الولاية القضائية العالمية في حالة السودان …خطوات جادة لعدم الإفلات من العقاب .. تقرير : حسن اسحق

 


 

 

من ناحية قانونية تعرف الولاية القضائية العالمية هي مبدأ قانوني يسمح للمحاكم الوطنية بمحاكمة الأفراد على جرائم خطيرة، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجرائم أو جنسية الجناة، وهي تقوم على فكرة أن بعض الجرائم خطيرة لدرجة أنها تهم المجتمع الدولي ، وبالتالي يمكن لأي بلد أن يؤكد ولايته القضائية عليها، اضافة الي يسمح هذا المبدأ للمحاكم الوطنية في بلدان ثالثة بالتصدي للجرائم الدولية التي تحدث في الخارج، وتحمل الجناة المسؤولية الجنائية، ومنع الافلات من العقاب في السودان، خاصة حالة ولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة، وغيرها من منطقة اقليم غرب السودان، اضافة الى الجرائم التي ارتكبت ضد المدنيين في العاصمة السودانية الخرطوم.
فيما يتعلق بالجرائم الإنسانية في السودان، يرى المهتمون أن تحقيق العدالة والمساءلة عن الجرائم الدولية في السودان، وكسر حلقة الإفلات من العقاب في المستقبل، يجب القيام بإصلاح الاجهزة الامنية، وتطبيق معايير العدالة الانتقالية مثل لجان الحقيقة، والعدالة الانتقالية، والتذكير ان المحكمة الجنائية الدولية لها دور فعال في هذه القضية، اضافة الي المحاكمة المختلطة في البلاد سوا في البلاد او خارجه.
السودان في الفترة الاخيرة ابتلي بانتهاكات حقوق انسان واسعة النطاق، والافلات من العقاب لسنوات عديدة، حينها أصدر المدعي العام الاسبق للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو اوكامبو 2009 مذكرات توفيق بحق العديد من كبار المسؤولين السودانيين، علي رأسهم الرئيس السابق عمر حسن احمد البشير، علي جرائم ارتكبت في إقليم دارفور، الا أن السودان رفض التعاون في ذلك الوقت مع المحكمة الجنائية الدولية، ولم يتخذ اي اجراء ضد المتهمين، أما الان، ربما تتغير المعادلة في ظل الجهود الدولية الكبيرة التي تلقي الضوء علي جرائم الجناة في السودان.
مقابر جماعية بغرب دارفور
في ذات السياق، قدم المبعوث الأممي الخاص للامم المتحدة الي السودان الألماني السابق فولكر بيرتس في 13 سبتمبر 2023، تقارير موثوقة عن وجود مقابر جماعية معظم ضحاياها من قبيلة المساليت، وذكر انه تلقى تقارير موثوقة عن وجود لا ما يقل 13 مقبرة جماعية في الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، والمناطق المحيطة بها.
أوضح بيرتس أن المقابر تضم ضحايا قوات الدعم السريع والفصائل العربية المسلحة المتحالفة معها، لذا يمكن للولاية القضائية الدولية أن تلعب دورا حاسما في التصدي للافلات من العقاب في السودان، وايضا السماح للدول الأخرى بممارستها علي الأفراد، هذا يبعث رسالة واضحة أن الجرائم لن تمر دون عقاب.
التحديات امام تحقيق الولاية القضائية العالمية
يرى بعض الخبراء أن نجاح الولاية القضائية العالمية يعتمد اعتمادا كبيرا على الإرادة السياسية للبلدان لممارسة هذه الولاية القضائي، وبدون استعداد الحكومات لمتابعة القضايا، ومحاسبة الأفراد المتورطين، تظل الولاية القضائية العالمية مجرد مفهوم نظري، قد تتحسب بعض الدول للعواقب الدبلوماسية المحتملة، والتوترات السياسية التي يمكن أن تنشأ عن محاكمة الأفراد الذين لديهم علاقات مع الدول القوية، وهذا يمكن أن يخلق تحديات كبيرة في تحقيق العدالة من خلال الولاية القضائية العالمية.
هناك فوائد رئيسية في تطبيق الولاية القضائية العالمية، أنها تساعد على ضمان تحقيق العدالة، ويسمح لضحايا الجرائم، مثل الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، بالسعي لتحقيق العدالة حتى عندما تكون بلدانهم غير قادرة، أو غير راغبة في القيام بذلك، كما يمكن أن يردع الجرائم المستقبلية، من خلال محاسبة الأفراد على أفعالهم، بغض النظر عن الحدود، ويبعث برسالة قوية مفادها أنه لن يسمح لمرتكبي الجرائم بالافلات من العقاب.
الولاية القضائية مكملة للآليات الوطنية والدولية
يقول عبدالباسط الحاج المحامي والباحث قانوني ’’ بشكل اكثر تحديدا عندما اصبحت الجريمة تثير قلق المجتمع الدولي برمته و الضمير الإنساني كله لذلك ظهر مفهوم الولاية القضائية الذي يتيح مشروعية قانونية لكل دولة أقرت داخل قوانينها الوطنية بمحاكمة الجرائم الدولية مثل جريمة الابادة الجماعية، و جريمة الحرب، و الجرائم ضد الانسانية، وجريمة العدوان، وكذلك جريمة القرصنة، و جريمة غسل الأموال، باعتبارها جرائم عابرة للحدود، و جرائم تثير القلق و مهددة للسلم والأمن الدوليين‘‘.
يوضح عبدالباسط أن الولاية القضائية العالمية تعني أن الدولة التي تضمن تلك الجرائم لها الحق في محاكمة المتورطين بتلك الجرائم، حتى و ان لم يكونوا مواطنين في تلك البلدان طالما هم داخل اراضيها, يعتقد أن الولاية القضائية العالمية مهمة، وأنها تقوم بدور تكاملي بين النظام القضائي الوطني، و المحكمة الجنائية الدولية، وهي تحد من ظاهرة الإفلات من العقاب، اعتبار أنها تحاكم كل الاشخاص متى ما توفرت الادلة الكافية لذلك ومتى ما ثبت فعليا أن الشخص المتورط متواجد داخل أراضي الدولة التي تمارس الولاية القضائية العالمية وفق الجرائم الدولية المعروفة.
يوضح عبدالباسط في هذه النقطة، يجب أن يكون الضحايا متواجدين، و قادرين للإدلاء بأقوالهم، و شهاداتهم امام المحكمة المختصة لتسهيل العمليات الاجرائية، يناشد ضحايا دارفور بالاستفادة من هذا الجانب، خاصة وأن المتورطين في الجرائم التي وقعت في السابق، و الوقت الحالي، ربما يتجولون في الدول التي تطبق هذا الاختصاص، و كذلك بعض الجرائم التي ارتكبت في الحرب الاخيرة، ربما بعض الجناة سوف يخرجون يوم ما من السودان إلى دولة أخرى تطبق هذا الاختصاص.
يرى عبدالباسط أن الولاية القضائية العالمية بشكل عام مكملة لبقية الالية المحاسبية الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، و المحاكم الوطنية، و في حالة دارفور، هنالك جزء من المشتبه بهم، يجب أن تسليمهم الى المحكمة، و الاخرين يجب ان تتم محاكمتهم داخليا، اذا توفرت الظروف، او خارجيا اذا تحرك الجناة إلى مكان آخر، وتم التعرف عليهم من الضحايا المقيمين هنالك.
يشير عبدالباسط الى ان الولاية القضائية الدولية تعتمد علي إرادة الدول التي تضمن في قوانينها الاختصاص القضائي الدولي في جرائم معينة، و يقول ’’ لو شئنا الدقة أكثر فإن التطبيق العملي للولاية القضائية يلعب فيه النظام السياسي الحاكم دورا كبيرا، خاصة إذا كانت النيابة العامة جهاز غير مستقل، و يأتمر بأمر رئيس الجهاز التنفيذي في تلك الحالة سيكون الموقف مرتبط مع موقف الرئيس التنفيذي تجاه الجناة او المشتبه بهم‘‘.
الولاية القضائية العالمية .. ضمان لمنع الانتهاكات
بينما قال كريستوفر هارلاند نائب المراقب الدائم لدى الأمم المتحدة والمستشار القانوني للجنة الدولية للصليب الأحمر، في أكتوبر 2019، أن الولاية القضائية العالمية اداة رئيسية لضمان منع الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، والتحقيق فيها حال وقوعها، والحد منها اذا امكن، يوضح هارلاند تنص اتفاقية جنيف لعام 1949 علي التزام الدول الأطراف بالبحث عن المشتبه في اقتراف مخالفات جسيمة، تعتبر من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، أيا كانت جنسياتهم، ومقاضاتهم أو تسليمهم.
اضافة الى ذلك، يوسع البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف هذا الالتزام ليشمل المخالفات الجسيمة فيه، وأوضح هارلاند ثمة مواثيق دولية أخرى تنص علي التزام مماثل علي الدول الأطراف بفرض شكل من أشكال الولاية القضائية العالمية في محاكماتها، خاصة فيما يتعلق بالانتهاكات الخطيرة للقواعد المنصوص عليها في هذه المواثيق، مثلا، اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح، وبروتوكولها الثاني لعام 1999.
يؤكد هارلاند أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تدعم الدول في تعزيز تشريعاتها الجنائية الوطنية، وإرساء ولاية قضائية عالمية عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، وتعمل علي إصدار، وثائق فنية بتطبيق الولاية القضائية العالمية بهدف مساعدة الدول علي فهم افضل لهذا المفهوم، وكذلك ايجاد سبل لتطبيقه في الإطار الوطني، ويتفق مع آخرين، عن وجود تحديات في طريق الممارسة الفعالة لمبدأ الولاية القضائية العالمية.
يذكر هارلاند مجددًا بأنه وبالرغم من السماح للدول بإضافة شروط إلى تطبيق الولاية القضائية العالمية على المخالفات الجسيمة أو غيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، إلا أنه يجب أن تهدف هذه الشروط إلى زيادة فعالية الولاية القضائية العالمية، وامكانية التنبؤ بها، وليس إلى وضع قيود غير ضرورية على امكانية مثول الجناة المشتبه بهم أمام العدالة.
معالجة فجوة الإفلات من العقاب
في ذات السياق، هوارد فارني هو كبير مستشاري البرامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، يوضح ان اللجوء الى الولاية القضائية العالمية باعتباره آلية تحقيق العدالة لضحايا الجرائم الدولية، في ذات الوقت، يكشف عن وجود رغبة ضئيلة في المساءلة الجنائية في البلدان التي تحصل فيها هذه الانتهاكات، كذلك، هناك تحديات تواجهها سواء علي المستويات المفاهيمية، والقانونية، والسياسية، والعملية، هي غالبا ما تبقى السبيل الوحيد امام الضحايا، لتحقيق العدالة ومعالجة فجوة الإفلات من العقاب.
يضيف هوارد، تهدف هذه الدراسة إلى النظر في التحدّيات التي تُواجه ممارسة الولاية القضائية العالمية، وإلى تقييم النّطاق الّذي تبقى ضمنهُ الولاية القضائية العالمية خيارًا قابلًا للتطبيق بالنسبة إلى الضحايا الذين يسعون إلى إحقاقِ العدالة في الجرائم الدولية، مشيرا الى استخدام الولاية القضائية العالمية بشأن الجرائم الجسيمة المرتكبة في سوريا، والتطرق إلى أمثلة عن قضايا الولاية القضائية العالمية المرفوعة لدى المحاكم المحلية في مختلف الولايات القضائية.
يتطرق التّقرير الي النّظر في العلاقة بين مبادرات المساءلة من أجلِ سوريا على المستوى الدولي من جهة الولاية القضائية العالمية من جهةٍ أخرى، وينظر أيضا في مستقبل الولاية القضائية العالمية كالية قابلة للتطبيق في إطار العدالة العالمية، هذا الشكل حقق تقدما ملحوظا في السنوات الاخيرة، الا انه ما زال يواجه معاكسات كبيرة، يضيف هوارد، لا سيما تلك التي تتخذ طابعا سياسيا.
يرى هوارد ان ملاحقة الولاية القضائية العالمية فتحت الباب امام احتمال تطبيق العدالة في سياقات كانت مستحيلة في السنوات السابقة، قامت العديد من البلدان بإدخال الولاية القضائية العالمية في أنظمتها المحلية، اضافة الى ذلك، لم تحظ الولاية القضائية بالقبول، بل تعرضت لانتكاسات، ويوضح تحديدا علي الصعيد السياسي، حيث يضيق نطاق الولاية القضائية العالمية، يرى أن الطريق لا يزال طويلا قبل ترسيخ الولاية القضائية العالمية كوسيلة معترف بها، وقابلة للتطبيق لتحقيق العدالة العالمية.
حسين حبري … نموذج تطبيق الولاية القضائية العالمية
أمثلة لتطبيق الولاية القضائية العالمية، عندما كان الرئيس التشادي الاسبق حسين حبري رئيسا للبلاد من عام 1982 الى 1990، قد هرب الى السنغال في عام 1990 بعد الاطاحة من قبل الرئيس الرئيس الراحل ادريس ديبي اتنو، بعد صدور تقرير لجنة الحقيقة عام 1992 وجهت له اللجنة بارتكاب انتهاكات حقوق انسان جسيمة، حسب الحالات الموثقة بلغت 40 ألف حالة ما بين الاغتيال السياسي، والتعذيب الممنهج، بعد الضغوط المتكررة من المنظمات الحقوقية الاقليمية والدولية، القي القبض علي حبري في عام 2000 في السنغال.
في عام 2016، انتهت المحكمة الأفريقية في العاصمة السنغالية داكار، وحكم علي حبري بالسجن المؤبد، بعد ادانته بتهم ارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم اغتصاب، وخطف وتعذيب، واعدام، بينما ان المحكمة الافريقية أنشأه الاتحاد الافريقي بموجب اتفاق مع السنغال، وبدأت المحاكمة في عام 2015 بحضور حبري الذي اقتيد بالقوة إلى المحكمة، إلا انه رفض التحدث فيها او الدفاع عن نفسه.
كما وقد أثبتت قضية حبري، أنه عندما لا يمكن مقاضاة المشتبه بهم عن الجنايات و الجرائم الموجهة لهم أمام محاكم الدولة أو أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب نظامها الأساسي، تصبح الولاية القضائية العالمية شبكة أمان مهمة لضمان عدم قيام المشتبهين بارتكاب فظائع أخرى وعدم تمتعهم بالإفلات من العقاب في دولة ثالثة.
في السنوات العشرين الماضية، حدثت زيادة بشكل رئيسي، و ليس حصري في إستخدام الولاية القضائية العالمية، من قبل المحاكم في البلدان الأوروبية، وشملت القضايا في المحاكم الأوروبية جرائم ارتكبت في رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأفغانستان وغواتيمالا وكوسوفو، والعراق، وليبيريا والبوسنة، والهرسك والأرجنتين وسوريا وغيرها، أما القضية المرفوعة ضد حبري في السنغال فقد شكلت سابقة أخرى مشابهة لقضية عام 1999 ضد الدكتاتور الشيلي السابق بينوشيه.

ishaghassan13@gmail.com

 

آراء