النهاية (3/4): بمواجهة أفق مسدود بـ”صَبَّةٍ” إسمنتية !! 

 


 

 

التشخيص الذي وصلنا إليه في الحلقات السابقة للحالة المتأزمة للدولة السودانية الآن وفي هذا المنعطف الخطير، يتلخص في أنها تعاني من حالة احتضار الجسم السياسي، والذي يتمثل في غياب مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية والنيابية العدلية، وأن القوى المسلحة المتحالفة في الجيش والأمن، وفي الشرطة، والحركات المسلحة بقياداتها المستقلة، وميليشيا الدعم السريع – بكل إمكانياتها التسليحية ونفوذ قائدها السياسي – استطاعت أن تختزل، منفردة، كل مؤسسات الدولة وقراراتها الاستراتيجية السياسية – الداخلية والخارجية – والاقتصادية والأمنية في كيانها الذي يعاني هو ذاته – مثل القوى السياسية – من التشظي الفتوق والتشققات، واختلاف الأهداف بين قياداته.


(2)

السؤال هنا: هل يمتلك قادة هذه القوى المسلحة التي يتعامل معها العالم الآن كحكومة " أمر واقع" – تعاني من أزمة الشرعية – "مشروعاً وطنياً" تتوافق عليه الشعوب السودانية بمختلف مكوناتها وتكويناتها الاجتماعية والسياسية ؟.

إنها لا تملك شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يكون.

لأن تحالفها ذاته مؤقت/ طارئ بالضرورة، فرضته أطماع كل طرف من أطرافه للانفراد بسلطة الحكم. والخوف من نتائج الجرائم المروعة التي ارتكبوها في حق الوطن والشعب. وها أخبار الخلافات بينهم تتري يوميا، سواء كانت بين البرهان وحميدتي، أو بين حركات جوبا والمكون العسكري بطرفيه، أو بينها هي نفسها. أو بين الناظر تِرك وحميدتي مما كشفه الشريط المسرب في منصات التواصل. حيث يبدو من حديثه أن ما تم الاتفاق عليه مع قادة الانقلاب العسكري لن يتم وأن وأن كل من قام بدعم العسكر والمليشيات فى انقلابهم يشعر بأنه أستخدم لتحقيق أهداف غيره من عسكر لجنة البشير الأمنية، ومن المحاور والمخابرات الأجنبية التي تعبث بعسكرهم.

ولم يعد الخلاف والصراع بين أطراف التحالف الحاكم برعاية البرهان ولجنة البشير الأمنية وبين ممثلي التحالف من المدنيين، حتى في المؤسسة السيادية بخافٍ على المراقبين. وما رشح عن صِدام برطم، عضو المجلس السيادي، مع حميدتي، نائب رئيس المجلس، واتهامه لحميدتي بالجهوية والتشبث بالمصالح الشخصية، وذلك عقب ترشيح حميدتي لنائب محافظ بنك السودان المركزي من دارفور. ورد حميدتي على الإتهام باتهام برطم بترشيح أحد أبناء الشمال لتولي نفس المنصب، زاعماً أن مصلحة شخصية خاصة تربط برطم بالشخص الذي رشحه للمنصب. ولم يتوان برطم بالرد على حميدتي، متّهماً إياه بالسعي للسيطرة على بنك السودان المركزي، ووزارات المالية والطاقة والنفط، والمعادن وشركات البترول، عبر تعيين أبناء مناطق محدّدة من الموالين له. وزعم برطم أن حميدتي يحول دون تعيين المؤهلين من أبناء الشمال والوسط في المواقع القيادية بالدولة. ويبدو أن حميدتي فوجيئ بما قاله برطم، فاتهمه بأنه (محرَّش) من أعضاء آخرين بمجلس السيادة للتعريض بحميدتي. فتباهى برطم بخبرته ومؤهلاته وعدم احتياجه لمن يدفعه للاعتراض على الممارسات الخاطئة التي يمارسها حميدتي في احتكار موارد البلاد لشركات الدعم

وتقول التقارير الصحفية أن البرهان اضطر لرفع الاجتماع، تفادياً لاستمرار المواجهة.(1).


(3)

كثيرة هي الشواهد على تمزق نسيج تحالف القوى المسلحة واختلاف رؤاها وتقاطع أهدافها وتناقض مصالحها، وتناقض مصالح حلفائها الخارجيون. وأن ما يجمعها الآن/ مؤقتاً هو المطامع الآنية بكل طرف من أطرافها، ثم والخوف من يد العدالة التي ستطالهم على الجرائم المروعة وانتهاكات حقوق الإنسان التي تورطوا في ارتكابها لأكثر من ثلاثة عقود في كل أنحاء السودان

والحال أن تحالف يقوم على غريزتي الخوف والطمع، لا يمكن، بأية حال من الأحوال أن يحقق استقراراً أو استدامة لأي دولة في العالم، مهما أوغل نظامها في القتل والتنكيل.

وتقف سوريا والعراق وليبيا واليمن – ومصر بعد قليل من الوقت – شواهد على أن القتل والتنكيل وتكميم الأفواه – مهما أشبعت البطون – لا، ولن، يحقق وحده وحدة واستقراراً مستداماً لأي دولة في العالم.

الأمر الآخر، ويأتي قبل السبب السابق، بل يكاد يكون عِلَّة له، ألا وهو، تضارب مصالح واستراتيجيات الدول الخارجية الداعمة، والتي يعتمد عليها كل طرف من أطراف هذا التحالف – سياسياً واقتصادياً – وتناقض مصالح هذه الدول الداعمة إن لم يشعل الفتنة والاقتتال بين هذه القوى المسلحة فإنه سيغذي نيرانها حطباً. خاصة وسياسات التحالف الحاكم الخارجية تقتفي آثار أقدام الإسلامويين في علاقاتها الخارجية التي تقوم على رشوة حكوماتها ونخبها المالية وإثارة شهيتها وإغراءها بموارد السودان بصفقات أقرب للهبات، وعلى اللعب بالبيضة والحجر والابتزاز بتحويل دفة تحلفاتها، من تحالف إلى تحالف مضاد بين الدول الكبرى. وما يجهله هؤلاء الأغرار أن صدر الكتل الكبرى يضيق بمثل هذه الألاعيب الصغيرة، ويلجأ إلى السوط بدل الجزرة حينما يسأم ويضيق صدره.


(4)

ينطبق نفس الحال على القوى السياسية، في أحزابها، ومنظماتها المدنية، ونخبها، التي اعتادت الصراع على كراسي الحكم والنفوذ إثر كل ثورة شعبية. " وفي غير هذا المكان، ذكرت أكثر من مرة، أننا وبعد كل ثورة شعبية على حكم ديكتاتوري، كانت الأحزاب السياسية تسارع دائماً لتختطف الثورة في مرحلتها الانتقالية. لتمارس نفس ألاعيبها السياسية وتتنازع العظمة. بحماقة من يتصارعون على قسمة الفراخ قبل أن يفقس البيض. ليأتي من الثكنات من يفض هذه الفوضى ويستلم الحكم، يعود بعدها كل فأر إلى جحره في انتظار هبة شعبية تقتلع الديكتاتور من مقعده، لينفض كل منهم التراب عن مؤخرة جلبابه مسرعاً إلى الكرسي الشاغر، ويستأنفون الصراع من جديد، وبنفس قواعد اللعبة القديمة التي تحكمها المصالح الحزبية الضيقة والمكاسب السلطوية الآنية والمؤقتة. وهذا ما حذرت من نتائجه الكارثية وتكرارها هذه المرة، في مقال سابق بعنوان "مهلاً، أنتم توشكون على قتلها" (2).

ولن تجد أبلغ في تصوير حال القوى السياسية من شهادة إبراهيم الشيخ القيادي في حزب المؤتمر السوداني، وفي قوى الحرية والتغيير ووزير الصناعة السابق الذي يلخصها قائلاً :

- "الكتلة المدنية نفسها هي مجموعة عناصر مختلفة،

- تجمع المهنيين منقسم بين المجموعة الموالية للمجلس المركزي والمجموعة الأخرى الموالية للحزب الشيوعي.

- والمجلس المركزي للحرية والتغيير خرجت من رحمه أكثر من جسم، المجموعة المدنية التي أطلقت على نفسها الوفاق الوطني، والقوى الوطنية مجموعة يوسف محمد زين وحيدر الصافي، والمجلس المركزي نفسه،

- والمجتمع المدني أيضاً منقسم على نفسه ومجموعة منه خرجت من الحرية والتغيير ومجموعة باقية داخل الحرية والتغيير،

- وهناك أيضاً لجان المقاومة، ولا نستطيع القول بأنها كلها على قلب رجل واحد، بها تباينات وتنسيقيات مختلفة،

- وهناك مجموعات على قطيعة تامة مع الحرية والتغيير ومع الأحزاب السياسية، وهناك مجموعات بدأت تقترب أكثر من الحرية والتغيير والكيانات السياسية،

- مجموعة أخرى متزمتة ومتطرفة جداً وتعتقد أن الأحزاب خراب وعذاب، وأنها واحدة من موبقات الدنيا.

هذا كله ألقى بظلاله على المشهد السياسي وخلق مسافة حالت دون التوصل لتوافق رغم الجهود الكبيرة التي بذلت لتقريب المسافات وصناعة جبهة موحدة لمواجهة الانقلاب" (3)


(5)

ما يرسخ القناعة عندي بأن السبب الأول في إجهاض هذه الثورة – إذا ما تم إجهاضها – ستكون الأحزاب والقوى السياسية هي المسؤول الأول.

لأنه إذا كان للمرء أن يتفهم دوافع قوى الثورة المضادة وقوى ممانعة التغيير في اجهاض الثورة والعمل ليل نهار بكل ما تملك من حيلة وذكاء لاجهاضها، فإن تقاعس القوى السياسية التي تصدت لقيادة الحراك الشعبي الجارف الذي استطاع ان يزيل كابوس "الإنقاذ" الإسلاموي عن الارتقاء لذرى طموحات الشباب ودمهم الغالي وأرواحهم العزيزة على شعبهم، فأمر لا يمكن فهمه، إلا في إطار التواطؤ مع قوى الثورة المضادة. ولا عبرة بالنوايا مهما حسنت في هذا المقام.

وهكذا تشارك الجميع في الفشل والتآمر والانحياز الأعمى للأنا الصغيرة التافهة. وتقاسموا وزر الجريمة في حق الوطن والشعب، وكلهم يذيع أكاذيبه الوطنية دون حياء. لقد تجاوزوا كل الخطوط الحمراء بين الوطنية والخيانة، بقصد أو دون قصد، بوعي أو دون وعي.

وخلاصة الأمر كما يقول الدكتور بشير إدريس محقاً أن "الحكمة البالغة هي أنه لا تستطيع أي جهة، أو أي حزب، كائناً من كان، أن يقود هذا السودان (وحده) وفي مثل هذا الظرف الحرج الذي ترزح فيه بلادنا الآن" (4).


(6)

وإذا كانت العلة – كما رأينا – تكمن في احتضار الجسم السياسي، بسبب تغييب مؤسسات الدولة، وسيطرة قيادة القوى المسلحة المارقة والمتمردة على الدستور وعلى سلطة الشعب – مصدر الشرعية الوحيد – واختطافها للدولة. فإن الحل الوحيد الذي لا حل غيره هو أن تُنتزع الدولة من مختطفيها – بالتي هي أحسن أو بالتي هي أسوأ – ومحاكمتهم على التمرد واختطاف سلطة الشعب، وعلى جرائم القتل والاغتصاب والتهجير والإخفاء القسري والسرقة والفساد..

فالبرهان واللجنة الأمنية التي تحيط به ليسوا سوى "جنود"، مهما بلغت رتبهم العسكرية، وللمؤسسة العسكرية مهام محددة، ليس من بينها ممارسة السياسة والحكم، وإنما حماية حدود الدولة بالدرجة الأولى، فإذا فشلت المؤسسة في القيام بهذا الواجب يتم الاستغناء عن قيادتها وإحلال قيادة بديلة أكثر كفاءة. وهذا ما يقره المنطق البسيط، وما هو معمول به في كل دول العالم حيث تقود نزاهة بعض القادة العسكرين إلى الانتحار في حال فشلهم في القيام بواجبهم هذا.

إلا في السودان، حيث تعيث قيادات جيشه فساداً.

- فبدلاً من أن يطالبوا – سلماً أو حرباً – باستعادة مثلث حلايب وشلاتين المحتل من قِبل دولة الاحتلال المصري، يدعون جيشها لإجراء مناورات على الأراضي السودانية، ويفتحون سماء السودان للطيران المصري تحت مسمى أنها "مناورات مشتركة"، بينما هي في واقعها مناورات مصرية أحادية الجانب، للفارق الشاسع بين طيران كسيح بلا أجنحة (إلا الأجنحة التي على صدور طياريها) وطيران ودفاعات جوية حديثة ومتقدمة، تتفوق بما لا يقاس بعلى نظيراتها السودانية.

- بضع جنرالات لا يتعدى عددهم أصابع اليدين يحتكرون سلطة مؤسسات الأمن والشرطة والدعم السريع والحركات المسلحة، ويعجزون عن وقف نزيف الدم وحرق القرى وتهجير مواطنيها العزل، واغتصاب نسائها، في إقليمي دارفور وكردفان (إن لم نقل من يقول بأنهم شركاء ومتواطؤون مع المجرمين). بينما يستخدمون قوة الدولة بشراسة لقتل المدنيين العزل.


(7)

تبدو المسألة في منتهى التعقيد بناء على هذه المعطيات، ويبدو أفق الخروج من هذا المأزق مغلق ب"صبَّة" خرسانية.

ولكن مهلاً.

أليس هذا هو حال الشعوب الحيَّة، أن تواجه تحديات التغيير وتضحيات بناء مستقبلها وإعادة تأسيس دولتها ؟.

إذن كيف يمكننا انتزاع الدولة من مختطفيها؟.

وعلى أي أسس يتم تأسيس وبناء الدولة الحديثة ؟..

سنجيب على السؤال الأول في الحلقة القادمة.


هوامش

(1) عثمان محمد حسن، قندران برطم يصدم ثاتشر حميدتي في شارع الحقيقة!، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ: 14 أبريل، 2022.

 (2) عزالدين صغيرون، حتى لا تضلُّ بوصلة اللجان: في استعادة ذكرة الثورة (1/ 3)، صحيفة سودانايل الرقمية، نشر بتاريخ: 04 كانون1/ ديسمبر 2020.

والمقال المشار إليه: (مهلاً، فأنتم توشكون على قتلها!. لهؤلاء الذين يتنازعون تقاسم "الفراخ"، والبيض لم "يفقس" بعد)، نشر بتاريخ: 18 أيار/ مايو 2020.

(3) القيادي في قوى الحرية والتغيير ووزير الصناعة السابق إبراهيم الشيخ لـ: “الجريدة”، نقلاً عن سودانايل، بتاريخ:  14 أبريل, 2022

(4) د. بشير إدريس محمد زين، ما زال أمام البرهان المزيد من الورطات، موقع صحيفة سودانايل الإلكترونية، بتاريخ، 14 أبريل، 2022.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء