اوراقي الافريقية رقم (7): الهضبة الإثيوبية والقرن الأفريقي من مطار اديس ابابا الى سودري 

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بالطبع ليست سودرينا التي رأيتها عام 1959 وكذلك أم بادر صحبة والدي عليه رحمة الله .. مررنا بالمزروب وام كريدم وغطينا جزءاً غير قليل من شمال غرب كردفان الغراء أم خيراً جوه و بره .. الان احلم بالعودة إليها  وحتى ذلك الحين اترنم واقول الليلة والليلة دار أم بادر يا حليلها ..

هذه سودري أخرى مختلفة خالص .. لن انساها بالرغم من مرور السنين والعقود ففيها أمضيت ليلتي الاولى في اثيوبيا وذلك داخل خيمة ! نعم خيمة صغيرة نصبها الاخ الصديق وزميل الدراسة عبدالرحيم درار على حافة حوض السباحة في فندق سياحي جميل كان ممتلئاً بالنزلاء ..الطائرة السودانية التي أتت بي من نيروبي في نهاية رحلتي الاولى لوسط وشرق إفريقيا ( الكونغو وأوغندا  وكينيا وتنزانيا وزنزبار ) كانت تقدم خدمة جيدة ومنضبطة .. لذلك كان مطار اديس ابابا ممتلئاً بركابها المغادرين للخرطوم وعواصم اخرى بعدها .. كان عدد كبير يودعون ممثل الشركة الذي كان يبدو عليه الحزن وهو يغادر أديس ابابا اذ كانت الدموع تطفر من عينيه بينما بديله الذي كان قد وصل ( على مايبدو ) قبل أيام قلائل تتوهج اساريره  فرحاً .. و احتفالا بهذا القادم الجديد قرر الاديسيون امضاء الويك اند في ذلك المنتجع وكان من حظي ان اخذوني معهم بشنطتي الى خارج المدينة .. وحقيقة الى ادنى سفح الجبل الذي تقوم عليه اديس على ارتفاع سبعة آلاف قدم ( الفي متر) .. حيث ترقد سودري الدافئه المنعشة .. يا لها من مكان .. الناس في حالة ابتهاج وطرب مع خدمات فندقية حتى لأولئك الذين  نصبوا بعض الخيام قرب حوض السباحة .. الاثيوبيون يرقصون على الالحان السودانية التي يعطونها بعداً اضافياً يزيدها جمالاً .. وفي الأندية الليلية التي تزخر بها  بلادهم وخاصة عاصمتهم اديس ابابا - وترجمتها الزهرة الجديدة - ما ان يدخل المكان سودانيون زواراً كانوا أم مقيمين الا  ويستبدلون موسيقاهم واغانيهم باغاني سودانية لأي من عشرات فنانينا العظام تكريماً لوفادتهم .. وبالذات الحان سيد خليفه واحمد المصطفى ثم وردي .. عندما اصطحب نميري معه مطلع السبعينات البلابل خرجت أديس أبابا عن بكرة أبيها بأكثر من مليوني (2 مليون )شخص يرقصون ويجرون خلف موكبهم الذي جاب المدينة يرددون مقاطع من اغنياتهم ..

 ولكن  لكي لا نظلم آخرين نالوا مثل هذا التكريم نذكر ما قرأناه في الأخبار وتأكدنا من حقيقته هو أن ثنائينا العظيم .. عائشة الفلاتية وعبد العزيز محمد داؤود عندما شاركا في احتفالات نيجيريا بالاستقلال في  أكتوبر 1960 اطربوا مدينة كانو و شمال نيجيريا بأكملها اياماً وايام فخرجت الملايين تتابعهم اينما  حلوا ( ونيجيريا لمن لايعرف هي أكثر بلاد أفريقيا سكاناً .. كانت ومازالت (200 مليون حالياً).. تأتي بعدها اثيوبيا ب 115مليون ثم مصر 105 تلاحقها الكونغو كينشاسا بنحو تسعين مليون )  .. أما محمد وردي فقد حكيت لكم في كتابي كيف دلني على الطريق وانا تائه في منتصف الليل بين قاروا  و مروا شمال الكاميرون عام 1982 وعندما قابلته آخر مرة في منتصف التسعينات في العاصمة القطرية الدوحة حكى لي كيف أنه وفرقته الموسيقية الذين لبوا دعوة من الرئيس أحمدو أهيجو في حفل زواج ابنتيه كانوا محاصرين لمدة أسبوع كامل في الفندق بالمعجبين والمعجبات ينتظرون منه طلة ليرموه بقطع من الذهب مختلف الاشكال والاحجام ..

كانت تلك زيارتي الأولى للجارة الهامة إثيوبيا وبالطبع ليس في ذلك معرفة كبيرة بالبلاد وأهلها لذلك قررت العودة وانتظرت فحانت الفرصة في مطلع عام 1972 عندما رافقت الدكتور منصور خالد وزير الخارجية لأول اجتماع لمجلس الأمن الدولي ينعقد بالقارة الإفريقية استضافته أديس أبابا في الأيام الأخيرة من يناير والأوائل من فبراير تحت رئاسة السودان الذي دخل آنذاك المجلس للأول(وآخر) مرة في تاريخه المديد بإذن الله ..

 (الاخ درار دنقلاوي دمث الأخلاق حلو المعشرلا تمل منه ابداً كان خبيراً اقتصادياً لدى منظمة الوحدة الإفريقية ( التي أصبحت فيما بعد الاتحاد الافريقي)  .. عمل مندوباً لها  في نيويورك نحو عشرة أعوام وبعد المعاش رجع لأديس أبابا واستقر مع أسرته إلى أن وافته المنية في حادث أليم في انفجار مصنع يملكه ابنه عليهما رحمة الله )


اسمرا - اديس ابابا

كان لوجود صديقي العزيز إبراهيم أيوب في اسمرا كقنصل عام للسودان ما شجعني على زيارة إريتريا التي كانت وقتها عام 1972 جزءً من اثيوبيا الامبراطورية ولذلك كانت القنصلية نفسها ملحقة بالسفارة في أديس أبابا  بالرغم من انها اقدم - كتمثيل  سوداني في الخارج - من  السفارة ذاتها.. أمضيت مع الاخ ابر اهيم يومين سافرنا بعدها سوياً إلى مصوع فانتقلنا بذلك من طقس بارد جاف الى آخر حار ورطب للغاية .. وكان الطريق مخيفاً في بعض نواحيه فمن اسمرا المرتفعة والتي تشبه المدن الايطاليه الى مصوع الواقعة على البحر الأحمر والتي تشبه بمبانيها البيضاء ذات الاقواس مدينة جده القديمه والحديده اليمينية - ترتفع درجة الحرارة بشكل حاد حتى لتحس انك في حمام بخار وقد استمتعنا بالوضعين وبعد ذلك هيئات نفسي لرحلة أطول وأكثر رعباً داخل الهضبة الإثيوبية منبع النيل الأزرق وضمن آخرين ، موطن اليهود الفلاشا ..

عندما ودعني الاخوة في محطة الباصات كان من الواضح انهم يخشون عليّ من المغامرة اذ لم يحدث ان راوا شخصاً يعرفونه يسافر على الباصات الى اديس ابابا التي تبعد أربعة أيام كاملة .  والحمد لله قد جرى كل شيء كما هو مقرر. فالباص الأول وكذلك الباصات اللاحقة - من طراز فيات الايطالية متوسطة الحجم اخذني من اسمرا حتى اكسوم المدينة التاريخية التي يمكنك ان ترى فيها عدداً من المسلات الحجرية الضخمة بعضها لازال واقفاً عمودياً والغالبية ممددة على الأرض .. بينما أحدها  أخذه الايطاليون الى روما حيث احتل قرب منظمة الأغذية والزراعة ( F A O ) الفاو مكاناً بارزاً وبقي هناك عشرات السنين حتى استعادته الحكومة الاثيوبية مؤخراً. قبل ذلك قرب الحدود بين اريتريا واثيوبيا يمر المسافرون بأرض موقعة عدوة (1896) التي تمكن فيها أهل البلاد بقيادة الامبراطور منليك الثاني من صد العدوان الايطالي ودحرهم فلم يجدوا فرصة للعودة واحتلال اثيوبيا الا بعد ذلك بأربعين عاماً خلال حكم موسوليني وهو احتلال دام سبع سنوات فقط  فكان الأقصر في كل أفريقيا ..

بعد ليله في في فندق  صغير في اكسوم التى صادف وجودي بها الاحتفال بعيد المسكال ( عيد مسيحي كبير يدور في الساحات والشوارع )واصلت رحلتي بباص مماثل للأول اخذني حتى قوندر .. جبال شاهقة و متعرجات مخيفة لايكترث لها الاثيوبيون كثيراً .. فبعضهم يستغرق في نوم عميق وقليل منهم يقرأ او يتصفح كتاباً .. اعتقد ان اغلبهم من فقراء البلاد الذين لايقرأون اصلاً .. كنت انظر في صمت الى الهاوية السحيقة التي تحيط بنا من كل جانب وتذكرت ما كتبه أحد مهندسي المساحة البريطانيين عن الهضبة التي كان قد سمع انها كالطاولة (Table land) فوجدها كما قال طاولة مقلوبه ارجلها ترتفع للسماء  وكنت صامتاً بسبب عدم تصديق الإثيوبيين انني لست منهم - وكنت بالفعل أشبههم كثيراً ولكن مشكلتهم - وحتى الآن انهم يظنون انهم الوحيدون بهذا الشكل على هذه البسيطة وكانوا يستغربون بل ويغضبون ان حدثتهم بلغة غير لغتهم ( موظف مكتب البريد في أديس أبابا رفض أن يبيعني  طوابع بريدية ظناً منه أنني "متفلهم" كوني تحدثت معه بالانجليزية ولكنه عاد واعتذر عندما اريته البطاقات المكتوبة بالعربية وكنت اود إرسالها للسودان .. وفي مطار اديس ابابا ونحن في معية الرئيس نميري والإمبراطور هيلاسلاسي نستعد للسفر الى مقديشو عام ( 1973) اوقفني رجال الأمن ظناً انني اثيوبي تسللت وسط الوفد السوداني .. ولماذا نبتعد عن الإمبراطور نفسه الذي وجد ضابط شرطة سوداني شبيهاً لابنه الفقيد دوق هرر فقربه منه وكاد أن يتبناه لو كان لذلك سبيلاً..

عند الوصول الى قوندر جاء سائح اوروبي من الدنمارك وركب معنا فكان ان استعنت به كناطق رسمي .. نذهب للفندق او للمطعم فيقوم هو بالحديث وطلب الأكل .. استأجرنا تاكسي لزيارة قرية الفلاشا المكونة من عدد من القطاطي ليس فيها مايميزها او اهلها غير نجمة داوؤد اعلى " تكل "  ( كنا في كثير من مدن السودان نستعمل هذه الكلمة للقطيه المقامة  من القش وتستعمل عادة  كمطبح ) تحدثت مع رجل دين وأخذت معه صورة .. لم يكن في ذلك الوقت أي حديث عن شعب الفلاشا أو أي اضطهاد لهم على نحو ما روج له الإعلام الصهيوني لينزعهم من ارضهم وارض اجدادهم وينقلهم وللاسف بتواطؤ جعفر نميري ونظامه الى بلد بعيد ليس لهم به صلة اُخلي من أهله الفلسطينيين ليقيموا هم فيه كمواطنين من الدرجة الثالثة - خلف اليهود الغربيين ثم الشرقيين .. لم أكن قد سمعت بهؤلاء الفلاشا إلا عند مجيئي لارتريا وعندما علمت انهم يقيمون قرب قندر . أي في طريق رحلتي .. قررت ان ازورهم واري من هم وقد  وجدتهم مثل غيرهم من الشعوب الإثيوبية .. نفس الملامح  والشكل ونفس اللغة والاكل والملابس.. نفس الفقر والبؤس الذي يغطي  الهضبة الإثيوبية .. كان أكثر شيء مزعج هو الذباب .اذ لم ارى في حياتي - ذباباً  بهذه الكثافة .. كان علينا  شراء ذيل فرس أو ربطة اعواد طرية نهزها دون توقف امام اعيننا والا فإن الذباب لا يتركك لحظة .. رايت اطفالا رضعاً لا حول لهم ولا قوة عيونهم  مرتعاً للذباب لدرجة عدم قدرتهم على فتحها ..

أقرب شيء لذلك كانت صلاة الجمعة في مسجد بورتسودان الثانوية أواخر عام 1990م إذ هجم علينا الذباب ونحن وقوف والإمام يقرأ فلا نملك غير ان نغلق عيوننا وافواهنا فحتى مراوح السقف التى فوق رؤوسنا بأقل من متر واحد ( كنا في البرندة الملاصقة لمبنى المسجد) وهي تعمل بأقصى طاقتها لم تستطع ان تزحزح عنا هذا الذباب . عدت الى بورتسودان عدة مرات بعد ذلك فلم نجد الحال أفضل بكثير بالرغم من تحسن قليل في الإضاءة على الكورنيش .. ويحزنك أن تتذكر بورتسودان التي زرتها أول مرة عام 1959( مع شقيقي الأكبر الفاضل عبدالرحمن) كيف صارت بعد خمسين عاماً..

في قوندر شاهدنا قلعة قديمة شيدها البرتغاليون في القرن الرابع عشر ثم جاءت الرحله الثالثة من قندر الى بحر دار عند منبع النيل الأزرق في بحيرة تانا .. وشلالات تسيسات .. هنا يسمون النيل ابأي الكبير .. هي شلالات ليست بحجم شلالات اخرى سبق لي رؤيتها مثل شلالات فيكتوريا على الحدود بين زامبيا وزمبابوي أو أخرى زرتها في سنوات لاحقة كشلالات نياغرا بين كندا والولايات المتحدة  إلا أنها هادرة بقوة مماثلة والاقتراب منها صعب ويشكل خطورة ولكن بحيرة تانا نفسها  تبدو هادئه بشكل غريب تحيط بها جبال خضراء تذكرك بالريف السويسري تحت جبال الألب الشرقية مع الفارق بعد ذلك في كل شيء..

هنا كنت قد تعبت من الرحلة فقررت السفر بالطائره الى اديس ابابا خاصة وانها لاتكلف كثيراً .. كان بودي زيارة لاليبيلا الواقعة وسط إثيوبيا ومشاهدة كنيسة قديمة محفورة - وليست مبنية - داخل الصخر هي أحد عجائب العمارة القديمة إلا أن الطرق كانت مقفوله بسبب موسم الأمطار..


ممبسة دار السلام

في إطار جولتي الاول الخاصة - غير الرسمية - في إفريقيا قررت زيارة بلاد شرق أفريقيا - أوغندا وكينيا وتنجانيقا وكانت ترتبط ثلاثتها بوحدة اقتصادية  تمثلت في عدد من الهياكل والمؤسسات المشتركة - كسكك حديد وخطوط طيران شرق أفريقيا هذا علاوة على عملة نقدية واحدة و لغة متداولة..

بعد أن غادرت كمبالا بالقطار الى نيروبي ( وكان في وداعي بالمحطة الاخوة المشير لاحقاً - عبد الرحمن سوار الدهب وسليمان الدرديري السكرتير الثالث آنذاك بالسفارة  عليهما رحمة الله ) أمضيت يومين في العاصمة الكينية ثم واصلت براً بسيارات البيجو الى ممبسة ومنها بالباص الى دار السلام في رحلة طويلة ومثيرة ..كان القطار نظيفاً وراقياً فعربة النوم والأكل تشابه المستويات الأوروبية ومناظر الجبال تذكرك بسويسرا. كذلك كانت نيروبي نظيفة ومنظمة وكان الساخرون يسمونها لندن افريقيا التى يسكنها كثير من الأوروبيين والآسيويين وافارقة اقل عدداً من الموجودين في لندن الاصلية .. من طقسها البارد هبطنا بتاكسي( طراحه ) الى ممبسة الدافئة الواقعة على ساحل المحيط الهندي الشهير بشواطئه الساحرة التي لم ازرها بسبب محدودية ميزانيتي واكتفيت برؤية بعض الصور التى تباع وترسل بالبريد ..

في نيروبي التقيت صدفة بالاخ الزين على ابراهيم وعروسه وكان برنامجهما يطابق بعضاً من برنامجي أي زيارة ممبسة ودار السلام فكان ان سافرنا سوياً الى المدينتين كنت اعرف الزين معرفة خفيفة اذ انه يسبقني في الدراسة بمرحلةً كاملة لكنه كإداري في جامعة الخرطوم خلال دراستي بها كان نشطاً معنا في جمعيتنا المسماة منظمة الخدمات الجامعية العالمية (WUS) وشارك معنا في معسكرات العمل التي أقمناها وخاصة الذي شيدنا فيه بيتاً للشباب وقد كانت رفقةً ممتعة مضى الجزء الأول منها بسهولة فعربات التاكسي البيجو التابعة لشركة الرفت فالي (Rift Valley) أو الأخدود العظيم تسير بانتظام على طريق مرصوف ومريح لاتستغرق غير ساعات قلائل أما عندما ركبنا الباص لدار السلام فقد كان شيئاً مختلفاً وبالرغم من أننا جلسنا في الدرجة الاولى منه - وهي لا تختلف عن الدرجة الثانية في شئ غير انها خلف السائق مباشرة أما الدرجة الثانية الارخص ثمناً فيشغل ركابها النصف الخلفي من الباص الذي كان متوسط الحجم . كانت الرحلة متعبة لأكثر من سبب فالطريق غير معبد وزادت من سوء الاحوال الجوية والامطار  التى جعلته بحيرة من الوحل انغرست فيها العجلات وهي تدور بلا فائده نزلنا أكثر من مرة ليتمكن السائق وحده من عبور المخاضة وكان يحتاج من آن لآخر لدفعه من كل الركاب بما فيهم العروس وتكرر الموقف أكثر من مرة حتى أصبح المشي على الاقدام على الطين أكثر من الجلوس في الحافلة وعبرنا الحدود بين البلدين في وقت متأخر من الليل .. وكانت تلك اول مرة تطأ فيها قدماي أرض تنزانيا بلاد المعلم " نايريري" وكان بالفعل دخولاً بالأقدام ثم واصلنا الرحلة بالباص حتى جئنا مدينة تانقا وكان الوقت حوالي الرابعة صباحاً من يوم الأحد الأول من شهر يونيو 1969 ( يصادف عيد ميلادي السابع والعشرين) فشاهدنا ما لم نكن نتوقعه توقف الباص ونزل الجميع لراحة قصيرة وكوب من الشاي او القهوة مع قليل من الطعام ومحاولة الاغتسال من الطين والأوساخ التي علقت بنا  فوجدنا المكان يعج بالناس .. كانوا قد خرجوا لتوهم من حانات الشراب وصالات الرقص يترنحون يمنة ويسرى  وبعضهم لازال ممسكاً بزجاجة خمر أو اثنتين والموسيقى الصاخبة لازالت تصدح ورائحة البشر والخمر في هذا الجو الرطب لا تحتمل ولكننا تناولنا شاياً جيداً بالحليب وتفرجنا على  هذا الذي يدور  وكان بالنسبة لي محبطاً فقد كنت أقرأ وأسمع عن تنزانيا وزعيمها ما جعلني أكاد لا اصدق انني فيها الآن الرجل هادئ ورزين ويضع على رأسه طاقية متواضعة تجعله يبدو كشيوخ الدين الإسلامي (ايام زمان) لذا طغت على ذهني صورة الزهد والطهر على كل البلاد وشعبها وبالطبع قررت انني مازلت في أول الطريق ويجب ان لا اظلمهم  فليس من العدل ان يكونوا جميعاً على شاكلة معلمهم .. وما إن عدنا للباص لمواصلة الرحلة لدار السلام إلا وجدنا  اولئك السكارى من رجال ونساء قد احتلوه ورفضوا النزول ودارت مفاوضات بين السائق وآخرين من الركاب مع المحتلين ولكنهم رفضوا التزحزح وتسببوا في مزيد من التأخير لرحلتنا ثم دارت معركة بالأيدي والطين الذي قذفوا به على شبابيك البص بعد ان نجح في التحرك و الخلاص من قبضتهم .. كنا ثلاثتنا الأجانب الوحيدين اوغير الناطقين بالسواحلية  فلم نشارك في الحوار والنقاش كما ابتعدنا عن التدافع بالأيدي  وكفانا المجهود الذي بذلناه في دفع البص مسافات ومسافات مع الخواضة في الطين ولكن عندما اشتد العراك بين الركاب قامت سيدة كانت تجلس بالقرب مني بوضع رضيعها في حجري - دون مشورة طبعاً وذهبت لتشارك في المعركة وهكذا وجدت نفسي احمل طفلاً رضيعاً عارياً من اي قطعة قماش فكان نصيبي منه ما كان مساهمة بسيطة في معركة إخلاء البص من المحتلين ..

وصلنا دار السلام بعد ثمانية عشر ساعة بتأخير يقارب نصف تلك المدة ولكن رجوعي منها كان مختلفاً  فقد طرت بخطوط طيران شرق افريقيا الى جزيرة زنجبار ثم عدت الى كينيا وواصلت بالخطوط الجوية السودانية الى أديس أبابا  ومنها الخرطوم ..

ايام جميلة أمضيتها في ضيافة الاخ عمر شونة  ( السكرتير الثاني في السفارة ) تعرفت خلالها على السيد محمد عثمان العوض القائم بالأعمال آنذاك كما زرت مقر حركة فريليمو لتحرير موزمبيق وتحدثت إليهم عن الأوضاع في السودان .. بعد ان استاذنت  الاخ محمد عثمان العوض في ذلك.. كما تعرفت على الدكتور حمد النيل ممثل هيئة الصحة العالمية وأسرته الكريمة وكذلك على الأستاذ الكبير عزمي سمارة وأسرته (مواطن مدينة الأبيض الذي ذهب لاثيوبيا خلال الحرب العالمية و عمل بالتعليم والترجمة ثم استقر هناك)..

وكل ما تخطر الذكريات بذهني أتذكر بالخير الاخوه عمر شونة والاخ محمد عثمان العوض  والاخ الزين على إبراهيم  والأخ حمد النيل الذين انتقلوا إلى رحمة مولاهم   واسأل الله لهم الرحمة والمغفرة ..


اوراقي الافريقيه القادمه

مع جعفر نميري في مقديشو  ومع الاخ ابوحريرة في طائرة  زوجة الديكتاتور منقستو


farhmaneisa@gmail.com

 

آراء