المستقبل السياسي للحركات الموقعة على اتفاقيات السلام .. بقلم: الإمام الصادق المهدي

 


 

 




بسم الله الرحمن الرحيم
قاعة الشهيد الزبير للمؤتمرات
مخاطبة ندوة:
المستقبل السياسي للحركات الموقعة على اتفاقيات السلام مع الحكومة
تقديم: الإمام الصادق المهدي
8 سبتمبر 2013م
مقدمة:
عندما استقل السودان انشغلت القوى السياسية بمهام الجلاء والسودنة وانتقال السلطة عبر نظام ديمقراطي مقتبس من نظام الوطن المحتل بريطانيا.
القوى السياسية صانعة الاستقلال لم تراع ثلاث قضايا تستوجب الاهتمام هي: العدالة الاجتماعية، والتأصيل، والعدالة الجهوية.
النظام المايوي (1969-1985م) تأثراً بالشعارات الشيوعية ركز على قضية العدالة الاجتماعية بصورة قفزت فوق الواقع الاجتماعي، وأتت بنتائج عكسية.
نظام الإنقاذ (1989م- ...) ركز على قضية التأصيل بصورة قفزت هي الأخرى فوق الواقع الاجتماعي، ما أدى لردود فعل عنيفة حولت مشكلة الجنوب إلى تقرير المصير والانفصال؛ ومسألة دارفور من طابعها المحلي إلى احترابٍ طرفاه الحكومة المركزية وفصائل مسلحة، ما أفرز تعديات على حقوق الإنسان، فالتدويل.
كانت دارفور موطن احتجاج مطلبي بلورته جبهة نهضة دارفور في الستينيات، ومؤتمر البجا في شرق السودان، وغيرهما.
نحن نمثل جيلاً بعد المؤسسين صناع الاستقلال دخلنا المشهد السياسي السوداني بعد ثورة أكتوبر 1964م التي قامت على أكتافنا، وحاولنا الاستجابة الناعمة للقضايا الثلاث: وذلك بإجراء حوارات مع اليسار لا اقصائية كما فعل السابقون بل تبنينا شعارات الإصلاح الزراعي، وتمييز القوى الحديثة، والاعتراف باتحاد النقابات، كما كونا مع القوى الإسلامية الحديثة مؤتمر القوى الجديدة ولاحقاً جماعة الفكر والثقافة الإسلامية بهدف جعل مشروع التأصيل قومياً، واتخذنا موقفاً إيجابياً من الحركات الجهوية ما أدى لتحالفات مع حزب سانو، وجبهة نهضة دارفور، ومؤتمر البجا، والحزب القومي.
لكن هذا النهج التوفيقي استفز الحرس القديم في السياسة السودانية فتحرك ضده، وأجهضه الانقلابيون من اليسار واليمين.
الانقلاب الأخير في يونيو 1989م اعتبر مشروع السلام مع الحركة الشعبية الذي قام على تجميد التشريعات المايوية الإسلاموية، وعدالة اقتسام السلطة والثروة في مؤتمر قومي دستوري مزمع في 18/9/1989م؛ تراجعاً عن الأسلمة، وتمكيناً للحركة الشعبية، مع أن المشروع كان خالياً من فكرة تقرير المصير، وكان بعيداً من أية تدخلات أجنبية.
انقلاب يونيو 1989م غير الموقف السياسي السوداني بصورة هائلة لأن شعاراته منحت الحركة الشعبية تعاطفاً  في دول الجوار ودعماً دولياً غير مسبوق.
قال لي المرحوم د. جون قرنق لو قدّرنا النتائج لا الأفعال لوجب علينا أن نصنع تماثيل لقادة الإنقاذ فبفضلهم حصلنا على دعم مادي ومعنوي هائل.
كما أن إقدام حكومة الإنقاذ على تغيير النسيج الاجتماعي في دارفور أدى إلى نشأة حركات سياسية مسلحة تقاتل الحكومة المركزية.
كانت دارفور قبل عام 1989م تعاني من مشاكل أهمها: فجوة التنمية والخدمات الاجتماعية، الصراع على الموارد خاصة بعد جفاف 1983م، النهب المسلح خاصة بعد الحرب الليبية التشادية ووفرة السلاح عبر الحدود، والتوتر القبلي التقليدي.
ولكن لا سيما بعد عام 2000م تغيرت طبيعة المشهد في دارفور إذ تكونت حركات مسلحة: حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، هاتان الحركتان ولأول مرة رفعتا السلاح ضد الحكومة المركزية وذلك نتيجة لثلاثة عوامل هي: اتباع السلطة المركزية نهجاً فوقياً يفرض توجهاته بالقوة ويقول إنه لا يفاوض إلا حملة السلاح، وقدوة الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي قرر أن التناقض السياسي في السودان ليس بين الشمال والجنوب ولكن بين العروبة والأفريقانية وبين الإسلام والعلمانية، والانشقاق في المؤتمر الوطني وانخراط عناصره الدارفورية المنشقة في عمل مسلح.
ردود الفعل الحكومية على العمل السياسي المسلح أدت لاستغلال التباين الإثني في الإقليم ما جند عناصر غير نظامية في الاقتتال وممارسات تجاوزت حقوق الإنسان، هكذا ظهر في دارفور بعد عام 2002م أربعة عناصر لم تكن موجودة هي:
•        حركات سياسية مسلحة تحارب الحكومة المركزية.
•        تجاوزات في حقوق الإنسان أفرزت معسكرات كبيرة من نازحين ولاجئين.
•        اهتمام إعلامي دولي بحوادث دارفور، واهتمام دولي بالجرائم ما أدى إلى أكثر من أربعين قرار مجلس أمن تحت الفصل السابع.
•        ترفيع أزمة دارفور لتصبح أهم قضايا البلاد داخلياً وخارجياً.
•        دخول محكمة الجنايات الدولية بتفويض من مجلس الأمن تحت الفصل السابع كطرف فاعل في قضية دارفور، وأهمية إيجاد مزاوجة فاعلة بين الاستقرار وإحقاق العدالة، واقترحنا في هذا السياق محاكم الهجين المقبولة لكثير من الأطراف المعنية للخروج من عقدة المحكمة.
أزمة دارفور بأبعادها الجديدة أدت إلى مجموعة من مبادرات السلام والورش والمؤتمرات ما أدى لتثقيف غير مسبوق للقوى السياسية السودانية والدولية بمسألة دارفور.
أهم مبادرات سلام دارفور كان ملتقى أبوجا في عام 2006م وقد تمخض عنه اتفاقية ابوجا في مايو 2006م. الاتفاقية التي وقعت عليها حركة تحرير السودان (جناح مني) ورفضها جناح عبد الواحد كما رفضتها حركة العدل والمساواة.
وأدى التداول القومي بعد ذلك إلى وثيقة هايدلبيرج الأكثر تعمقاً في حل المشكلة ولكنها لم تجد قبولاً لدى الحكومة.
وثاني أهم مبادرة هي مبادرة الدوحة التي أدت للتوقيع على اتفاقية الدوحة في يوليو2011م. كان موقفنا المبدئي تأييد مطالب حركات دارفور ورفض أسلوب القوة، لذلك رحبنا بالاتفاقيتين مع التحفظ على مآخذ ذكرناها أهمها:
(أ)          أنها اتفاقيات ثنائية بين الموقعين عليها أقصت القوى السياسية الأخرى.
(ب)     وأنها أبرمت مع فصائل دون أخرى، مما يعني استمرار الحرب مع الفصائل غير الموقعة.
(ج)      أنها أبرمت تحت مظلة اتفاقية نيفاشا التي وضعت لها سقوفاً غير مشروعة وجعلتها عاجزة عن تلبية المطالب المشروعة للإقليم.
(د)        أنها افترضت التنمية ممكنة قبل بسط الأمن.
(ه)         مشكلة دارفور هي جزء من مشكلة عامة تتعلق بالعلاقة بين المركز والأقاليم، وبدل النظر لهذه المسألة بالجملة نظر إليها بالقطاعي.
(و)       مشكلة دارفور مشكلة قومية وحلها يتطلب رؤية جديدة لحكم البلاد. رؤية تتطلب أسساً يكفلها الدستور ويكفل الدستور استحقاقات المركز والولايات بصورة واضحة.
(ز)       اتفاقيات السلام المبرمة هذه مبرمة تحت مظلة مشروع النظام الحاكم بلا تعديل ما جعل الاتفاقيات أشبه بمحاصصة دون مخاطبة للأفق السياسي والدستوري.
أما بالنسبة للشرق، فقد تم الاتفاق في أكتوبر 2006م في أسمرا، بين المؤتمر الوطني، وجبهة الشرق (المكونة من مؤتمر البجة، والأسود الحرة) ويعتمد الاتفاق على مشاركة ومتابعة وتحكيم إرتري. هذه الاتفاقية أكثر هشاشة من اتفاقية أبوجا للأسباب الآتية:
(أ)    وقع عليها الفصيلان المكونان لجبهة الشرق وهما الموجودان في إرتريا وتكونا ضمن مساجلة النظام السوداني والنظام الإرتري وتحالفا مع النظام الارتري، ومع أنهما يمثلان بعض عناصر الشرق إلا أنهما لا يمثلان الأحزاب السياسية، ولا مؤتمر البجة التنظيم الداخلي، ولا جبهة الشرق الديمقراطية، ولا عدداً كبيراً من قبائل الشرق، ولا ولاية القضارف.
(ب)  اتفاقية الشرق محكومة هي الأخرى بسقوف نيفاشا لذلك لم ترد فيها حقوق تساوي سابقة نيفاشا لذلك اعتبرت أكثرية أهل الشرق أنها لم تحقق أكثر من 10% من مطالبهم.
(ج)   اتفاقية الشرق تحت وصاية أرترية وتعتمد تماماً على استمرار حسن النوايا الإرترية، ولكن العلاقة السودانية الإرترية محكومة بمثلث سوداني أثيوبي إرتري تتقاذفه رمال متحركة.
الحركات الموقعة على الاتفاقيات المذكورة سواء في دارفور أو الشرق، بعضها عاد للقتال (كحركة التحرير فصيل مني أركو مناوي، والحركة الشعبية قطاع الشمال)، وبعضها لا يزال متمسكاً بالاتفاقيات في ظروف من الشد والجذب المستمر.
الخيار أمام الحركات الموقعة مع الحكومة هو:
اعتبار أنفسها وكالات لتنفيذ ما اتفق عليه تحت مظلة نظام الانقاذ، أو اعتبار أن ما وقعت عليه خطوة أولى للانتقال من العمل المسلح للعمل المدني، وتطوير العمل المدني للمساهمة في استنهاض دارفور والمساهمة في تجديد وإصلاح الحياة السياسية في البلاد.
وفيما يتعلق بدارفور فإن المشهد متحرك، فما هو دور الحركات الموقعة في التعامل مع هذا الموقف المتحرك؟ هل سيكون بالتضامن مع المؤتمر الوطني؟ أو سيكون لها عطاء مستقل؟
المستجدات في دارفور هي:
•        تكوين الحركات غير الموقعة للجبهة الثورية، وتوحيد بندقية المقاومة لإسقاط نظام الخرطوم، والخيارات هي: الاصطفاف مع الحكومة لمقاتلة الجبهة الثورية، أو العمل على الضغط عليها لقبول الحل السياسي؟
•        وهنالك ظاهرة جديدة في دارفور هي انفجار الاقتتال القبلي بصورة غير مسبوقة حتى صار أكثر تهديداً للأمن من النزاع بين الحكومة المركزية والحركات المسلحة. فما هو عطاء الحركات الموقعة في تشخيص هذا التدهور وأسبابه وعلاجه؟ الاقتتال القبلي الحالي اقتتال حول الموارد ما يوجب سياسة جديدة وعادلة لملكية وإدارة الموارد من أراضٍ زراعية ومشاريع ومراعٍ، كذلك دخلت مليشيات قبلية مدربة ومسلحة طرفاً في النزاعات ما أخرج الأمر من التقاليد القديمة وأوجب تناولاً جديداً.
•        العناصر غير النظامية التي استعانت بها الحكومة لمواجهة الحركات المسلحة لم تعد موالية ولها أسبابها فما العمل؟ هؤلاء أشبه ببارونات حرب ولديهم أجندات خاصة ينبغي إدخالهم في عملية بناء السلام.
•        الاقتتال ذو الطابع الإثني والسياسي الذي انتشر في دارفور، والاقتتال القبلي، بل النهب الفردي، وكلها نزاعات دموية صنعت جراحات كثيرة في الجسم الاجتماعي في دارفور ما يوجب مشروع مصالحة اجتماعية واسعة لرم تلك الجراح.
•        نتيجة لعوامل كثيرة انتشر السلاح بصورة كبيرة لدى الأفراد ولدى القبائل وصارت القبائل تفكر في حماية نفسها. ما حجم دور الحكومة، وحجم دور الحركات المسلحة، بل كذلك حجم دور اليوناميد؟
•        والبلاد تشهد تطورات سياسية جديدة:
-         حركة معارضة سياسية ذات أهداف معلنة سيما برنامج حزب الأمة لنظام جديد.
-         حركات ممانعة شبابية مثلاً شرارة، وسائحون.. إلخ، فما الموقف منها؟
-         تطلعات إصلاح قوية داخل قواعد النظام.
وهنالك التحديات الفكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية في الساحة السودانية، وأهمها:
•        أطروحة الإسلام دين ودولة وأطروحة فصل الدين عن الدولة.
•        الاقتصاد حر أم موجه ودرجة العدالة الاجتماعية المطلوبة؟
•        المعادلة العربية الأفريقانية والموقف منها.
•        دستور السودان القادم ما هي مبادؤه وآليات تحقيقه؟
•        قضية التمكين في جوانبها المختلفة وهل تستمر أم ينبغي إحلال النهج القومي في كل المجالات؟
•        العلاقات الخارجية الإقليمية والدولية كيف تصير؟
في كل هذه الأمور هنالك خياران: الرضا باستحقاقات الاتفاقيات، وقبول قيادة المؤتمر الوطني، والتنسيق معه في كل ما لم تتطرق إليه الاتفاقيات. أو اعتبار الحركات المسلحة قد قدمت مرافعة قوية لقضاياها واكتسبت خبرات قيمة وأثمرت كوادر مؤهلة لرفد السياسة السودانية بدماء جديدة تساهم في تجديد الحياة السياسية في السودان.
الحركة الشعبية بقيادة المرحوم د. جون قرنق برعت في الاحتجاج ووسعت مساحة الجانب العسكري، كذلك عزلت سياسات الإنقاذ نفسها ما أتاح فرصة واسعة للدعم الدولي للحركة الشعبية حتى صار العنصران العسكري والخارجي متضخمين، وكانت مشكلتنا مع د. جون قرنق هي:
أولاً: تهميش الجانب السياسي حتى  صارت الحركة الشعبية منبر علاقات عامة للجيش الشعبي.
ثانياً: أنه لم يلتزم بالنهج القومي الذي شارك في إقراره في مؤتمر القضايا المصيرية (1995م) واتخذ مسلكاً ثنائياً في الاتفاق مع حكومة السودان.
هذا النمط أثر كثيراً على الحركات المسلحة الأخرى، ولكن بعد وقف الحرب صارت الفرصة واسعة لتختار الحركات مستقبلاً تحت مظلة المؤتمر الوطني، أو في مناخ هامش الحريات النسبي تبحث القضايا المذكورة أعلاه وتقرر دورها السياسي وتكون أحزاباً سياسية لتشارك في بناء الوطن من زاوية مستقلة.
إذا تخلت الحركات الموقعة من الطبيعة المطلبية في ظل ما أبرمت من اتفاقيات، وقررت لنفسها دوراً سياسياً في استنهاض دارفور وفي بناء الوطن، فسوف يتطلب ذلك تحديد أهداف سياسية تتجاوز نصوص ما أبرمت من اتفاقيات، وعقد مؤتمرات لإجازة تلك الأهداف للخروج من الطابع الفوقي إلى القاعدي، ثم تختار التحالف بشروط مع المؤتمر الوطني، أو مع القوى الدارفورية غير الموقعة إن هي دخلت في اتفاق سلام جديد، أو مع الدعوة لنظام جديد بالوسائل المدنية المبرأة من الاستنصار بالخارج. إن للحزب الحاكم رؤية حول توسيع قاعدته كما لحزب الأمة رؤية حول نظام جديد فماذا ترى الحركات الموقعة هل تحاور النظام وتقدم رؤيتها للإصلاح أو تحاور الأمة وتقدم رؤيتها للنظام الجديد؟
الدعوة لهذه الندوة فكرة صائبة يمكن أن تصير وقفة مع الذات لاختيار أفضل السبل لاستنهاض دارفور والمشاركة الفاعلة في بناء الوطن.
هذه المهمة تشمل كافة الحركات الموقعة بما في ذلك جبهة الشرق لتطوير مواقفها مع الحزب الحاكم كشركاء أو مع حزب الأمة كشركاء في مشروع النظام الجديد.
Mohamed Zaki [zakioffice@yahoo.com]

 

آراء