انتظارات لا تنبيء بخير إطلاقاً!
جمال عبد الرحيم صالح
9 September, 2022
9 September, 2022
7 سبتمبر 2022
تدخل الثورة المجيدة عامها الخامس، ويشارف الإنقلاب المشئوم عامه الأول، والثورة في أسوأ منعطفاتها إطلاقاً. أكثر من 10 أشهر مرت على الإنقلاب، وقوى الثورة في حالة توهان، سِمتَه الانقسام والتشرذم وإبداء الكراهية والإتهامات بالتخوين، وطلب الإعتذارات من بعضها البعض، حيث وصل الأمر مرحلة التعدي البدني بينها، كما حدث في مسيرة 26 يوليو الماضي. أكثر من 10 أشهر من الإنقلاب ولا بوادر للإتفاق حول الشكل الدستوري لإدارة الفترة الإنتقالية.
مئات المبادرات والمقترحات ملقاة على الطاولات وحلقات النقاش للخروج بالثورة لبر الأمان، بدون أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام. والحال كذلك، فإن المهدد الأكبر أصبح هذا الإهدار للطاقات في توحيد عشرات القوى التي يستحيل الحصول على إجماعها أو إجماع غالبيتها؛ مقروءاً هذا مع التبديد المتعاظم لعنصر الوقت، الذي يشكل سلاحاً خطراً في يد الطغمة الحاكمة وحلفائها. لقد انشغلت القوى الحية في إعداد المواثيق للثورة، بما تتضمنه من مهام تتجاوز كثيراً متطلبات المرحلة الإنتقالية، ومعظمها ذو طابع خلافي مرتبط بقضايا ما بعد الإنتقال، مثل تحديد طريق التطور الإقتصادي المستقبلي والبنية الأفضل للدولة السودانية. إن المطلوب لإنقاذ مسيرة الثورة، في تقديرنا، وثيقة دستورية، بغض النظر عن المسميات، تدير الفترة الإنتقالية لتحقيق مهامها الواضحة والمتفق حولها. لم يَثُر شعبنا للمطالبة بهذا النموذج التنموي من ذاك، وإنما لتحقيق أهداف لخصها عقله الجمعي في التالي: الحرية، العدالة، والسلام، تلك الأهداف التي يمكن أن تنبثق منها المهام التالية:
* إصلاح المؤسسات العدلية كالقضاء والنيابة العامة شخوصاً وهياكل، وتطعيمها بعدد وافر من أولئك المقتدرين سواء الذين تقاعدوا بالمعاش، أم فصلوا لأسباب سياسية.
* هيكلة المنظومة الأمنية من جيش وأمن وشرطة وتوحيد قوامها ودعمها بعدد وافر من المقتدرين المشهود لهم بالمهنية والنزاهة والذين غادروها بالتقاعد أو بالفصل.
* إصدار قانون للتنظيم الحزبي، يلزم جميع الأحزاب بعقد مؤتمراتها وتنظيم عضويتها، وصياغة برامجها ودساتيرها، وما إلى ذلك من شروط تسمح لها بالمشاركة بفاعلية ونزاهة في العملية السياسية.
* إصدار قانون للعزل السياسي، يُجرِّم ويبعد جميع رموز وقيادات المؤتمر الوطني من ساحة الفعل السياسي.
* إنجاز الإحصاء السكاني، بالشكل المهني المعروف، بإعتباره أحد مطلوبات الإنتخابات.
* قيام مفوضية عامة للسلام من شخصيات مقبولة للجميع، لتهيئ المناخ الملائم لإشراك كل القوى السياسية والحركات المسلحة في العملية الإنتقالية.
* قيام مفوضية عامة للإنتخابات محايدة ومقبولة للجميع، وإصدار القانون المنظم للإنتخابات.
* تكوين مفوضية عامة للدستور، تدير نقاشاً مجتمعياً مفتوحاً لا يستثني أحداً، وتصوغ من خلاله، وعبر مؤتمر شامل، دستوراً مؤقتاً للسودان، يكتسب ديمومته عند طرحه في البرلمان القادم.
* قيام مفوضية للعدالة الإنتقالية، تضع المعايير والأسس اللازمة لتحقيقها، ثم تراجع وتنظر في المظالم والإنتهاكات السابقة والحالية.
* قيام مفوضية عامة لمحاربة الفساد وتفكيك دولة الإنقاذ وفق قانون ينشأ لهذا الغرض، يتم من خلاله تفادي سلبيات تجربة لجنة التفكيك السابقة.
بالنظر لتلك المهام، نرى ان هناك واجبين عاجلين لا يحتملان التأجيل، إذا كنا حريصين فعلاً على نجاح الثورة:
* الواجب المُلِح الأول هو الاتفاق على الشكل الدستوري الذي يناسب الفترة الإنتقالية، وفي هذا أرى أن الوثيقة الدستورية السابقة يمكن أن تصلح لذلك، بعد مراجعتها وتعديلها وفقاً لما استجد في الساحة بعد الإنقلاب المشئوم. حيث، كمثال، يمكن تعديل البنود الخاصة بمجلس السيادة في الوثيقة الدستورية بأن يكون هنالك مجلس سيادة من مدنيين فقط، من رموز مقبولة للكل يمثل كل عضو فيه أحد أقاليم السودان المعروفة. يشمل النظر في مسألة الوثيقة لدستورية تجميد إتفاق جوبا وإضافة المواد الملائمة منه لتلك الوثيقة الدستورية. إن دعوتنا لتجميد إتفاق جوبا تستند على حقائق غير قابلة للمغالطة؛ من ضمنها عدم شموليته للحركات المعارضة الأخرى وهي الأكبر حجماً والأكثر تأثيراً، كما أن الإتفاق ضم قوىً في مسارات لا وجود لها أصلاً كمساري الوسط والشمال، إضافة لرفض القوى المؤثرة في الشرق لما أسماه صانعو الاتفاق بمسار الشرق. إن وقوف القوى الموقعة عليه مع الإنقلاب العسكري، يعتبر أصلاً خروجاً عن الوثيقة الدستورية التي استند عليها الإتفاق. لذا يمكن، كبديل للاتفاق، أن تتضمن الوثيقة الدستورية المقترحة بعض البنود الوجيهة فيه كموضوع الترتيبات الأمنية وتخصيص عدد معقول من مقاعد المجلس التشريعي لهم، كما سيرد أدناه.
* الواجب المُلِح الثاني، الذي نحتاج للاستعجال حوله والتركيز عليه، وبالتوازي مع إجراء التعديلات الدستورية المشار إليها أعلاه، هو الإتفاق على نسب التمثيل في المجلس التشريعي، الذي فشلنا لعامين، وفي ظروف أفضل من تلك التي نعيشها الآن، من تشكيله. على المستوى الشخصي، أقترح أن تمثل لجان المقاومة فيه بـ 50%، والأحزاب بـ 20%، وتجمع المهنييين ومنظمات المجتمع المدني بـ 15%، وتخصيص 15% للحركات الموقعة على إتفاق جوبا.
نسبة لإستحالة تحقيق إجماع لقوى الثورة، على ما إقترحناه أعلاه من معالجات بخصوص الواجبين العاجلين، أو على أي تصور آخر، نقترح على تنسيفيات المقاومة، أو المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، أيهما الأكثر جاهزية، تبني هذه المقترحات بعد إجراء ما هو مناسب من تعديلات بالطبع. ثم من بعد ذلك دفعها للآلية الرباعية، باعتبارها، أيّ الآلية، تمثل أفضل خيار لقيادة الحوار مع قوى الثورة المشتتة من جهة، و العسكر من جهة أخرى. إن مطلب الثورة في إبعاد العسكر عن إدارة المرحلة الإنتقالية، لا يتم “بالريموت كونترول” وإنما عبر الحوار غير المباشر كخيار. إنه، وحتى في الحروب التي تنشأ بين الدول، يجلس المهزوم مع المنتصر للإتفاق على الترتيبات التي يفرضها توازن القوى المحدد.
هناك حساسية غير مبررة، في تقديري، لدى كثير من قوى الثورة حول إشراك المجتمع الدولي في حلحلة الأزمة الراهنة، أو في الواقع لديها موقف من تدخله أصلاً. في رأيي أن ذلك الموقف ناتج عن رؤية مشحونة بحمولات أيديولوجية، أكثر منه موقفاً مبنياً على معطيات الواقع الراهن سواء على مستوى العالم أم على مستوى البلاد. إن قوى المجتمع الدولي المقصودة بالتدخل، خاصة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لها موقف إيجابي ومساند للغاية لثورة السودان، وحق الشعب السوداني في الحكم المدني الديمقراطي، والمؤشرات الدالة على مدى الإعجاب والإحترام الذي تكنَّ لشعبنا أكثر من أن نحتاج لذكره.
ندعو لهذا ولا يخالجنا شك في أن هذه الدول تضع مصالحها الوطنية في المقدمة، إلا أن ذلك لا ينفي سعيها لترسيخ قيمها في الديمقراطية، حيثما كان ذلك ممكناً. وفي هذا يمكن القول أن وجود نظام مدني ديمقراطي هو الخيار الأفضل لديها، كما أن الأفضل للسودان أن يكون شريكاً مستقبلياً لها بدون تعارض مع مصالحه الوطنية. أن موقف هذه القوى ضروري للغاية للضغط على الطغمة الحاكمة الآن، تلك الطغمة الساعية بكل ما لديها لتربط مصالح البلاد بالأنظمة المستبدة، والشرهة أكثر من غيرها، لإلتهام موارد بلادنا بأبخس الأثمان. إن الحكومة التي تسعى لها الثورة، وما ستخطته من برامج وسياسات، ومن خلفها شعبها بشارعه، هي الضامن لإستقلال البلاد السياسي والإقتصادي، فمسألة السيادة أو التبعية في يدنا نحن وليس في يد المجتمع الدولي المعني.
إن الإصرار على النظر لبريطانيا وأمريكا، بإعتبارها طامع في موارد بلادنا وسيادتها؛ أي بمعنى آخر التعامل معها كعدوٍّ لشعبنا وثورته، سيجبرها للتراجع عن مواقفها، وسيدفعها دفعاً في إتجاه تغليب مصالحها الوطنية، التي تتمثل في حالتنا، في إستقرار السودان، وما سيفترضه ذلك من غض طرف، متوقع، عن الإجراءات التي تقوم بها الطغمة الحاكمة وحلفاؤها.
تعج الساحة السياسية الآن بحراك كثيف لجمع كل قوى الثورة تحت مظلة أحد أو بعض المواثيق المطروحة. في تقديري أن هذا شيء إيجابي، لكنه يحتاج لزمن لجمع الأغلبية حوله، كما أنه يحتاج لمناخ معافى لانجازه. إنه، وباعتبار أن مهام المرحلة الإنتقالية محددة وواضحة كما أبِنَّا أعلاه، كما أنها محكومة بقيد زمني قصير؛ وبإعتبار هشاشة التكوينات السياسية والإجتماعية بالبلاد، مع الوضع في الإعتبار الأخطار الماثلة التي ربما تقود لنتائج لا يرغب أحد فيها؛ يصبح الواجب المقدم والهام للغاية هو إبعاد الطغمة الحاكمة وحلفائها حتى يتم إصلاح جهاز الدولة بشكل يُمكِّنه من توفير الأرضية اللازمة لتنفيذ مهام وبرامج التغيير المستقبلي المنشود. لهذا
ولغيره، نرى أن لا نربط مهمة إقرار الشكل الدستوري وتشكيل منظومة الحكم الإنتقالي، بقضية المواثيق.
في تقديري أن هناك خطأً استراتيجياً تقع فيه قوى الثورة، وعلى الأخص شباب المقاومة، وهو الإنشغال بالمواثيق بديلاً عن المبادرات الواضحة التي تستهدف تشكيل منظومة الحكم، والقواعد الدستورية المنظمة له. لا ننسى أن قوى الثورة تلكأت لمدة عامين في تنفيذ أهم استحقاقات الثورة التي تم الإتفاق حولها، وأقصد بهذا تكوين المجلس التشريعي. ولا ننسى أن الجيش قد وقَّع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية عقب ثورة أبريل 1985، ثم حدث ما حدث! كما يجب أن نضع نصب أعيننا دائماً القواعد الذهبية الدالة على أن تطويل الصراع كفيل باضعافه، وأن الطبيعة لا تعرف الفراغ! ليست هذه دعوة لتيئيس الناس من التفكير والاتفاق حول مستقبل البلاد، بقدر ما هي دعوة لإعطاء الأولوية لإبعاد العسكر وحلفائهم من المشهد السياسي، وإصلاح حال الدولة ليصبح ممكناً الإتفاق حول طريق تطور اقتصادي وإجتماعي تسير عليه بلادنا مستقبلاً.
دعونا نعمل مباشرة، وباتباع أسرع الطرق (fast track)، لحسم قضية الحكم الماثلة أمامنا التي تتمثل في وضع القواعد الدستورية للمرحلة الانتقالية والاتفاق حول هياكل الحكم من مجالس ووزارات ومفوضيات، في مقدمتها المجلس التشريعي. لو وصلنا لذلك، سوف يكون هنالك زمناً كافياً، ومناخاً أفضل، لجميع القوى السياسية لتتحاور حول مستقبل الوطن. كما سيتمكن شباب المقاومة من بناء تنظيماتهم وقدراتهم السياسية والمعرفية بشكل يسمح لهم بتحقيق ما يصبون إليه.
رسالة قصيرة لشباب المقاومة: مع إعتراف الجميع بما أنجزتموه، والأرواح الغالية التي قدمتموها ولا زلتم، بشجاعة قل نظيرها في التاريخ؛ إلا أن التاريخ يثبت لنا، ولأسباب ليس هنا مجال طرحها، أن جماهير الأحزاب التاريخية تُظهِر قوتها عند الإنتخابات، وليس من خلال الشارع. نقول هذا، لأن هناك من شباب المقاومة من يَعتقِد أن ضعف وجود هذه الأحزاب في الشارع، بالمقارنة مع شباب لجان المقاومة، ناتجاً عن ضعف شعبية هذه الأحزاب. لقد دفعت هذه الأحزاب أثماناً باهظة في معركتها التي بدأت مع نظام الجبهة الإسلامية منذ يومه الأول، ومهَّدت، بنضالاتها المتراكمة، الأرضية التي أنجحت ثورتكم المجيدة. لذا يصبح العداء لها مهدداً لكل ما شيدتموه من بنيان وما حملتموه من أحلام.
gamal.a.salih@gmail.com
تدخل الثورة المجيدة عامها الخامس، ويشارف الإنقلاب المشئوم عامه الأول، والثورة في أسوأ منعطفاتها إطلاقاً. أكثر من 10 أشهر مرت على الإنقلاب، وقوى الثورة في حالة توهان، سِمتَه الانقسام والتشرذم وإبداء الكراهية والإتهامات بالتخوين، وطلب الإعتذارات من بعضها البعض، حيث وصل الأمر مرحلة التعدي البدني بينها، كما حدث في مسيرة 26 يوليو الماضي. أكثر من 10 أشهر من الإنقلاب ولا بوادر للإتفاق حول الشكل الدستوري لإدارة الفترة الإنتقالية.
مئات المبادرات والمقترحات ملقاة على الطاولات وحلقات النقاش للخروج بالثورة لبر الأمان، بدون أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام. والحال كذلك، فإن المهدد الأكبر أصبح هذا الإهدار للطاقات في توحيد عشرات القوى التي يستحيل الحصول على إجماعها أو إجماع غالبيتها؛ مقروءاً هذا مع التبديد المتعاظم لعنصر الوقت، الذي يشكل سلاحاً خطراً في يد الطغمة الحاكمة وحلفائها. لقد انشغلت القوى الحية في إعداد المواثيق للثورة، بما تتضمنه من مهام تتجاوز كثيراً متطلبات المرحلة الإنتقالية، ومعظمها ذو طابع خلافي مرتبط بقضايا ما بعد الإنتقال، مثل تحديد طريق التطور الإقتصادي المستقبلي والبنية الأفضل للدولة السودانية. إن المطلوب لإنقاذ مسيرة الثورة، في تقديرنا، وثيقة دستورية، بغض النظر عن المسميات، تدير الفترة الإنتقالية لتحقيق مهامها الواضحة والمتفق حولها. لم يَثُر شعبنا للمطالبة بهذا النموذج التنموي من ذاك، وإنما لتحقيق أهداف لخصها عقله الجمعي في التالي: الحرية، العدالة، والسلام، تلك الأهداف التي يمكن أن تنبثق منها المهام التالية:
* إصلاح المؤسسات العدلية كالقضاء والنيابة العامة شخوصاً وهياكل، وتطعيمها بعدد وافر من أولئك المقتدرين سواء الذين تقاعدوا بالمعاش، أم فصلوا لأسباب سياسية.
* هيكلة المنظومة الأمنية من جيش وأمن وشرطة وتوحيد قوامها ودعمها بعدد وافر من المقتدرين المشهود لهم بالمهنية والنزاهة والذين غادروها بالتقاعد أو بالفصل.
* إصدار قانون للتنظيم الحزبي، يلزم جميع الأحزاب بعقد مؤتمراتها وتنظيم عضويتها، وصياغة برامجها ودساتيرها، وما إلى ذلك من شروط تسمح لها بالمشاركة بفاعلية ونزاهة في العملية السياسية.
* إصدار قانون للعزل السياسي، يُجرِّم ويبعد جميع رموز وقيادات المؤتمر الوطني من ساحة الفعل السياسي.
* إنجاز الإحصاء السكاني، بالشكل المهني المعروف، بإعتباره أحد مطلوبات الإنتخابات.
* قيام مفوضية عامة للسلام من شخصيات مقبولة للجميع، لتهيئ المناخ الملائم لإشراك كل القوى السياسية والحركات المسلحة في العملية الإنتقالية.
* قيام مفوضية عامة للإنتخابات محايدة ومقبولة للجميع، وإصدار القانون المنظم للإنتخابات.
* تكوين مفوضية عامة للدستور، تدير نقاشاً مجتمعياً مفتوحاً لا يستثني أحداً، وتصوغ من خلاله، وعبر مؤتمر شامل، دستوراً مؤقتاً للسودان، يكتسب ديمومته عند طرحه في البرلمان القادم.
* قيام مفوضية للعدالة الإنتقالية، تضع المعايير والأسس اللازمة لتحقيقها، ثم تراجع وتنظر في المظالم والإنتهاكات السابقة والحالية.
* قيام مفوضية عامة لمحاربة الفساد وتفكيك دولة الإنقاذ وفق قانون ينشأ لهذا الغرض، يتم من خلاله تفادي سلبيات تجربة لجنة التفكيك السابقة.
بالنظر لتلك المهام، نرى ان هناك واجبين عاجلين لا يحتملان التأجيل، إذا كنا حريصين فعلاً على نجاح الثورة:
* الواجب المُلِح الأول هو الاتفاق على الشكل الدستوري الذي يناسب الفترة الإنتقالية، وفي هذا أرى أن الوثيقة الدستورية السابقة يمكن أن تصلح لذلك، بعد مراجعتها وتعديلها وفقاً لما استجد في الساحة بعد الإنقلاب المشئوم. حيث، كمثال، يمكن تعديل البنود الخاصة بمجلس السيادة في الوثيقة الدستورية بأن يكون هنالك مجلس سيادة من مدنيين فقط، من رموز مقبولة للكل يمثل كل عضو فيه أحد أقاليم السودان المعروفة. يشمل النظر في مسألة الوثيقة لدستورية تجميد إتفاق جوبا وإضافة المواد الملائمة منه لتلك الوثيقة الدستورية. إن دعوتنا لتجميد إتفاق جوبا تستند على حقائق غير قابلة للمغالطة؛ من ضمنها عدم شموليته للحركات المعارضة الأخرى وهي الأكبر حجماً والأكثر تأثيراً، كما أن الإتفاق ضم قوىً في مسارات لا وجود لها أصلاً كمساري الوسط والشمال، إضافة لرفض القوى المؤثرة في الشرق لما أسماه صانعو الاتفاق بمسار الشرق. إن وقوف القوى الموقعة عليه مع الإنقلاب العسكري، يعتبر أصلاً خروجاً عن الوثيقة الدستورية التي استند عليها الإتفاق. لذا يمكن، كبديل للاتفاق، أن تتضمن الوثيقة الدستورية المقترحة بعض البنود الوجيهة فيه كموضوع الترتيبات الأمنية وتخصيص عدد معقول من مقاعد المجلس التشريعي لهم، كما سيرد أدناه.
* الواجب المُلِح الثاني، الذي نحتاج للاستعجال حوله والتركيز عليه، وبالتوازي مع إجراء التعديلات الدستورية المشار إليها أعلاه، هو الإتفاق على نسب التمثيل في المجلس التشريعي، الذي فشلنا لعامين، وفي ظروف أفضل من تلك التي نعيشها الآن، من تشكيله. على المستوى الشخصي، أقترح أن تمثل لجان المقاومة فيه بـ 50%، والأحزاب بـ 20%، وتجمع المهنييين ومنظمات المجتمع المدني بـ 15%، وتخصيص 15% للحركات الموقعة على إتفاق جوبا.
نسبة لإستحالة تحقيق إجماع لقوى الثورة، على ما إقترحناه أعلاه من معالجات بخصوص الواجبين العاجلين، أو على أي تصور آخر، نقترح على تنسيفيات المقاومة، أو المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، أيهما الأكثر جاهزية، تبني هذه المقترحات بعد إجراء ما هو مناسب من تعديلات بالطبع. ثم من بعد ذلك دفعها للآلية الرباعية، باعتبارها، أيّ الآلية، تمثل أفضل خيار لقيادة الحوار مع قوى الثورة المشتتة من جهة، و العسكر من جهة أخرى. إن مطلب الثورة في إبعاد العسكر عن إدارة المرحلة الإنتقالية، لا يتم “بالريموت كونترول” وإنما عبر الحوار غير المباشر كخيار. إنه، وحتى في الحروب التي تنشأ بين الدول، يجلس المهزوم مع المنتصر للإتفاق على الترتيبات التي يفرضها توازن القوى المحدد.
هناك حساسية غير مبررة، في تقديري، لدى كثير من قوى الثورة حول إشراك المجتمع الدولي في حلحلة الأزمة الراهنة، أو في الواقع لديها موقف من تدخله أصلاً. في رأيي أن ذلك الموقف ناتج عن رؤية مشحونة بحمولات أيديولوجية، أكثر منه موقفاً مبنياً على معطيات الواقع الراهن سواء على مستوى العالم أم على مستوى البلاد. إن قوى المجتمع الدولي المقصودة بالتدخل، خاصة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لها موقف إيجابي ومساند للغاية لثورة السودان، وحق الشعب السوداني في الحكم المدني الديمقراطي، والمؤشرات الدالة على مدى الإعجاب والإحترام الذي تكنَّ لشعبنا أكثر من أن نحتاج لذكره.
ندعو لهذا ولا يخالجنا شك في أن هذه الدول تضع مصالحها الوطنية في المقدمة، إلا أن ذلك لا ينفي سعيها لترسيخ قيمها في الديمقراطية، حيثما كان ذلك ممكناً. وفي هذا يمكن القول أن وجود نظام مدني ديمقراطي هو الخيار الأفضل لديها، كما أن الأفضل للسودان أن يكون شريكاً مستقبلياً لها بدون تعارض مع مصالحه الوطنية. أن موقف هذه القوى ضروري للغاية للضغط على الطغمة الحاكمة الآن، تلك الطغمة الساعية بكل ما لديها لتربط مصالح البلاد بالأنظمة المستبدة، والشرهة أكثر من غيرها، لإلتهام موارد بلادنا بأبخس الأثمان. إن الحكومة التي تسعى لها الثورة، وما ستخطته من برامج وسياسات، ومن خلفها شعبها بشارعه، هي الضامن لإستقلال البلاد السياسي والإقتصادي، فمسألة السيادة أو التبعية في يدنا نحن وليس في يد المجتمع الدولي المعني.
إن الإصرار على النظر لبريطانيا وأمريكا، بإعتبارها طامع في موارد بلادنا وسيادتها؛ أي بمعنى آخر التعامل معها كعدوٍّ لشعبنا وثورته، سيجبرها للتراجع عن مواقفها، وسيدفعها دفعاً في إتجاه تغليب مصالحها الوطنية، التي تتمثل في حالتنا، في إستقرار السودان، وما سيفترضه ذلك من غض طرف، متوقع، عن الإجراءات التي تقوم بها الطغمة الحاكمة وحلفاؤها.
تعج الساحة السياسية الآن بحراك كثيف لجمع كل قوى الثورة تحت مظلة أحد أو بعض المواثيق المطروحة. في تقديري أن هذا شيء إيجابي، لكنه يحتاج لزمن لجمع الأغلبية حوله، كما أنه يحتاج لمناخ معافى لانجازه. إنه، وباعتبار أن مهام المرحلة الإنتقالية محددة وواضحة كما أبِنَّا أعلاه، كما أنها محكومة بقيد زمني قصير؛ وبإعتبار هشاشة التكوينات السياسية والإجتماعية بالبلاد، مع الوضع في الإعتبار الأخطار الماثلة التي ربما تقود لنتائج لا يرغب أحد فيها؛ يصبح الواجب المقدم والهام للغاية هو إبعاد الطغمة الحاكمة وحلفائها حتى يتم إصلاح جهاز الدولة بشكل يُمكِّنه من توفير الأرضية اللازمة لتنفيذ مهام وبرامج التغيير المستقبلي المنشود. لهذا
ولغيره، نرى أن لا نربط مهمة إقرار الشكل الدستوري وتشكيل منظومة الحكم الإنتقالي، بقضية المواثيق.
في تقديري أن هناك خطأً استراتيجياً تقع فيه قوى الثورة، وعلى الأخص شباب المقاومة، وهو الإنشغال بالمواثيق بديلاً عن المبادرات الواضحة التي تستهدف تشكيل منظومة الحكم، والقواعد الدستورية المنظمة له. لا ننسى أن قوى الثورة تلكأت لمدة عامين في تنفيذ أهم استحقاقات الثورة التي تم الإتفاق حولها، وأقصد بهذا تكوين المجلس التشريعي. ولا ننسى أن الجيش قد وقَّع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية عقب ثورة أبريل 1985، ثم حدث ما حدث! كما يجب أن نضع نصب أعيننا دائماً القواعد الذهبية الدالة على أن تطويل الصراع كفيل باضعافه، وأن الطبيعة لا تعرف الفراغ! ليست هذه دعوة لتيئيس الناس من التفكير والاتفاق حول مستقبل البلاد، بقدر ما هي دعوة لإعطاء الأولوية لإبعاد العسكر وحلفائهم من المشهد السياسي، وإصلاح حال الدولة ليصبح ممكناً الإتفاق حول طريق تطور اقتصادي وإجتماعي تسير عليه بلادنا مستقبلاً.
دعونا نعمل مباشرة، وباتباع أسرع الطرق (fast track)، لحسم قضية الحكم الماثلة أمامنا التي تتمثل في وضع القواعد الدستورية للمرحلة الانتقالية والاتفاق حول هياكل الحكم من مجالس ووزارات ومفوضيات، في مقدمتها المجلس التشريعي. لو وصلنا لذلك، سوف يكون هنالك زمناً كافياً، ومناخاً أفضل، لجميع القوى السياسية لتتحاور حول مستقبل الوطن. كما سيتمكن شباب المقاومة من بناء تنظيماتهم وقدراتهم السياسية والمعرفية بشكل يسمح لهم بتحقيق ما يصبون إليه.
رسالة قصيرة لشباب المقاومة: مع إعتراف الجميع بما أنجزتموه، والأرواح الغالية التي قدمتموها ولا زلتم، بشجاعة قل نظيرها في التاريخ؛ إلا أن التاريخ يثبت لنا، ولأسباب ليس هنا مجال طرحها، أن جماهير الأحزاب التاريخية تُظهِر قوتها عند الإنتخابات، وليس من خلال الشارع. نقول هذا، لأن هناك من شباب المقاومة من يَعتقِد أن ضعف وجود هذه الأحزاب في الشارع، بالمقارنة مع شباب لجان المقاومة، ناتجاً عن ضعف شعبية هذه الأحزاب. لقد دفعت هذه الأحزاب أثماناً باهظة في معركتها التي بدأت مع نظام الجبهة الإسلامية منذ يومه الأول، ومهَّدت، بنضالاتها المتراكمة، الأرضية التي أنجحت ثورتكم المجيدة. لذا يصبح العداء لها مهدداً لكل ما شيدتموه من بنيان وما حملتموه من أحلام.
gamal.a.salih@gmail.com