المفاوضات لا تكون مجدية ما لم تتوفر لها الظروف المواتية
الجمعة، 25 أغسطس
يبدو أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي لا تزال مصرة على إعادة إحياء عملية السلام في السودان، عبر استئناف المفاوضات المباشرة بين أطراف الصراع، بعد أن دبّ اليأس إلى قلوب معظم اللاعبين الآخرين.
لا شك أن السلام مطلب عزيز، وهو المدخل لتجاوز السودان محنته الراهنة، والسلام الذي يأتي عبر تفاوض وتفاهم وأخذ وعطاء يتمتع بفرصة أكبر في النجاح، ولكن الوصول إليه يتطلب عزيمة وقوة وإرادة سياسية وميزان قوى يدعم التفاوض الجاد، وجبهة داخلية نشطة وقادرة على فرض رؤاها.
ولأن الواقع في السودان لا يوفر هذه المتطلبات فقد ظلت المحاولات تترى على مدى العشر سنوات الماضية، بالنسبة لصراع دارفور، ومؤخراً بالنسبة لأزمة الولايتين دون أي تقدم يذكر، وآخر المحاولات كانت حين قاد رئيس حزب الأمة الصادق المهدي ممثلي بعض قوى نداء السودان وحركات دارفور والحركة الشعبية قطاع الشمال إلى العاصمة الإثيوبية ليوقعوا وسط حشد إقليمي ودولي على وثيقة الطريق التي كانوا قد رفضوا التوقيع عليها قبل خمسة أشهر، ثم عادوا ليوقعوا، بل وليدشنوا الجولة الأولى في المفاوضات المستأنفة صبيحة اليوم التالي، لتتعثر من جديد، ثم تتوقف.
ألمانيا استضافت، أمس، لقاءً بين مبعوثين دوليين وممثلين لحركتي دارفور (حركة التحرير جناح مناوي وحركة العدل والمساواة)، مع المبعوثين الدوليين لدول فرنسا وألمانيا، إضافة للمبعوث الأميركي لدولتي السودان وجنوب السودان، وممثل الاتحاد الأوروبي في القرن الإفريقي، ورعت الاجتماع منظمة بيرهوف الألمانية، وهي مركز دراسات مكلف من الخارجية الألمانية بمتابعة الملف السوداني.
غرض الاجتماع كان بحث إمكانية إعادة إحياء مفاوضات السلام حول دارفور والولايتين التي تعثرت، ثم توقفت، وظلت متوقفة، وبالطبع الدعوة لم توجه للحركة الشعبية شمال التي تعيش أزمتها الخاصة، والتي لم يقرر الاتحاد الإفريقي عما إذا كان سيتعامل مع الفصيلين بعد الانقسام الأخير، أم ينتظر حتى يتوحدوا من جديد، أو يتكرس انقسامهما، ولذلك كان الاجتماع معنياً بأمر دارفور،
الوسطاء طرحوا على الحركتين (مناوي والعدل والمساواة) أن يقبلا اتفاقية الدوحة بشكلها الحالي، ويوقعان عليها، ومن ثم يطرحان للنقاش أي تعديلات، بينما ردت الحركتان بأن وثيقة الدوحة لا بد من فتحها لتفاوض جديد، حتى تستوعب بعض القضايا،
ولما كانت الحركتان تدركان أن خريطة الطريق قد انتهت وتجاوزها الزمن، فقد اقترحتا أن يتوصل الطرفان إلى (إعلان مبادئ) - وهو لا يعدو أن يكون إعادة لفكرة خريطة الطريق، تحت مسمى جديد.
كل الحديث الذي دار في هذا اللقاء هو تكرار لحجج وأفكار قد تكررت في كل اللقاءات السابقة، ولم تصل بالمتفاوضين إلا إلى المربع الأول، الحل التفاوضي يحتاج إلى مناخ وإلى قناعات، وإلى تقارب في ميزان القوى، وإلى جبهة داخلية نشطة وضاغطة، وإلى إرادة سياسية غلابة، وفي غيبة هذه المطلوبات يظل الحديث عن حل تفاوضي مجرد ترداد للتفكير الرغائبي.
وقد أثيرت في الاجتماع أيضاً قضية إشراك قطاع الشمال في المفاوضات، وهذا خلاف وانقسام داخلي لا يستطيع المجتمع الدولي أن يفتي فيه، وكان الأجدر بالحركتين أن يبذلا مساعيهما الحميدة لمعالجة أزمة الحركة الشعبية الداخلية، قبل أن يطالبا بتنفيذ المسار التفاوضي في الولايتين، دون أن تنحل هذه المشكلة !
آن الاوان أن تقتنع المعارضة السودانية بأن الحل التفاوضي الذي يحقق السلام، ويعالج مجمل الأزمة الوطنية، لن يتحقق إلا إذا توفرت على الأرض - داخل الوطن - كل المقومات التي تجعل المفاوضات مجدية ومنتجة،
وأن الجو الذي تدور فيه مواتٍ لمعالجة جذور الأزمة الوطنية،
ودون ذلك سنظل نحرث في البحر.