة الى " من بقى من أهل القرى كهنا (فتح الكاف وضم الهاء وفتح النون) فلا يصل معهم إلى بحر النيل والى بلاد الحجاز والى مبايعة الامام المهدى بل اكثرهم يتوجهون الى بلاد المغرب فيمكثون هناك فى بلاد الكفار حتى يخرج عليهم الاعور المسيح الدجال".
الشيخ بدوى أبو صفية
قبل مرحلة الاعلان عن مهديته نرى ان الشيخ محمد أحمد بن عبدالله قام بجولة على امصار السودان متفقدا بشكل كبير حال السودانيين وأثر وطأة الحكم التركى عليهم ؛ فهو وإن نال تعليما دينيا الحقه بمدارج الصفوة الدينية واهل العلم ولكنه ظل متصلا بعامة المواطنين ؛ إذ كان مدركا ان العناية الالهية تعده للقيام بدور كبير فى تحرير امته المكبلة بقيود الحكم التركى. وكانت كردفان تشكل خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مديرية او محافظة تخضع لسلطة خديوى مصر محمد على باشا ؛ وكانت مقسومة الى جزء ين الاول : وهو الجزء الغربى الذى كان خاضعا لمملكة دارفور ؛ واما الجزء الآخر فكان خاضعا لسيطرة ملوك سنار الذين كانو ممثلين بالشيوخ العرب. ولدى قدوم الاتراك الى مديرية كردفان لقى ( وزير الملك ) الذى كان يحكم بإسم سلطان دارفور مصرعه فى ساحة القتال لتقع تحت سيطرة الاتراك لتخضع بدورها كما خضعت سنار الى حكم الاتراك ( د. بينى ؛ مذكرات حول اثنوغرافيا السودان المصرى؛ مجلة الاثنوغرافيا؛ المجلد الاول ؛ باريس 1882 ؛ مكتبة الجمعية الاسيوية؛ ص 291)
الدعوة الاسلامية وغرب السودان:
قام الفقراء بنشر الدعوة الى العقيدة الاسلامية فى مناطق جبال النوبة على عهد أشهر الفقهاء والدعاة الاسلاميين فى كردفان وهو الشيخ البدوى أبو صفية حيث مكث فى سلك الدعوة 50 عاما وسط سكان الجبال حيث تميز بملكة الاقناع مما مكنه من إدخال عدد كبير منهم الى الاسلام ؛ ( ص 490) ونظرا لما تحقق على يديه من نجاح فى الدعوة الى الاسلام فقد عمت شهرته الآ فاق وعلا صيته فى كل المناطق . ولقد لا قى الفيه البدوى مشقة فى الدعوة حيث ذكر د. بينى ان بعض الدعاة كانوا يواجهون رماح القبائل مرفوعة فى ووجوهم مما دعاهم الى حمل المصحف بيد والسيف بالاخرى ؛ حيث تعرض لمضاياقات من قبل احد حكام منطقة جبال مما اضطره الى مغادرة المنطقة. ويصف مسيو بينى مشهد عودة الفقيه البدوى المنتظرة إلى المدينة التى ولد بها بعد غياب دام سنوات طويلة مثل " انتظار اليهود عودة المسيح . وبمجرد الاعلان عن قرب وصوله شرع الآف الناس فى التدافع امامه بحيث كان دخوله الى البلدة بمثابة مسيرة نصر حقيقية ؛ وعبر الناس فى التعبير عن ابتهاجهم بالموسيقى المحلية وزغاريد النساء واظهار المسرة مقتفين أثر الفقيه بدوى الذى كان يتقدم المسيرة هادئا مشرّفا يحمل مصحفا بيده ويلبس ثوبا خشنا مهترئا (مرقعا) . " (ص 491 ). وفيما يتعلق بميزان القوى السياسى فى مديرية كردفان آنذاك فقد كان الفقيه البدوى يتمتع بنفوذ دينى وإرشادى كبير على الأهالى بالمنطقة ؛ وكان مدركا لمدى قوته تلك بحيث ظل وبشكل دائم يتخذ موقف المعارضة الثابتة للحكومة التركية. وكان يقول للاتراك " تقولون انكم مسلمون ؛ الله وحده يعلم الحقيقة ؛ ولكن بالنسبة لى ما انتم سوى مضهدين لبلادى. الخبز الذى تأكلون هو خبز نجس تحصلون عليه من العمال المساكين الذين يجلبونه بأيديهم والملابس الفخمة التى تلبسون اشتريتموها بفلوس الشعب ؛ ورواتبكم هى التى يدفعها الشعب . لا انتم غير مسلمين بل ما أنتم سوى طغاة فوق هذا الشعب " ( ص 492 ).
وإبان زيارة الخديوى محمد على باشا إلى السودان استدعى الفقيه البدوى ليمنحه معاشا او راتبا طمعا فى تلطيف حدة مشاعره لا سيما ان الاتراك ادركوا بثاقب نظرهم ان الفقيه البدوى يعد مصدر خطر لأمنهم العام وفى منطقة نائية عن المركز ؛ حيث وصفه الكاتب الفرنسى د. بينى بالجمهورى أو الوطنى الغيور . وكانت المفاجأة كبيرة حين رفض الفقيه البدوى رض الخديوى قائلا: " شكرا على صدقتك والله وحده يكفى لقضاء حوائجنا ونحن لا نطلب منك شيئا ". وبعد هذا الرفض غادر الفكى بدوى إلى جبال النوبة ليعتزل هناك ؛ ويبدو انه حسب ان الاتراك سوف يلحقون به شرا بعد فشل تدابير جعله معارضا مستأنسا بالعروض المالية الدنياوية ويقول الكاتب ان الشيخ البدوى وفق منظوره ؛ ادرك عدم نضج الوقت لإطلاق ثورة مضادة ؛ وكان قد خشى من دفع الحراك من اجل الحرية الى سقف أعلى ؛ وربما لأنه لم يحس بتوفر الارادة الشاملة فى القيام بكفاح مفتوح ضد المضطهدين (ص 492). ومما لا شك فيه ان التشخيص الذى اجراه الففقيه بدوى ابو صفيه لوضعية السودانيين تحت نير الاستعمار التركى كان صحيحا وبدون شك لقد كان الفقيه البدوى رجلا ذكيا وداعية ملما بجوانب الحياة من حولة ولم يكن معتزلا صوفيا او متحنثا للخلاص الفردى. ولكنه ادرك ان الامة لم تبلغ بعد مقام التصدى الجماعى للدولة التركية وبطشها. فلجأ الى انتهاج نهج الفقهاء الذين سبقوه فى تاريخ الدعوة الاسلامية بالابتعاد عن السلطة ومقاطعة اتاواتها وإغراءتها مفوضا الامر إلى الله . وينطبق موقفه هذا تماما مع موقف الامام المهدى حين امتنع عن تعاطى طعام شيخه فى بربر بحجة أن الأخير كان يتلقى اتاوة من الحكومة التركية ضاربا بذلك المثل القاطع فى التوكل على الله . ولذلك حسب تحليلنا لم يكن لجوء المهدى الى غرب السودان وجولاته فى كردفان من فراغ ؛ فهى استجابة لأمر تلقاه وخلاصة لقراءة واقع الامة السودانية حينذاك. لم يلمس المهدى استعداد الشمال للمواجهة فأشعل الجذوة فى المواجهة الاولى فى الجزيرة أبا ؛ ومن حيث انتهى الشيخ البدوى ابو صفيه ابتدأ الامام المهدى فى ايقاظ جذوة الثورة التى كانت حماسة باردة من قبل او غضب متلجلج فى الصدور وضيق مكبوت ؛ ولقد تولى بدوره تمثل هذا الغضب وجعله فعلا ثوريا مناهضا لسطوة الحكم التركى و لم يكن ذلك ممكنا فى أوان الفقيه البدوى؛ ولذلك اعتبر ان الشيخ البدوى كان الموطىء الوطنى لثورة محمد احمد المهدى الذى انتهى زوجا لبنته.
تقلى العباسية:
ونلاحظ ان محمد احمد زار المنطقة قبل إعلان مهديته حيث وصل إلى تقلى العباسية لأول مرة على عهد المك آدم بشدورق الذى إلتقاه على إنفراد ليطلعه على مهد يته فى مرحلة الإسرار . ولدى إنتهاء الاجتماع المغلق والمطوّل الذى ضم المك آدم والامام المهدى ؛ أعرب المك لخمسة اشخاص: (ارباب الطيب وارباب البشير ود مصطفى اجلون والشيخ اسماعيل ود يسن المسلمى والفكى ابو البشر) عندما سألوه عن الفقير القادم او الضيف الكبير " ان هذا الرجل امره عظيم ؛ انه يدّعى انه المهدى المنتظر ونحن وعدناه خيرا . ثم عاد المهدى إلى الجزيرة بعد ان قضى ايام الضيافة الثلاثة ". ( تاريخ مملكة تقلى الاسلامية ص 142).
ولما عاد المهدى إلى تقلى فى زيارته الثانية بعد عام من الزيارة الأولى جمع المك له " الارابيب وأصحاب الراى " وخاطب الامام المهدى التقلاويين بعد تلاوة القرآن والصلاة على النبى قائلا " يارجال تقلى انتم رجال دين ومنصورين. وبلدكم محصن بذكر الله وانا جيتكم تقيفوا معى لرفعة راية الاسلام بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله ". ثم قال للمك " انت يا المك الله يطول عمرك انا دايرك تزودنى وتتبعنى رجال فرسان ينصروا الدين ويعلوا كلمة لا اله الا الله ويوصلونى الى المكان اللى انا قاصده ووالله انا كان ما زدتك فى ملكك ما انقصك ". (ص 142 . تاريخ مملكة تقلى الاسلامية ). وبدون تردد امر المك بسبعين مقاتلا من الأشاوش مع ابنه عمر المر (الصاقعة التكر) وابن اخته ارباب الخيرى وسلمهما للمهدى قائلا " سلمتك لهما فى الدنيا وتسلمنى لهما فى الآخرة ". ووصف المك رجاله الاشاوش وهم اول جماعة فى عداد السابقين تظفر بشرف الصحبة والانضمام إلى ثورة و مشروع التحرير المهدوى فى الغرب " رجال فرسان ...الواحد منهم يغلب المائة فيهم ولدى عمر المر الصاقعة التكر وولده ضرين ضرا خفى وضرا تشوفه العين وعبد الرحمن كابس الحركة يعدل الميل ويحل الدركة وعبد الرحمن فارس الحدب وأحمد ضرغام وداؤد المنتق وعلى شال من داك ومحمد قميص القش ومحمد ود قنجار الضب العزب وموسى قباض ضله ومحمد اللخاخ وغيرهم ". ( م. سابق ص 144). ولقد قام المهدى فى واقعة الجرادة التى كان فيها الشلالى قائدا للجيش التركى ؛ بتعيين فرسان تقلى كرؤوس مئات فى جيش الانصار واوكل إلى تقلى حمل راية الجهاد لأنهم منصورون . يجدر بالذكر ان تلك الواقعة شهدت استشهاد الشريف ابو هدايه والشريف حامد والشريف يعقوب بعيار احد المدافع (م. سابق ص 147 )