امرأة عالية الصوت من تكساس: مولي آيفنز .. نقيض دوبيا بوش وجي آر

 


 

 

عفو الخاطــر:

كوني على شفاهي نبوءة للأرض التي لم يستيقظ سكانها بعد

أيتها العاصفة
إن بعد الشتاء الربيع
بيرسي بيش شيلي

في بداية شتاء العام 2003 اجتاحت عاصفة هوجاء الأقاليم الأطلسية من كندا فعاثت فسادا في تلك الأنحاء، و أحدثت دمارا هائلا و خرابا منقطع النظير في المدينة الساحرة، هليفاكس، عاصمة إقليم نوفا اسكوشيا. كان أثر العاصفة في حديقتها الجميلة ملحوظا بصورة استثنائية، فالحديقة هي فخر المدينة والاقليم. اقتلعت العاصفة اشجاراً معمّرة ونادرة ونباتات يصعب تعويضها. وكانت أكثر مناطق المدينة تضررا أجزاءها الجنوبية حيث الأحياء الفقيرة. هرعت السلطات إلى إصلاح ما خرب فبدأت بالشمال الذي يعيش فيه الأغنياء والموسرون وتركت الفقراء يعانون من انقطاع الكهرباء والمياه والغاز والتدفئة إلى حين استقرار أمور الأثرياء واستئنافهم لحياتهم الوادعة الرغيدة. أثار هذا التمييز في إغاثة المنكوبين حفيظة أهل الجنوب فكتبت بعض الصحف المحلية عن المحاباة التي لقيها أصحاب المال والجاه.

بعيد هذه العاصفة كنت في زيارة لواحدة من أهم دور العلم في كندا إن لم يكن في أميركا الشمالية قاطبة. فقد صنفت جامعة سانت فرانسيس زيفيير الجامعة الكندية الأولى لسنوات متتالية وما زلت، حسب التصنيف السنوي الذي تقوم به مجلة "مكلين". تحتل الجامعة بلدة انتيقونيش، أو كما يلفظها سكانها "انيقينيش" – القريبة من هليفاكس، وهي قرية بداوتها تبدو، وهي أيضا بندر. التقيت هناك أستاذ العلوم السياسية النابه، شيراز دوسا، الذي أثار في السنوات الماضية لغطا وهرجا حينما شارك في مؤتمر نظمته طهران حينئذٍ عن الهولوكوست أو "المحرقة اليهودية".

استنكرت أوساط كندية عديدة مشاركته في هذا المؤتمر الذي حضره من بين من حضر حاخامات يهود ارثوذوكس من طوائف مختلفة وأبرزهم من طائفة ناطوري كراتاه التي لا تعترف بالدولة العبرية وتعدها بدعة وضلالة. ومهما كانت نوايا المنظمين والداعين إليه، إلا إن كل الدوافع والأسباب، أيا كانت، لا تغفر لهم دعوة زعيم عصابة كوكلاس كلان العنصرية الاميريكية، ديفيد ديوك. هذه خطيئة بكل المقاييس و في كل الشرائع، و ليس خطأ أو هفوة.

الذين هاجموا البروفسور دوسا لم ينتبهوا إلى الورقة التي قرأها أمام هذا المؤتمر، بل استشاطوا غضبا لذهابه إليه فقط لا غير. وذلك حال الكثيرين مما يحكمون على الظواهر لا المتون. دوسا ليس من منكري المحرقة وليس متعاطفا مع النازية. ورقته أبانت استغلال اليمين الاميركي و اللوبي الصهيوني المتطرف للمحرقة للإساءة للعرب و المسلمين و اتخاذها ذريعة لشن العدوان عليهم. دوسا من منكري الديموقراطية في الغرب المعاصر و لا سيما ديموقراطية الولايات المتحدة الاميريكية و كندا. ففي حين انه يعترف بوجود لحرية التعبير و الرأي و النشر إلى حدود بعيدة و قصوى، لكنه ينكر أي وجود للديموقراطية و المساواة السياسية و الاقتصادية و الثقافية، خصوصا في الولايات المتحدة الاميريكية. فللديموقراطية شروط حنى تتحقق ومنها المساواة، قدرة الجميع، فقراء واثرياء على خوضها والترشح لجميع المناصب وتبوء أعلاها، وهو ما لا ينطبق على الديمقراطية الأميركية حيث لا يقدر على خوض الانتخابات فيها الا من لدية المال والسند. هو حال الديموقراطيات الغربية اليوم. في ذلك الشتاء القارس وبعد أن انقشعت العاصفة، ضرب دوسا مثلا عن ذلك بما لقيه سكان جنوب هليفاكس مقارنة بالنجدة العاجلة التي وصلت إلى القاطنين شمال المدينة (ألا يذكرنا هذا بالسودان وغيره.)

نادى فريق من الذين دانوا ذهابه إلى طهران بفصله من الجامعة وإبعاده عن التدريس برمته وغير ذلك، إلا انه حين عاد لم يجد مقصلة في انتظاره عند مهبط الطائرات في هاليفاكس ولا مشنقة نصبت له أمام الجامعة. بل كانت هنالك أصوات عالية حذرت من أن استمرار هذه الحملة سيقود إلى تقييد حرية الفكر و التعبير و الإضرار بالبحث العلمي و تكبيل وسائل التعليم و تقييد الدراسة و مستقبل الأجيال. و كان من أهم تلك الأصوات البيان الذي أصدرته هيئة أساتذة الجامعات الكندية. كان البيان واضحا وحاسما: أوقفوا هذا العبث!

ويومذاك، والعام 2003 يكاد ينصرم، دلف بنا الحديث إلى نواحي متعددة، كانت الديموقراطية وحرية التعبير والنظم "الديموقراطية" وممارستها مركز الحديث، فذكرنا المعلقة السياسية الأميركية مولي آيفنز (1944 – 2007) التي رحلت عن ثلاثة وستين سنة، فتركت قراء أربعمائة صحيفة أميركية في طول البلاد وعرضها تنشر تعليقاتها يشعرون بفداحة الخسارة في وقت يعلن فيه الرئيس جورج دبليو بوش خطته الجديدة لمواصلة حربه على العراق.

قال لي البروفسور شيراز دوسا حينذاك: انه عاد منذ يومين من مؤتمر انعقد في مدينة اميريكية بكتاب جديد لمولي آيفنز عن الرئيس جورج دبليو بوش(2) نحتت عنوانه من اسم الرئيس ولعل أقرب ترجمة له (المتوحش: الحياة في أميركا جورج دبليو بوش). سارعت إلى مكتبة في المركز التجاري الوحيد في هذا الحصن الجامعي، لتطلب مني البائعة العودة بعد الغد لأحصل على نسخة منه.

كنت أقرأ لهذه الصحافية والكاتبة الاميريكية الليبرالية الشجاعة بين الفينة والأخرى في السنوات العشرين الأخيرة وكلما تيسر لي الحصول على صحيفة تنشر فيها ولها وكتاب أصدرته. فهي كانت تنتمي إلى التيار الليبرالي اليساري إلى جانب جو كاناسون و بول كروغمان و فرانك ريتش و بوب هيربرت و مورين داوود و مايكل كينسلي. وقد استعرت الحرب بينها وبين ما يمثله جورج دوبيا بوش (هكذا ينطق أهل تكساس حرف دبليو) واليمين الجمهوري منذ أن نشرت كتابا عنه بعنوان "النبتة" حينما كان حاكما لولاية تكساس.

كافحت آيفنز سرطان الثدي الذي أصابها أول مرة في العام 1999 ببسالة، مستعينة عليه بروحها الساخرة المرحة وعملها الدؤوب وحبها للحياة والناس. انتصرت عليه مرتين، ولكن في المرة الثالثة هاجمها بضراوة المنتقم فوقفت له بالمرصاد، إلا انه تغلب عليها هذه المرة، فأسدى لجورج بوش واليمين المحافظ واللصوص من كل الأنواع خدمة جليلة.

عارضت هذه الكاتبة الساخرة ذات الأسلوب الفريد الحرب على العراق منذ أن بدأت إدارة الرئيس بوش الأبن التخطيط لها، وظلت تنادي الجميع للوقوف بالمرصاد لما يخططه هؤلاء. فعلت ذلك في مقالاتها التي نشرت في جميع أنحاء الولايات المحة الأميركية البلاد منذ العام 2003، وقبيل بدء الحرب. في إحدى مقالاتها مطلع العام 2003 وصفت الرئيس بوش حينما كان يتحدث عن زيادة عدد القوات في العراق قائلة: (لا يملك رئيس الولايات المتحدة عقلا حتى في حجم العقل الذي وهبه الله لبطة. و لذلك وقف هذه الحرب سيعتمد عليك أيها الاميريكي و عليّ. إنني لا أعرف لماذا يقف بوش هناك مثل أرنب مجلّد. و لكن حان الوقت لنعرف ذلك. لابد من أن نفعل شيئاً ما. لقد مزقت حرب شريرة و غير ضرورية هذه البلاد، و لابد من وقفها الآن.)

و في أخر تعليق نشرته لها الصحف قبل أن يتغلب عليها المرض الخبيث تعهدت لقرائها ألا تكتب إلا عن ضرورة وقف هذه "الحرب الشريرة". ولكنها لم تقو على ذلك. قالت في هذا التعليق الذي نشر في 11 يناير/كانون ثاني 2007، والذي هاجمت فيه خطط نشر قوات أمريكية إضافية في العراق: (نحن الشعب الذي يدير هذه البلاد. نحن من يقرر. في كل يوم على كل واحد منا أن يتقدم إلى الأمام ويقوم بعمل يساعد على وقف هذه الحرب... وإذا ما استطعتم انضموا إلى مسيرة السلام التي ستخرج في واشنطن يوم 27 يناير/ كانون الثاني 2007. نحن في حاجة إلى ناس يخرجون إلى الشوارع يقرعون قدورهم و مقاليهم مطالبين: "أوقفوها الآن!"). و تعهدت: (سيكون هذا دأبي دوما، مثل أي حملة صحافية تقليدية. أي عمود سأكتبه سيكون عن هذه الحرب حتى نجد طريقة ما لوقفها.) لكنها رحلت قبل أن تكمل المهمة. أليس هذا ما يجب أن يفعله الصحافيون والكتاب في السودان حتى يرحل العسكر الى ثكناتهم ويتركوا الشعب، خصوصاً الشبيبة، يقرر مصير بلاده

بعد إعادة انتخابه رئيسا للولايات المتحدة الاميريكية بداية العام 2005 قررت أن أعرّب كتابها عن بوش، فكما ذكرت هي: "لو قرأ الناس كتابي الأول عنه "النبتة" لما انتخبوه أصلا. كتبت إليها برغبتي هذه فأسعدها أن يقرأ لها من يعرف العربية و يطلع قراءها على ما تكتب. لكن مشاغلا حالت دون أن أكمل التعريب قبل وفاتها. كنت أود أن ابعث لها بالنسخة العربية قبل دخولها المستشفى، ولا اعرف الآن كيف اعتذر لها وهي في عالم الخلود عن هذا التقصير. قلت لها إنني لن أترجم الكتاب، بل سأعربه. سأحافظ على النص كما هو ولكنني سأشرح كل ما ورد فيه من حكايات ورموز واستعارات وأمثال وصور بلاغية وشخصيات أميركية خالصة وغير ذلك، حتى يفهم القارئ العربي ما قصدت هي إليه. وذلك سيستغرق وقتا. فالترجمة سهلة المنال، لكن التعبير عن الأفكار والمقاصد يحتاج الى أناة.

في كتابها ذاك تحدثت عن الفساد في أميركا ... عن شركات مثل انرون و ارثر اندرسون و شركات النفط و صلة جورج بوش و أسرته و رهطه بكل ذلك. كتبت عن الشركات التي لوثت الأرض و المياه و التي تهربت عن دفع الضرائب بالهروب إلى ملاذات آمنة، و عن الفقراء السود في حوض نهر المسيسبي الذين يستغلهم أصحاب مصانع الأسماك و تنتهي حياتهم في الثلاثين من عمرهم. و عن الجرائم التي يرتكبها أصحاب معامل تصنيع و تعبئة اللحوم ( و بعضها نأكله في بلادنا) و أشارت إلى ما يفعله المنقبون عن غاز الميثان الذين خربوا مزارع ولاية وايومينغ و أحالوا المراعي فيها إلى يباب. كشفت ما فعله ويفعله عقل جورج بوش، وصاحب المكائد والدسائس، كارل روف، راسبوتين البيت الابض. و ساهمت في سقوط توم ديلاي، زعيم الغالبية الجمهورية القوي الذي هوى يجلله العار و الشنار. تحدثت عن الأدوار التي لعبها جون نغروبونتي (مندوب أميركا في مجلس الأمن قبيل الحرب على العراق و أول سفر اميركي في عراق ما بعد صدام حسين) في أميركا اللاتينية و في صناعة الكتاب المدرسي و صلته بجورج بوش. أزالت اللثام عن أسطورة التعليم لكل طفل اميركي التي أطلق شعارها دوبيا بوش. و كيف أن هذه الخطة هي مؤامرة اخرى على أجيال أميركا من خلال تخريب مناهج التعليم و جعل الحصول على مقعد دراسي للأطفال السود و الفقراء مستحيلا في المراحل المتوسطة و الثانوية. تحدثت فعلا عن الحياة في أميركا جورج دبليو بوش! أليس هذا ما يجري اليوم في السودان في أبشع صوره؟

بدأت مولي آيفنز حياتها الصحافية محررة لصفحة الجريمة في صحيفة مينابوليس تربيون. وهكذا يبدأ معظم الصحافيين الناجحين حياتهم المهنية بتغطية أخبار أقسام الشرطة والمحاكم. كانت أول صحافية أمريكية تحرر صفحة الجريمة إلى أن انتقلت إلى صحيفة نيويورك تايمز في منتصف السبعينيات مراسلة لهذه الصحيفة العريقة المتنفذة ثم أصبحت رئيسا لتحرير صحيفة الاوبزيرفر في ولايتها تكساس، فجعلت من تلك الصحيفة تحت قيادتها صحيفة بالغة التأثير والنفوذ والاحترام ليس في تكساس فحسب بل في بقية الولايات والعاصمة واشنطن. تفرغت بعد ذلك إلى كتابة التعليق و تأليف الكتب و إلقاء المحاضرات.

رحلت بعد أشهر قليلة من غياب صديقتها آن ريتشارد، آخر حاكم ديموقراطي لولاية تكساس، بذات الداء، وكانت أفضل من حكم تلك الولاية؛ وأسابيع تعد على الأصابع من رحيل الان هيكرود، الكاتب الذي تجمعه صفات عددا بمولي آيفنز. رحل هيكورد بعد فترة قصيرة من نشر كتابه المهم "ليبرالي مقاتل ولا يعتذر عن ذلك". وكذلك كانت آيفنز صلبة ومقاتلة ولا تعتذر عن كونها ليبرالية ويسارية تمثل روح أميركا الحقيقية. نقيض أميركا الإمبريالية المتوحشة.

(1) جي آر: بطل مسلسل "دلاس" التلفزيوني الذي شغل أميركا و العالم في سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي.

(2) Bushwhacked: Life in George W. Bush's America

(3) Shrub : The Short but Happy Political Life of George W. Bush

(4) An Embattled and Unapologetic Liberal

elsouri1@yahoo.com

 

آراء