المشروعية غير الأخلاقية للحرب الدائرة
د. الوليد آدم مادبو
18 April, 2023
18 April, 2023
تكلمت الكتب السماوية واسهبت الشرائع الانسانية في التقعيد الفلسفي والفكري للحرب وبيّنت مشروعيتها التي لا تحل لفئة إلّا بالقدر الذي تدفع به الاذي عن نفسها وتدرأ به الفتنة عن المستضعفين وتفسح به المجال للقادرين على الالتزام بالضوابط
الاخلاقية للتعبير عن طموحاتهم بحرية وأريحية تتأصل بها الحياة الحياة المدنية وتزدهر بها الانسانية. إن حروباً قليلاً في التاريخ الانساني هي التي التزمت بهذا التعريف، أمّا ما عداها فكانت تعدياً سافراً استغلت فيه المجموعات المتجبرة قدرتها على البطش فأمعنت في التنكيل بالمستضعفين ولم تتبين حدود الضبط للنفس التي كثيراً ما تميل للفساد الاستبداد.
لسنا معنيين بالإجابة عن سؤال فلسفي مطلق، نحن مسؤولون في هذا المقال عن المشروعية الاخلاقية لهذه الحرب الدائرة والتي عجز رأس الدولة حتى هذه اللحظة عن تبيان حكمة مشروعيتها، وإن كان قد بدأ لها التخطيط منذ فترة سيما أن الدعم السريع لم يكن قد تمرد بعد عندما اجتمع أعضاء اللجنة الأمنية مع بعض قيادات الحلو في جوبا أثناء المفاوضات للتفكير في كيفية القضاء عليه، بل كانوا يتظاهرون بأنّهم سمناً على عسل. لم يكن إذاً الغرض القضاء على حميتي فقط إنّما أيضاً كوحدة عسكرية بعد عزله من حاضنته الاجتماعية أو تفتيتها كما فُعل بالحركات.
إن أولى أوليات الخطاب الحربي هو عزل القيادة عن وحدتها العسكرية وعن فصيلها الاجتماعي والقبلي، وذلك بغرض تقليل الخسائر وتحديد دائرة النفوذ للجهة المحاربة أو المندحرة، بيد أن الجماعة المخططة تريد أولاً القضاء على "الجماعة المتمردة" بالكلية وذلك باستطالة عمر قائدها وجره جراً نحو المواجهة العدمية، وتود ثانياً إلحاق هزيمة معنوية بالفصيل القبلي أو الاجتماعي كي لا يفكر أحد أفراده مرةً أخرى بالتمرد. كما إن تقليل الخسائر في الأرواح والممتلكات لا يهم هذه الفئة التي كانت تعتقد حتى زمنٍ قريب بأن الحاكم يحق له قتل الثلث في سبيل أن يحلو له استرقاق ما تبقى من المواطنين.
لقد دأبت النخب الشريرة على استخدام "الغرابة" في معركتها ضد الجنوبيين، وشرعت في تجييش العرب (عرب دارفور وكردفان) في حربها ضد "الزرقة" وهي ألان تستميل المحاميد (إحدى بطون الرزيقات) سراً للقضاء على "متمردي المهرية" (الذين كانوا بالامس "أكِفاء، جاحد أو منافق من ينكر فضلهم"، حسب تعبير الفريق البرهان)، وكل ذلك يتم دون أدنى محاولة للوقوف على أسباب هذا الضيم التاريخي الذي يدفع الأغلبية للتذمر من حكم الأقلية التي تتوشح يوماً بالعروبة ويوماً أخر بالاسلام.
لا يمكن كسر هذه الدائرة الشريرة إلّا بالتعرف على أسبابها والتوجه لمعالجة الخلل البنيوي الذي جعل أصحاب أغنى المناطق في السودان يهاجرون للوسط للعمالة اليدوية، يزحفون شمالاً للتنقيب، أو يهربون لركوب السنبك آملين الوصول إلى شواطئ اوروبا وقد تركوا ورائهم ثروات عجزت الدولة عن استخراجها وطبيعة استنكفت النظم عن تطويرها. هل تعلم اخي الفاضل/أختي الفاضلة أن قيمة استصلاح الفدان في دارفور وكردفان لا تتجاوز ١٣٤ دولار حسب إفادات المختصين، فيما اهدرت العصابة الكيزانية جهدها في محاولة لتطوير مناطق صحراوية تتجاوز قيمة استصلاح الفدان فيها ٤٠٠٠ دولار؟
أعلم أن النخب السودانية كسولة، أحياناً عجولة، وتريد أن تستبقي الصراع -على الأقل من الناحية النظرية- في إطاره الشخصي (البرهان وحميتي)، أو إطاره المؤسسي (الكيزان والجنجويد)، لكنّها لا تريد مطلقاً أن تلج إلى الجذر التاريخي، ببساطة لأنه محرج وفاضح. سأعطي مقاربة علها تبسط أو تُسهل لهذه النخب الكسولة تفهم طبيعة مفهوم الاقتصاد السياسي -حبذا دون إخلال. إن الفقر ليس قدراً في الريف السوداني عامة ودارفور خاصة، بل هو قرار سياسي محض اتخذه المستعمر بضرب حصارٍ اقتصاديٍ وسياسيٍ على المجموعات التى قاومته، فيما امعن في تمييز وتأهيل المجموعات التي تعاونت معه. من هنا يمكن أن نفهم كيف يمكن لشاب من جبل مرة أن يكون عامل ورنيش وبلدته تزخر بخيرات طبيعية هائلة وثروات معدنية نادرة.
إن للمشكلة التاريخية جذر عرقي وقبلي ومناطقي تود النخب لو أنّها أشاحت وجهها عنه؛ كلما أمعنت في هذا الانكار وأوغلت في المكابرة كلما ازدادت المشكلة تعقيداً وبالتالي صعب حلها. عليه فيجب أن نكون شجعاناً، نقر بالمشكلة ونفكر في حلها بالطرق المؤسسية والعلمية (التي تشمل ولا تقتصر على الاقرار بالحقوق المدنية وبالديمقراطية الفدرالية) التي ابتكرتها الشعوب الاسيوية والافريقية وحتى الامريكية التي كانت المشكلة فيها مشكلة أكثرية تنكر حقوق الأقلية كما في حال الامريكان السود وليس العكس.
في السودان أقلية مافيوية ورأسمالية نهبوية تتحكم في شؤون الأغلبية المسحوقة في بقاع السودان المختلفة، يشمل ذلك الشمال والشمال الأقصى. إن إتباع النهج غير العلمي وغير المؤسسي كالذي اتبعته الانقاذ (١) في استقطاب أبناء الهامش أو ذاك الذي اتبعته الانقاذ (٢) في استمالة الحركات -تحديداً جماعة الموز- لم ينجح إلّا في تقنين المحسوبية، التهكم بسبل المحاسبية والشفافية، وخلق طبقة من الأرزقية الذين باتوا جُل همهم التمسح في جوخ "الليغ السياسي القديم" (ذات المجموعة التي كانوا يمقتونها، ببساطة اصبحوا "فلنقيات" (تعبير دارفوري فصيح يعبر عن حالة الرق المعنوي والهزيمة النفسية).
إن الاشكالات كافة يمكن أن تعالج عن طريق الحوار المدني الديمقراطي الذي يتصدى له أصحاب المصلحة وتشرك فيه الكفاءات العلمية والمهنية المغيّبة حتى هذه اللحظة والمكتفية بمشاهدة "البلطجية" وهم يتبارون في تسود المشهد العام. إن بلداً دُمّر اقتصاده، هُربت أمواله، تكلست أوصاله، تشنجت مفاصله، تمزق نسيجه الاجتماعي، وافتقدت مفاتيح حكمته بموت الكبار، لا يمكن أن يستقر دون أن تكون هناك فترة انتقالية مُطوّلة يتراضي عليها الجميع، يشمل ذلك الاسلاميين وكل من يرتضي "الديمقراطية التوافقية" حلاً لاشكالات هذه البلدة الطيبي أهلها. ما عدا ذلك اعتبره هراء تقوم به مجموعات جاهلة بمصلحة بلادها، ممعنة في غيّها تستنكف عن قرأة تجارب الشعوب.
كتب البروفسير المرحوم آدم الزين كتاباً صغيراً عنوانه "التنمية مفتاح السلام" لكنّه قيّم أيما قيمة بيّن فيه علاقة الفقر بالحروب، كما نشر المرحوم محمد ابراهيم كبج كُتيبات عدة فضح فيها تصرفات العصابة الانقاذية وذهب إلى اتهامها بأنّها تعمّدت دفع أبناء الهامش دفعاً إلى التمرد تمشياً مع منهجيتها للتصفية العرقية والتي كانت تفضل الإبادة الجماعية على تحقيق التنمية الاقتصادية؛ برهانه في ذلك أنّهم شرعوا في تبذير أموال البترول في الوقت الذي كانت دارفور تحتاج فيه القليل من المعونات لاسكات صوت الرصاص. ليتهم اكتفوا بالاهمال لكنّهم امعنوا في ضرب التكامل الايكولوجي لمناطق الرعاة إذ سخّروا أموال البترول التي استخرجت من مناطق الرزيقات والمسيرية لذويهم، لم تكترث شركاتهم لمعالجة المخلفات، وضنوا على أبناء المناطق تلك ولو برتبة غفير.
ختاماً، إن مشكلة الفقر هي التي دفعت أبناء الهامش قديماً وحديثاً للالتحاق بالجندية، القبول بالاعمال الهامشية ومن عفت نفسه عن ذلك لم ير بداً من المتاجرة في المخدرات. لا تعجب إذا قلت لك أن نسبة الفاقد التربوي وسط أهل دارفور -البقارة خاصة - تجاوزت ال ٩٠٪، فهؤلاء الدولة لم تترك لهم خيار غير النمر العسكرية التي تُلبي لهم حلم الذهاب إلى اليمن أو الانضمام للقوات النظامية التي ستسخرهم لقتل المُفقرين الأخرين.
هذه الحرب الدائرة ليس لديها أي مشروعية أخلاقية فهي إمتداد لمشروع الدولة المركزية التي اتقنت اسلوب ضرب المواطنين بعضهم ببعض؛ هي دولة عنصرية صفوية ريعية تقودها اليوم عصابة أيديولوجية اتقنت حيل التلاعب باللافتات القومية بعد ان استعمرت المؤسسات وأخلتها من الكوادر الوطنية المخلصة. متما فرغت العصابة من حسم "التمرد" في الخرطوم ستتجه بمليشياتها الأخرى نحو جبال النوبة المتحصنة بكبريائها وشموخ آبائها، وما وجود بعض الغرابة وسط العصابة في هذه السانحة إلّا إمتداد لفرية الترميز التضليلي، فليهنأوا بما توليهم إياه العصابة من امتيازات حتى حين.
لن تنتهي هذه المعركة التي يخوضها السودانيون من مواقعهم الفكرية والأدبية والعسكرية المختلفة حتى يشنق أخر كوز بامعاء أخر أمنجي. إلى حين حدوث هذا الأمر يجب أن يخرج البرهان بخطاب يضع المعركة في إطارها الذي تدّعيه ألا وهو ضرورة امتلاك الدولة واحتكارها لمشروعية استخدام العنف، وألّا يتعدى ذلك إلى أي بطولات مناطقيه أو جهوية يمكن أن تخلق حساسيات عرقية وقبلية وإثنية، لا سيما أن الهوية مستعرة في هذه الأثناء ولا تحتمل أي دغدغة يمكن أن تُخرج المعركة عن أطارها المفترض أن يكون قومياً.
Auwaab@gmail.com
////////////////////////
الاخلاقية للتعبير عن طموحاتهم بحرية وأريحية تتأصل بها الحياة الحياة المدنية وتزدهر بها الانسانية. إن حروباً قليلاً في التاريخ الانساني هي التي التزمت بهذا التعريف، أمّا ما عداها فكانت تعدياً سافراً استغلت فيه المجموعات المتجبرة قدرتها على البطش فأمعنت في التنكيل بالمستضعفين ولم تتبين حدود الضبط للنفس التي كثيراً ما تميل للفساد الاستبداد.
لسنا معنيين بالإجابة عن سؤال فلسفي مطلق، نحن مسؤولون في هذا المقال عن المشروعية الاخلاقية لهذه الحرب الدائرة والتي عجز رأس الدولة حتى هذه اللحظة عن تبيان حكمة مشروعيتها، وإن كان قد بدأ لها التخطيط منذ فترة سيما أن الدعم السريع لم يكن قد تمرد بعد عندما اجتمع أعضاء اللجنة الأمنية مع بعض قيادات الحلو في جوبا أثناء المفاوضات للتفكير في كيفية القضاء عليه، بل كانوا يتظاهرون بأنّهم سمناً على عسل. لم يكن إذاً الغرض القضاء على حميتي فقط إنّما أيضاً كوحدة عسكرية بعد عزله من حاضنته الاجتماعية أو تفتيتها كما فُعل بالحركات.
إن أولى أوليات الخطاب الحربي هو عزل القيادة عن وحدتها العسكرية وعن فصيلها الاجتماعي والقبلي، وذلك بغرض تقليل الخسائر وتحديد دائرة النفوذ للجهة المحاربة أو المندحرة، بيد أن الجماعة المخططة تريد أولاً القضاء على "الجماعة المتمردة" بالكلية وذلك باستطالة عمر قائدها وجره جراً نحو المواجهة العدمية، وتود ثانياً إلحاق هزيمة معنوية بالفصيل القبلي أو الاجتماعي كي لا يفكر أحد أفراده مرةً أخرى بالتمرد. كما إن تقليل الخسائر في الأرواح والممتلكات لا يهم هذه الفئة التي كانت تعتقد حتى زمنٍ قريب بأن الحاكم يحق له قتل الثلث في سبيل أن يحلو له استرقاق ما تبقى من المواطنين.
لقد دأبت النخب الشريرة على استخدام "الغرابة" في معركتها ضد الجنوبيين، وشرعت في تجييش العرب (عرب دارفور وكردفان) في حربها ضد "الزرقة" وهي ألان تستميل المحاميد (إحدى بطون الرزيقات) سراً للقضاء على "متمردي المهرية" (الذين كانوا بالامس "أكِفاء، جاحد أو منافق من ينكر فضلهم"، حسب تعبير الفريق البرهان)، وكل ذلك يتم دون أدنى محاولة للوقوف على أسباب هذا الضيم التاريخي الذي يدفع الأغلبية للتذمر من حكم الأقلية التي تتوشح يوماً بالعروبة ويوماً أخر بالاسلام.
لا يمكن كسر هذه الدائرة الشريرة إلّا بالتعرف على أسبابها والتوجه لمعالجة الخلل البنيوي الذي جعل أصحاب أغنى المناطق في السودان يهاجرون للوسط للعمالة اليدوية، يزحفون شمالاً للتنقيب، أو يهربون لركوب السنبك آملين الوصول إلى شواطئ اوروبا وقد تركوا ورائهم ثروات عجزت الدولة عن استخراجها وطبيعة استنكفت النظم عن تطويرها. هل تعلم اخي الفاضل/أختي الفاضلة أن قيمة استصلاح الفدان في دارفور وكردفان لا تتجاوز ١٣٤ دولار حسب إفادات المختصين، فيما اهدرت العصابة الكيزانية جهدها في محاولة لتطوير مناطق صحراوية تتجاوز قيمة استصلاح الفدان فيها ٤٠٠٠ دولار؟
أعلم أن النخب السودانية كسولة، أحياناً عجولة، وتريد أن تستبقي الصراع -على الأقل من الناحية النظرية- في إطاره الشخصي (البرهان وحميتي)، أو إطاره المؤسسي (الكيزان والجنجويد)، لكنّها لا تريد مطلقاً أن تلج إلى الجذر التاريخي، ببساطة لأنه محرج وفاضح. سأعطي مقاربة علها تبسط أو تُسهل لهذه النخب الكسولة تفهم طبيعة مفهوم الاقتصاد السياسي -حبذا دون إخلال. إن الفقر ليس قدراً في الريف السوداني عامة ودارفور خاصة، بل هو قرار سياسي محض اتخذه المستعمر بضرب حصارٍ اقتصاديٍ وسياسيٍ على المجموعات التى قاومته، فيما امعن في تمييز وتأهيل المجموعات التي تعاونت معه. من هنا يمكن أن نفهم كيف يمكن لشاب من جبل مرة أن يكون عامل ورنيش وبلدته تزخر بخيرات طبيعية هائلة وثروات معدنية نادرة.
إن للمشكلة التاريخية جذر عرقي وقبلي ومناطقي تود النخب لو أنّها أشاحت وجهها عنه؛ كلما أمعنت في هذا الانكار وأوغلت في المكابرة كلما ازدادت المشكلة تعقيداً وبالتالي صعب حلها. عليه فيجب أن نكون شجعاناً، نقر بالمشكلة ونفكر في حلها بالطرق المؤسسية والعلمية (التي تشمل ولا تقتصر على الاقرار بالحقوق المدنية وبالديمقراطية الفدرالية) التي ابتكرتها الشعوب الاسيوية والافريقية وحتى الامريكية التي كانت المشكلة فيها مشكلة أكثرية تنكر حقوق الأقلية كما في حال الامريكان السود وليس العكس.
في السودان أقلية مافيوية ورأسمالية نهبوية تتحكم في شؤون الأغلبية المسحوقة في بقاع السودان المختلفة، يشمل ذلك الشمال والشمال الأقصى. إن إتباع النهج غير العلمي وغير المؤسسي كالذي اتبعته الانقاذ (١) في استقطاب أبناء الهامش أو ذاك الذي اتبعته الانقاذ (٢) في استمالة الحركات -تحديداً جماعة الموز- لم ينجح إلّا في تقنين المحسوبية، التهكم بسبل المحاسبية والشفافية، وخلق طبقة من الأرزقية الذين باتوا جُل همهم التمسح في جوخ "الليغ السياسي القديم" (ذات المجموعة التي كانوا يمقتونها، ببساطة اصبحوا "فلنقيات" (تعبير دارفوري فصيح يعبر عن حالة الرق المعنوي والهزيمة النفسية).
إن الاشكالات كافة يمكن أن تعالج عن طريق الحوار المدني الديمقراطي الذي يتصدى له أصحاب المصلحة وتشرك فيه الكفاءات العلمية والمهنية المغيّبة حتى هذه اللحظة والمكتفية بمشاهدة "البلطجية" وهم يتبارون في تسود المشهد العام. إن بلداً دُمّر اقتصاده، هُربت أمواله، تكلست أوصاله، تشنجت مفاصله، تمزق نسيجه الاجتماعي، وافتقدت مفاتيح حكمته بموت الكبار، لا يمكن أن يستقر دون أن تكون هناك فترة انتقالية مُطوّلة يتراضي عليها الجميع، يشمل ذلك الاسلاميين وكل من يرتضي "الديمقراطية التوافقية" حلاً لاشكالات هذه البلدة الطيبي أهلها. ما عدا ذلك اعتبره هراء تقوم به مجموعات جاهلة بمصلحة بلادها، ممعنة في غيّها تستنكف عن قرأة تجارب الشعوب.
كتب البروفسير المرحوم آدم الزين كتاباً صغيراً عنوانه "التنمية مفتاح السلام" لكنّه قيّم أيما قيمة بيّن فيه علاقة الفقر بالحروب، كما نشر المرحوم محمد ابراهيم كبج كُتيبات عدة فضح فيها تصرفات العصابة الانقاذية وذهب إلى اتهامها بأنّها تعمّدت دفع أبناء الهامش دفعاً إلى التمرد تمشياً مع منهجيتها للتصفية العرقية والتي كانت تفضل الإبادة الجماعية على تحقيق التنمية الاقتصادية؛ برهانه في ذلك أنّهم شرعوا في تبذير أموال البترول في الوقت الذي كانت دارفور تحتاج فيه القليل من المعونات لاسكات صوت الرصاص. ليتهم اكتفوا بالاهمال لكنّهم امعنوا في ضرب التكامل الايكولوجي لمناطق الرعاة إذ سخّروا أموال البترول التي استخرجت من مناطق الرزيقات والمسيرية لذويهم، لم تكترث شركاتهم لمعالجة المخلفات، وضنوا على أبناء المناطق تلك ولو برتبة غفير.
ختاماً، إن مشكلة الفقر هي التي دفعت أبناء الهامش قديماً وحديثاً للالتحاق بالجندية، القبول بالاعمال الهامشية ومن عفت نفسه عن ذلك لم ير بداً من المتاجرة في المخدرات. لا تعجب إذا قلت لك أن نسبة الفاقد التربوي وسط أهل دارفور -البقارة خاصة - تجاوزت ال ٩٠٪، فهؤلاء الدولة لم تترك لهم خيار غير النمر العسكرية التي تُلبي لهم حلم الذهاب إلى اليمن أو الانضمام للقوات النظامية التي ستسخرهم لقتل المُفقرين الأخرين.
هذه الحرب الدائرة ليس لديها أي مشروعية أخلاقية فهي إمتداد لمشروع الدولة المركزية التي اتقنت اسلوب ضرب المواطنين بعضهم ببعض؛ هي دولة عنصرية صفوية ريعية تقودها اليوم عصابة أيديولوجية اتقنت حيل التلاعب باللافتات القومية بعد ان استعمرت المؤسسات وأخلتها من الكوادر الوطنية المخلصة. متما فرغت العصابة من حسم "التمرد" في الخرطوم ستتجه بمليشياتها الأخرى نحو جبال النوبة المتحصنة بكبريائها وشموخ آبائها، وما وجود بعض الغرابة وسط العصابة في هذه السانحة إلّا إمتداد لفرية الترميز التضليلي، فليهنأوا بما توليهم إياه العصابة من امتيازات حتى حين.
لن تنتهي هذه المعركة التي يخوضها السودانيون من مواقعهم الفكرية والأدبية والعسكرية المختلفة حتى يشنق أخر كوز بامعاء أخر أمنجي. إلى حين حدوث هذا الأمر يجب أن يخرج البرهان بخطاب يضع المعركة في إطارها الذي تدّعيه ألا وهو ضرورة امتلاك الدولة واحتكارها لمشروعية استخدام العنف، وألّا يتعدى ذلك إلى أي بطولات مناطقيه أو جهوية يمكن أن تخلق حساسيات عرقية وقبلية وإثنية، لا سيما أن الهوية مستعرة في هذه الأثناء ولا تحتمل أي دغدغة يمكن أن تُخرج المعركة عن أطارها المفترض أن يكون قومياً.
Auwaab@gmail.com
////////////////////////