اليسار والإسلام: ما لينا غيرك يا الله (2-2)

 


 

 

عبد الله علي إبراهيم

هذه كلمة عائدة إلى 2012 في أثر الربيع العربي نشرتها على "الجزيرة نت". وهي عن البغضاء المتبادلة بين اليسار والليبراليين وبين الإخوان المسلمين وبصمتها على الربيع العربي. وأعيد نشرها وقد رأيت الفجور في الخصومة (لا الخصومة) التي استهلكتهما لعقود حتى مسخا السياسة فعقمت حتى لم تعد في خدمة أي أحد غيرهما. وتقع الكلمة في باب وعي بالدين في اليسار انشغلت في البحث فيه والنشر في بابه منذ حل حزبنا الشيوعي بتهمة الإلحاد. وهو وعي اقتحم نظرية الحداثة التي قامت على عقيدة أن للدين عمر افتراضي بلغ أرذله. وكان أستاذنا عبد الخالق محجوب من وضع لبنته في تقريره "قضايا ما بعد المؤتمر الرابع" (1968) فترحلنا من الدين "أفيون الشعوب"، وصيغتها الشائعة هي "استغلال الدين" ، إلى قول ماركس إن الدين هو آهة قلب مجتمع لا قلب له.

مرت مياه كثيرة، بل ربما ثورات، تحت قنطرة فهم الدين منذ تجمد اليسار عند مفهوم الحداثة الباكر له. قال جون إسبسيتو ، الاستاذ بجامعة جورج تاون، إننا ينبغي أن نحذر من الأصولية العلمانية حذرنا من الأصولية الدينية. فمعرفتنا الراهنة بالدين، في رأيه، هي بنت ضغينة علمانية تمكنت من الصفوة الحديثة. فغالباً ما جري التعامل مع الدين بلا مبالاة أو بعداء صريح. وقد أصمت الصفوة آذانها دون سماع صوت المتدينين. ولم تنطمس بذلك دراسة الدين في معاهد الصفوة فحسب، بل بات الدين نفسه موضوعاً غامضاً.
وتسرب هذا التحرر من الضغينة على الدين عند كتاب الرأي في أمريكا. فقرأت في نحو 2003 لنيكلوس كريستوف، المحرر بالنيويورك تايمز، قوله إنه ربما كانت ثمة حقيقة في اتهام المحافظين المؤسسة الصحفية الأمريكية بالليبرالية. فقد تقطعت الأسباب بين الصحفيين و64% من الأمريكيين ممن يصفون أنفسهم بالمهتدين الجدد. ولم تعد هذه الجماعة المهتدية على هامش الثقافة، بل زحفت الي مركز الأحداث في ظل إدارة بوش الابن. ونعي كريستوف على الصحافة غيابها عن عوالم هذه الفئة الكبيرة. فمثلاً: من بين أكثر الكتب مبيعاً سلسلة كتب مسيحية عن نهاية الكون وزعت 50 مليون كتاب. ومع أن هناك ما يمكن أن نعترض عليه بحق في عقائد المهتدين الجدد، ولكن يخطئ الليبراليون حين لا يكتفون بالغضب الصحيح ضد سياسات الأصوليين فحسب، بل يكشفون عن ازدراء بليغ بالدين نفسه. وهذا شطط. فقد تجد من الليبراليين الأمريكان من يشغف بديانات في آخر الأرض، ولكنهم قليلو العناية بدين شعبهم في ولاية ألباما.
وجاء عند كريستوف ما يذكرنا بالحرب الثقافية القائمة في أعقاب الربيع العربي بين اليسار والإسلاميين. فقال إن واحداً من أعمق الأخاديد الثقافية في أمريكا المعاصرة هو الجفوة الحادثة بين الإنجيليين والمجتمع المدني. وستزداد الجفوة شقة بفضل صراع السياسات الثقافية حول الإجهاض وغيرها. وطلب كريستوف من طرفي الخصومة أن يكفا عن النطح ويتبعا الطريقة الوسطي. وأول ذلك في رأيه أن يسقطا ازدراء واحدهما للآخر.
أما كاتب الرأي الاخر بنفس الجريدة، ديفيد بروكس، فقد أثاره أننا لم نبلغ إقليم الحداثة والعلمانية الذي بشرنا به القرن العشرين. فقرننا هذا بالواضح قرن الثقافة لا الاقتصاد. فالثقافة فيه خرجت لتفسير "لاعقلانية" الناس الذين افترضنا بوحي من علم الاقتصاد أنهم ناصحون عارفون لمصلحتهم ساعون لمعاظمة كسبهم المادي. وافترضنا أنهم كل ما تعلموا وتحدثوا واغتنوا صاروا أكثر علمانية وزالت الحَمِيّات مثل القبلية والوطنية وصوتوا بشكل مستقل وراشد. ولكن المشاهد أنهم بدلاً عن ذلك تعلقوا بأهداب ثقافاتهم أكثر. فنجد في أمريكا الناخبين الأعلى تعليماً أكثر استقطاباً من الأقل تعليماً. ولم يصيروا علمانيين كتوقع نظرية الحداثة منهم وإنما تدينوا واشتطت الأصوليات بينهم.
وأخذت معالجات الدين والسياسة المستجدة منحى خلا من الدين نفسه أحياناً. فنبه جوناثان روش (أتلانتك منثلي مايو 2003) إلى أن أعظم التطورات في الدين الحديث ليست هي الديانة بالتأكيد، بل منحى ذهنياً يجمل وصفه ب"الأباثيزم#" (من فتور بالإنجليزية) وهي مراوحة علي مصطلح "الإثيزم" (الإلحاد). فالقوم الأباثيون يشعرون بإلفة مع الدين وإن كانوا هم أنفسهم لا دينيين. وألمح إلى هذا "التدين بلا دين" كارل قرشمان في رثاء هافل، الرئيس المؤسس لجمهورية التشيك الحديثة. فلم يكن هافل متديناً بالمعني. ولكنه أبغض من جعلوا القيم الأخلاقية نسبية. وقال إن قيم الديمقراطية وكياناتها ستذبل إن لم يوطنها الإنسان في معان حسان متجاوزة أي ما ورائية.
وانبنت النظرة الجديدة للدين والسياسة على ما يبطل قولنا " الإسلام السياسي". فالمفهوم يعزل الظاهرة الدينية عن وجوديتها لتصير شغلاً لسياسة الدولة والصفوة. ويُفرِغ بذلك عامة الناس من الانشغال الاستراتيجي المستقل بالدين بما يجعلهم موضوعاً لتأليب الصفوة وكالة لا أصالة في سياق حركات التجديد الإسلامي. وبأخذنا الدين هذا المأخذ نرى المسلمين يدخلون ساحة السياسة أفواجا. . . كمسلمين. ونسترد هنا للدين طاقاته النقدية للنظم التي لا قلب لها، في قول ماركس، التي وطأتهم بعد الاستقلال. فالدين بهذا يخدم كأساس مرجعي لنقد المجتمع لا موضوعاً للنقد بإملاء العقل.
وصفوة القول إن الأصولية الإسلامية من هذا المنظور هي المملكة الإسلامية أو اليوتوبيا التي تحولت فيها لغة الحق والباطل في الدين إلى علم سياسي للعدالة والمساواة. وبهذا العتاد الفكري تصوب الأصولية نقدها لمجتمع ما بعد الاستعمار البشع. وما لا يتوقف عنده ناقدو الاسلام السياسي هو الإتيان بتفسير لماذا كان الإسلام السياسي، على ما يرون من قبحه، صورة الحكم البديلة في بلاد المسلمين. فالمشروع الإسلامي على علاته محاولة رئيس للتحرر من عقابيل الاستعمار بعد أن اتضح للباحثين أن الاستعمار "مشروع تبشيري" بأكثر مما هو مشروع اقتصادي لاستغلال موارد المستعمرات. وبالنتيجة فالإسلامية وثيقة الصلة بعقبة ما بعد الاستعمار وشدائدها التي عرّفها أحدهم بأنها "الشغل الذي لم نفرغ منه لاستكمال الاستقلال".
(5)
وعليه فالإسلامية جاءت لتبقى بيننا كما هو مشاهد. وأولى باليسار أن يعترف بأن ما يراه منها حق "صائر" فينا. وضل من سارع إلى كتابة نعيها مثل فؤاد عجمي الذي وصفها في 1993 كظاهرة غير عقلانية وعلامة دالة على الفزع والحيرة أكثر منها على الصحوة. وسيحسن اليسار إلى نفسه قبل غيره إن اكتشف قواعد "التعايش السلمي" معها على غلظة المطلب على أنفسهم.
# Apatheism
فصل عن كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب من كتاب أستاذنا عبد الخالق محجوب "حول أفكار الإخوان المسلمين"

ibrahima@missouri.edu

 

آراء