انهارت مفاوضات جوبا مع الحركة الشعبية -والسبب دائما وابدا عقلية المركز الاستعلائية! … بقلم: عبد الغني بريش فيوف

 


 

 

كما كان متوقعا، انهارت يوم الثلاثاء 15 يونيو 2021م، جولة المفاوضات بين الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال، والحكومة الانتقالية، التي جرت في عاصمة دولة جنوب السودان جوبا -من 25 مارس الى 14 من يونيو الحالي، وذلك لتعنت الخرطوم وعدم استعدادها لمناقشة جذور الأزمة والتي دونها ستحاط السودان بالأزمات في الحاضر والمستقبل وللأبد.
وعلى إثر تعنت الخرطوم وتمسكها بموقفها السلبي تجاه الورقة الاطارية المقدمة من الحركة الشعبية، قررت الوساطة الجنوبية رفع جلسات التفاوض المباشرة بين الطرفين، وذلك لإجراء مزيد من المشاورات بشأن القضايا الخلافية بينهما.
وقال المستشار توت قلواك مستشار رئيس جمهورية جنوب السودان للشؤون الأمنية رئيس فريق الوساطة الجنوبية، في تصريح صحفي، إن الوساطة ستقوم بإجراء اتصالات بين وفدي الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية شمال لتقريب وجهات النظر، وذلك لتهيئة الظروف لانطلاقة جولة التفاوض القادمة.
وأضاف أن الوفدين توصلا لتفاهمات كبيرة بشأن القضايا الخلافية، مبيناً أنه لم يتبق سوى أربع نقاط من تسعة عشر نقطة كان يجري التفاوض حولها، موضحاً أنها قضايا بسيطة ومقدور عليها.
وأعرب عن أمله في أن تشهد جلسة التفاوض القادمة التوقيع على اتفاق السلام الشامل الذي يلبي كل طموحات أهل السودان.
عزيزي القارئ..
يقول الوسيط الجنوبي -توت قلواك، أن الوفدين توصلا لتفاهمات كبيرة بشأن القضايا الخلافية، مبيناً أنه لم يتبق سوى أربع نقاط من تسعة عشر نقطة كان يجري التفاوض حولها، موضحاً أنها قضايا بسيطة ومقدور عليها.
ما قاله توت قلواك من أنه لم يتبق سوى أربع نقاط من تسعة عشر نقطة كان يجري التفاوض حولها، انما كلام للاستهلاك السياسي، بل تضليل متعمد، لان إذا كان هذا الكلام صحيحا، لوقع الطرفان على الورقة الاطارية. لكن الحقيقة المرة هي أن الهوة بين الطرفين كبيرة ونقاط الخلاف بينهما كثيرة -منها:
1/ تسمية الإقليمين من قبل الحركة الشعبية (جبال النوبة، جنوب كردفان والفونج، النيل الأزرق)، بالإضافة لترسيم الحدود الذي ترفضه الحكومة.
2/ ترفض الحكومة -أي حديث عن (الإرادة الحرة – أو الوحدة الطوعية) باعتبارها تشير لحق تقرير المصير.
3/ الحركة الشعبية ترى ضرورة أن تكون السلطة القضائية لا مركزية، بينما تدفع الحكومة باتجاه أن تكون قومية (مركزية).

4/ الحكومة لا تريد أي حديث عن المشورة الشعبية لأنها ترتبط باستفتاء شعب جبال النوبة والفونج لتحديد مستقبلهم السياسي والإداري، خوفا من تكرار تجربة جنوب السودان في الانفصال.
5/ تؤيد الحركة الشعبية أن تكون طبيعة الحكم في السودان “علمانية”، وهو ما ترفضه الحكومة.
6/ تتمسك الحركة الشعبية في القطاع المصرفي بنظام تقليدي ليس له علاقة بالدين، بينما الحكومة مع نظام مزدوج (نافذة نظام إسلامي، ونافذة تقليدية).
7/ تتمسك الحركة الشعبية بإلغاء قانون الزكاة الحالي، وإبعاد الدولة عن كل ما له علاقة بالدين، لكن الحكومة موقفها أن يتم مراجعة قانون الزكاة.
8/ حول الفترة الانتقالية -ترى الحركة الشعبية أن يتم تقسيمها إلى فترتين بمهام واضحة، والحكومة من جانبها تتمسك بتأجيل النقاش حول هذه المسألة لاحقا في الملف السياسي.
9/ في الشق الأمني تقترح الحركة الشعبية دمج جميع القوات التي تحمل السلاح (دعم سريع، دفاع شعبي، أمن شعبي) في القوات المسلحة قبل دمج الجيش الشعبي مع القوات المسلحة.. بينما الحكومة السودانية تريد تنفيذ الترتيبات الأمنية أولا قبل إصلاح القطاع الأمني.
10/ طرحت الحركة الشعبية أن يكون نظام الحكم في السودان (رئاسي)، والحكومة ترى أن يترك ذلك للمؤتمر الدستوري.
تلك هي بعضا من النقاط المختلف عليها، ومعظمها نقاط جوهرية واساسية مما يعني ان العقلية التي تتفاوض اليوم في جوبا باسم الثورة، هي امتداد لذات العقلية التي تسببت في الحروب والصراعات وتريد الحفاظ على هذا الوضع القديم المأساوي للأبد.
انها العقلية الاستعلائية التي افشلت مفاوضات جوبا مع الحركة الشعبية -شمال. عقلية الوصايا التي لا ترى الأشياء إلا من خلال عيونها. عقل الوصي على السياسة والمسائل الأمنية والاستراتيجية وولخ، وعلى موارد البلاد الطبيعية، وعلى جميع الأمور التوافقية وغير التوافقية، ومسؤول عن تعيين الزعامات وولخ التي تحكم باسمه عن طريق الوصاية.
عقل استعلائي، يتدخل في ذاكرة المجتمع. وهو الذي يحدّد صاحب الخير والشرير، والصديق والعدوّ. كما حدد ويحدد مفهوم الوطن والمواطن. ويتدخل في علاقات المجتمع عن طريق الهُوية، ونجح في مسك خطوط التحكم في هذا المجتمع. عمل على محو كل ما يمت إلى الرفاهية والشرف والعدالة بصلة، كما عمل على تضليل المجتمع عن طريق وعوده الكاذبة بالاستقرار.
لنقف قليلا.. عزيزي القارئ، ونطرح هذه الأسئلة البريئة:
ما الذي يجعل الوفد الحكومي يرفض النظام العلماني إذا لم يرجع هذا الرفض للعقلية الاستعلائية التي يحملها هذا الوفد؟
كيف يريدون من الحركة الشعبية ان تقبل بدمج جيشها الشعبي في القوات المسلحة السودانية، بينما تعمل ميليشيات الدعم السريع (الجنجويد) خارج الجيش السوداني؟
لماذا الحكومة لا تريد أي حديث عن المشورة الشعبية لشعبي جبال النوبة والفونج لتحديد مستقبلهم السياسي والإداري وولخ؟
الأسئلة اعلاها، جاوبت عليها ثورة ديسمبر 2018م المجيدة بصراحة شديدة، عندما قالت، نعم للنظام العلماني في السودان، ونعم لهيكلة الجيوش والأجهزة النظامية، ونعم لحق الشعوب السودانية في تقرير مصيرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي -سيما شعب جبال النوبة والفونج.. لكن أصحاب العقلية الاستعلائية الاقصائية الذين لا يرون إلا بعين واحدة، ولا يفكرون إلا بلون واحد، ويعتقدون أنهم وحدهم المخولون بتدبير شؤون العباد في السودان وتقرير مصيرهم كيفما شاءوا، يرفضون ما تراه ثورة ديسمبر حلا للأزمات السودانية المزمنة وهو مناقشة جذور الأمة، الامر الذي أدى الى انهيار مفاوضات جوبا مع الحركة الشعبية.
أصحاب هذه العقلية الاستعلائية، لا يعرفون سوى الرياء والكذب والنفاق، ولو أنهم غابوا عن السودان لمّ شعر السودانيين بغيابهم (لو ماتوا جميعهم لن يندم أحد على ذلك).
نعم يجب الاستمرار والدعوة للسلام والتمسك به كاستراتيجية وطنية، لأنه مطلب انساني ولا يوجد سوداني واحد يقول بأنه لا يريد السلام، ولكن حتى يتحقق السلام بمفهومه الصحيح، يجب على المتفاوضين مناقشة جذور الأزمة السودانية، وإلا كانت مفاوضات عبثية ستؤدي الى انتصار العقلية الاستعلائية مرة أخرى.

bresh2@msn.com

 

آراء