المصارف بين السياسة والاقتصاد
تتفق السياسة مع الاقتصاد في جوهرهما لتحقيق كيان مستقر للدولة. فالسياسة تهتم بحسن التدبير لتحقيق تطور المجتمع من خلال إدارة شؤونه كاملة، والاقتصاد هو عملية تلبية الاحتياجات المادية الضرورية للمجتمع لتحقيق ازدهاره. أما السياسة الاقتصادية فهي القدرة على التكيف مع الواقع وفن التعامل مع الممكن من حيث الاقتصاد الملائم الذي يحقق هذا السياسة. والسياسة بالنسبة إلى الاقتصاد هي إيجاد الطرق والوسائل للوصول بالمجتمع والفرد إلى الازدهار. لذلك فالسياسة والاقتصاد مفهومان متلازمان يسيران على ذات الخط.
ودائما ما تكون العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة مرهونة بشكل النظام السياسي. ويحتاج النمو الاقتصادي إلى سياسات واضحة وثابتة ومدروسة حتى يستطيع أن يستمد منها الاقتصاد مقومات نموه سواء من الداخل أو من الخارج. كما أن السياسات تحتاج إلى مراجعة دائمة وشاملة من حين لآخر لتقييم مدى ملائمة هذه السياسات للمستجدات الجديدة التي تحدث مع مرور االسنين.
ويظل دور المصارف في الاقتصاد مرهونا بسياسات الدولة الخارجية والداخلية، ويتقلص دورها في الحركة الاقتصادية للدول التى تمتلك سياسات اقتصادية متذبذبة. كذلك تكون للمصارف الخارجية حركات مالية متذبذبة ناتجة من تأثيرات التحويلات الآتية من بلدان أخرى تعاني من التذبذب في الاقتصاد. وفي تقرير عن دراسة لعدد من المهنيين وخبراء العلوم السياسية نشر على موقع البنك الدولى في عام 2015م ورد أن هنالك علاقة بين تدفق الأموال إلى حسابات المصارف الخارجية وبين والتقلبات في أسعار النفط. وأثبت ذلك التقرير أن تلك الحسابات تمتلئ حين ترتفع أسعار النفط، في حين يتبع الهبوط الحاد في الأسعار تدفق الأموال من الملاذات الآمنة إلى حيث أتت، كما حدث مؤخرا. وتتضح هذه الظاهرة جليا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالثروة المودعة بالمصارف الخارجية الناشئة عن المنطقة أكبر بنسبة غير متكافئة من أي منطقة أخرى في العالم. وتزيد تلك الثروة وتنقص تبعا لارتفاع سعر النفط وانخفاضه. وتوصل كتاب ذلك التقرير إلى أن 10 % من الزيادة في الثروة النفطية ترتبط بزيادة الودائع في المصارف الخارجية بنسبة 2.2 %..
وتعتبر الموارد الطبيعية من العوامل المؤثرة أيضا على مساهمة المصارف في الاقتصاد اعتمادا على نوعية المورد وأهميته في الأسواق العالمية. وكما ذكرنا سلفا فإن ريع النفط والذهب يحدث حركة اقتصادية سلبا وإيجابا، وداخليا وخارجيا، خلافا لبعض الموارد الأخرى مثل الحبوب (كالقمح والأرز) التي لا يحدث ارتفاعها أو انخفاضها أي حركة مالية مؤثرة على قطاع المصارف الداخلى أو الخارجي بسبب سيطرة الدولة على تلك الموارد. وهذا بخلاف الريع المتأتي من النفط والذهب، الذي تتدخل فيه شركات ودول أخرى، وربما يخلق نزاعات تؤدي إلى عدم الاستقرار بتلك البلاد، أو بقيام حروب أهلية، أو نشوء نظام سياسي فاسد، أوحتى أن تقوض استقرار النظام السياسي في بلد ما. ولا تكون المصارف بعيدة عن هذا المشهد، بل تتأثر بالعوامل الاقتصادية والسياسية سواء كانت جيدة أم غير ذلك.
أما بالنسبة لوضع المصارف السودانية منذ تسعينات القرن الماضي وعلاقتها بالمجتمع المحلى والخارجي (خاصة بعد إدراج السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب والحظر الاقتصادي العام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأغلبية التكتلات الاقتصادية الأوربية وفقا لقرار الأمم المتحدة رقم (1373) الصادر في عام 2001م والذي يحث الدول على تجريم الإرهاب بالقوانين)، فقد ظلت تلك المصارف تعمل تحت ظروف الحصار الاقتصادي وتحاول تفاديه بوسائل متعددة إلى أن تم رفع الحظر الاقتصادي مؤخرا. وكان إصدار قانون يجرم غسل الأموال وتمويل الإرهاب هو الخطوة الأولي لرفع الحظر الذي استغرق وقتا كثيرا.
وكان السودان قد شرع في إصدار قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في عام 2003م، وتمت إجازته في العام التالي، وتم تقييمه في عام 2005م بواسطة لجان التفتيش بمنظمة مجموعة العمل المالي – التابعة للأمم المتحدة (الفاتف FATF)، وكان تقييمه أن ذلك القانون ليس مستوفيا للمعايير المطلوبة. وبعد ذلك انضم السودان لمنظمة فاتف للشرق الأوسط وشمال أفريقيا ((MENA FATF في عام 2006م حتى يمكنه تلقي المساعدات الفنية اللازمة لاستيفاء وسائل مكافحة غسل الأموال. ثم صدر بعد ذلك قانون جديد لمكافحة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب في عام 2009م، وتم إجازته في العام التالي. وكان تقييم منظمة فاتف للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأن ذلك القانون لاتزال به بعض جوانب قصور. ثم تواصلت الجهود في سبيل استيفاء القانون للمعايير العالمية حتى أصدر القانون الأخير في عام 2014م، وكان مستوفيا للمعايير الدولية، فتم العمل به. وتم الإعلان في أواخر عام 2015م عن أن السودان قد استوفى كافة (المواعين) المعايير اللازمة، ويمكن رفعه من قائمة الإرهاب. وقد كان من الممكن تقليص كل هذه السنوات الطويلة التي تطلبها استيفاء المعايير لو تم الالتزام بالمعايير المطلوبة لإصدار قانون واحد يستوفي كل المطلوبات الدولية. ومن الطبيعي أن تسعى كل دولة جاهدة للامتثال والتعاون من أجل تفادي العقوبات الدولية المترتبة على عدم التعاون والتي تفضي للحصار الاقتصادي، والذي كان خصما على الجهاز المصرفي السودانى، الذي لولا ظهور النفط كمورد ضخم مدعوم بدولة الصين وبعض دول الخليج آنذاك التي غدت وسيطا للتواصل مع العالم الخارجي، لما ظلت المصارف صامدة طيلة تلك الفترة. غير أن هذا الأمر لم يدم طويلا بعد خروج النفط من الموارد حين بدأ دور المصارف الصينية والخليجية يتقلص تدريجيا، وبالإضافة إلى ذلك فرض عقوبات دولية على الدول المتعاملة مصرفيا مع السودان.
وبالإضافة للعوامل الخارجية سالفة الذكر التي أثرت سلبا على دور المصارف السودانية، فهنالك عوامل داخلية تتمثل في قلة وعي المجتمع المحلي بالوضع الاقتصادي والمصرفي للبلاد. فهنالك من يثق في النظام المصرفي بالبلاد، وهنالك أيضا من يحجم عن التعامل معه لقلة ثقته فيه. وساهمت كل تلك العناصر مجتمعة في إضعاف دور المصارف في التنمية الاقتصادية بالبلاد، كما هو حادث في المصارف في البلدان الأخرى، والتى لها دور كبير ومساهمة مقدرة في مشروعات البنية التحتية. وغدا غالب نشاط المصارف السودانية محصورا في المشروعات القصيرة ومتوسطة الأجل،وذلك لضعف رؤوس الأموال وقلة الاستثمارات الخارجية.
نختم القول بأن منحنى كل من السياسة والاقتصاد له روابط قوية، ولكل منهما دور في خدمة الآخر، فبذلك تنجح السياسة ويتطور الاقتصاد. ومن المؤكد أنه لا اقتصاد قوي في ظل سياسة ضعيفة ولا سياسة قوية دون اقتصاد قوي. لذا ليس هناك خيار سوى فتح الأبواب على مصراعيها لعملية تطوير الاقتصاد والبنية الاقتصادية من خلال علاقات سياسية دولية قائمة على مصلحة الدولة وشعبها.
nazikelhashmi@hotmail.com