بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (11)

 


 

 





shurkiano@yahoo.co.uk



دستور السُّودان القادم (الدائم).. لكن أي دستور نريد؟

منذ نشوء الدول وتحوُّل المجتمعات من حال الطبيعة إلى الدولة-الأمة (Nation-state) أو الدولة-المدينة (City-state) كان البحث عن منظومة سياسيَّة تنظِّم علاقة الدولة بالشَّعب الشغل الشاغل في أذهان كثرٍ من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة، وذلك لبناء نظام إدارة فعَّال، وسن تشريعات لخدمة مصالح الشعوب العامة.  وكانت هذه المصالح العامة ذات أهمية قصوى، بحيث دعت الضرورة الحتميَّة إلى أن تتجه نحو الرغائب المشتركة، وبعيداً عن الممارسات اللاأخلاقيَّة وقصر النظر.  وفي هذا الإطار يُعد جون لوك (1632-1704م) أحد المنظِّرين السياسيين المشاهير في العالم الأنغلو-أمريكي ليس بسبب وضاءة فكره أو بصمته المنحوتة على أحداث العالم فحسب، بل لأنَّ معظم أفكاره قد استعيرت كنماذج بواسطة الآباء المؤسسين لدستور الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.  ومثل منافسه العظيم توماس هوبز (1588-1679م)، كان لوك يكتب على خلفيَّة الحرب الأهليَّة الإنكليزيَّة (1642-1651م)، وقد كانت لعلاقاته السياسيَّة أثراً في تطوير نظريته السياسيَّة، والتي جاء منهجه على الجدال حول الإنسان في حال الطبيعة وفكرة العقد الاجتماعي لكي يخرج من هذه الحال إلى المجتمع المدني.
وكما أبنا آنفاً، كان الهدف الأساس في نظرياته هو وضع مسودة لمنظومة سياسيَّة فيها يكون دور الحكومة محدوداً جداً، وتكون عرضة للضبط والتحكم، حتى إذا اضطرَّت الحال إلغاءها بواسطة المواطنين، وبخاصة إذا تجاوزت الحكومة الأشراط الموصوفة والموضوعة لها بدقة متناهية.  ومثل الفيلسوف الفرنسي جان-جاك روسو (1712-1778م)، جادل لوك بأنَّ السيادة للشعب، وليست للملك، وتحوز الحكومات على السلطة فقط لأنَّ المواطنين قد ارتضوا بالاحتكام إليها لتحقيق مصالح محدَّدة.  وإنَّ الحوجة العظيمة إلى حماية الحقوق الطبيعيَّة لهي السبب الرئيس للموافقة على هجر الحريَّة الكاملة في حال الطبيعة والاتجاه نحو عضويَّة الدولة، حيث يُضاع بعض الحريَّات، ومن ثمَّ تُمنح السلطة للدولة.
وفي الوقت نفسه، وخوفاً من تزايد نفوذ السلطة التنفيذيَّة، أصرَّ لوك على فصل السلطات التشريعيَّة (ممثلة في سيادة الشَّعب) والتنفيذيَّة.  وبرغم من أنَّ نظريته – في نتيجتها النهائيَّة – هي تضامم كثرٍ من القيم الليبراليَّة الحديثة، لم يكن لوك نفسه ديمقراطيَّاً ولا داعية المساواة.  وفي الحق، فإنَّ القيمة الرائسة التي كان لوك يرغب أن تحميها المنظومة السياسيَّة لهي حق الملكيَّة الخاصة، والذي دافع عنه بمنطق ديني بارع.  وقد يصل حق التملك هذا حداً بعيداً عن المنطق والعقل.  ففي سبيل الدعوة إلى ممارسة هذا الحق الدستوري نادت ولاية أيوا الأمريكيَّة حديثاً بمنح العمي تصاريح لاقتناء السِّلاح الناري، لأنَّ رفض الولاية السماح للمواطنين المعاقين بممارسة هذا الحق لسوف يسلبهم حقوقهم الإنسانيَّة، برغم من أنَّ الأعشى قد لا يفرِّق بين الهدف واللاهدف في حال انتوائه استخدام السِّلاح، مما قد ينجم عنه تفاقم العنف في المجتمع.
مهما يكن من شيء، فقد صرَّح لوك دون مواربة في أحد مؤلفاته أنَّه لم يتوقَّع أن يلعب الدَّهماء دوراً في إدارة دولاب الدولة، وكان اعتماده الشهير على الموافقة الحرَّة من قبل المواطنين قد جعله يبدو أقل ليبراليَّة مما كان يتصوَّره الناس.  ولكن الموقف اليساري الذي تبناه لوك في ذلك الرَّدح من الزمان كان من اليسر يسراً النظر إليه بأنَّه دعم فكري لنهوض البرجوازيَّة، وكان دفاعه لشكل الحكومة وأفكاره في الممتلكات، وبخاصة ولعه بتطوير سياسة عدم التدخُّل الحكومي في الشؤون الاقتصاديَّة إلا بمقدار ما يكون ذلك التدخُّل ضروريَّاً لصيانة الأمن وحقوق الملكيَّة الشخصيَّة (Laissez-faire economics)، ما هو إلا تأكيداً لبرجزة الرَّجل.  ولا يغيب عن بال كل ذي لب كيف أُعجِب صنَّاع الدستور الأمريكي بهذه الأفكار، وحقوق التملُّك الشخصي، بما فيه امتلاك البشر (الرقيق)، وبناء الدولة أو نشأتها على المعايير التجاريَّة ومعاملات السوق الحرَّة في الولايات الشماليَّة، وتسخير العبيد كأيدي عاملة في المزارع والبيوت في الولايات الجنوبيَّة.
أما توماس هوبز، الذي كان فاقد الثقة في الطبيعة الإنسانيَّة، فكان يقول: "كل البشر – إذا تُركوا لوحدهم – فإنَّهم لمفترسون وجشعون وقساة، ويتخوَّفون من بعضهم بعضاً."  ومن ثمَّ كان يرى أنَّ الدولة القاسية والحاسمة ذات سلطة سياديَّة عليا هي التي تستطيع أن تضبط سلوك الناس، وتسمح بتطوير الحياة وتحضُّرها.  هذا، بالطبع، دعوة إلى الديكتاتوريَّة والطاغوتيَّة في الحكم، وبخاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنَّ هوبز كان يدبلج نظريته السياسيَّة في عقابيل الحرب الأهليَّة الإنكليزيَّة، وكان مهتماً في أشد ما يكون الاهتمام بإزاحة أيَّة سلطة سياسيَّة منافسة.  ففي نظريته لم تكن هناك قوانين وأحكام لتنظيم ما يمكن أن تفعله السلطة السياديَّة للمواطن، لأنَّ في حال وجود تلك القوانين يكون الأمر واجباً مطلقاً على السلطات أن تقوم بتنفيذها، وفي حال وجودها كذلك سوف تنشأ معضلة أخرى وهي من المؤهَّل في تعريف التجاوزات المزعومة.  فإذا كانت المحكمة هي المؤسسة المنوطة بالقيام بهذا الدور التعريفي فهذا – بالطبع والطبيعة – يخلق سلطة منافسة.  وفوق ذلك كان يصر هوبز على أنَّ السلطة السياديَّة لها الحق في الحكم بناءاً على الحقيقة الدينيَّة، لأنَّه عند السماح للكنيسة بهذا الحق لسوف يخلق منها تحدِّيات للسلطة.  برغم مما أنتج من الأفكار السياسيَّة إلا أنَّ هوبز ظلَّ شخصيَّة جدليَّة، وأربك كثراً من الناس وظلَّوا محتارين في أمرهم فيما كان يدعو له الرَّجل تحديداً، وما مقولته بأنَّ الناس يمكن أن يصيروا أخلاقيين في الظروف الصحيحة إلا أكثر جدلاً.
أما النبيل الفرنسي مونتيسكيو (1689-1755م) ونظيره الإيطالي نيقولو مَكْيافلِّي (1469-1527م)، الذي قال بأنَّ الوسائل كلها مبرِّرة من أجل تحقيق السلطان السياسي، فيعتبران من الآباء المؤسسين للعلوم السياسيَّة الحديثة.  ففي كتابه "روح القوانين" (1748م)، حاول مونتيسكيو أن يقدِّم تفسيراً ثقافيَّاً وبيئيَّاً لشرعيَّة أنماط الحكم المختلفة من زوايا متعدِّدة.  وكان يرى أنَّ للمناخ والموقع الجغرافي والتأريخ نفوذاً عظيماً على طبيعة العلاقات الاجتماعيَّة، ومن ثمَّ على الروابط السياسيَّة.  بيد أنَّ نظريته الدستوريَّة تظل هي الأكثر أهميَّة بأثر رجعي.  فهو – مع لوك – قد طوَّرا مفهوم فصل السلطات التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة، وذلك لكي تعمل هذه الأجهزة الحكوميَّة مستقلة عن بعضها بعضاً، وتملك صلاحيات التدقيق والضبط لمراقبة أفعال الأخرى.  هكذا كان يرى مونتيسكيو أنَّ هذا الفصل بين المؤسسات الحكوميَّة يمثِّل الرغبة الدستوريَّة الأساسيَّة إذا كان بوسعنا الاحتفاظ بالحريَّة ضد تسلط الحكومات الديكتاتوريَّة، ووجد هذا النهج تعبيراً شهيراً في دستور الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
أما جان-جاك روسو فإليه يعود الفضل في الثورة الفرنسيَّة (1789م) بعد موته، وهو الملهم الأساس لحركة ديمقراطيَّة المشاركة (Participatory democracy) أو الديمقراطيَّة المباشرة.  ومع غزارة أعماله إلا أنَّ أعظم ما عُرِف به هو العقد الاجتماعي.  وفي هذا العقد جادل روسو في أوسع ما يكون الجدال بأنَّ الديمقراطيَّة ممكنة فقط، وقابلة لضمان الحريَّة حينما يعيش الناس في مجتمعات صغيرة وجهاً لوجه، حيث يستطيع كل المواطنين الالتحام مع بعضهم بعضاً لإقرار القوانين في شكل من أشكال جمعيَّة المشاركة (Participatory assembly).  وبالنسبة لروسو فإنَّ الديمقراطيَّة النيابيَّة كما تُمارس دوماً في الغرب لا تغني من الأمر شيئاً، لأنَّها تجعل المواطنين أحراراً فقط لبضع دقائق كل عدة سنوات في لحظة ذهابهم إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم.  وكان يصر روسو على أنَّ الحريَّة تتطلَّب الخضوع فقط إلى القوانين التي يرتضيها الشخص.  ومن هنا جاء مفومه عن الرغبة العامة (General will).  فما هي الرغبة العامة التي تنادى بها روسو في القرن الثامن عشر من الميلاد؟  إنَّها لتعني القصد المشترك أو الجمعي الذي يأتي حين يجتمع كل المجتمع، متجاهلين رغباتهم الخاصة ويصوِّتون إلى ما يحسُّون بأنَّه يصبُّ في المصلحة العامة.  أو بعبارة أخرى، فإنَّ الرغبة العامة عند روسو لتعني القرار الجمعي لكل الناس في الدولة، وذلك حين يتداولون الآراء في أمر مفيد لكل المجتمع، وليس ما يرغبونه كأفراد.  هذا فقد ميَّز روسو بين الرغبة العامة من جهة، ورغبة الجميع أو الكل (The will of all) من جهة أخرى.  وإذا كانت الأولى تعني كما شرحناها لكم الشَّرح إيَّاه، فإنَّ روسو قصد بالثانية تجمع الرغبات الفرديَّة لأفراد ذوي مناحٍ أنانيَّة لتشكل رغبتهم كلهم أجمعين أكتعين.  وإنَّ فكرة الرغبة العامة في الأساس لهي أخلاقيَّة إلى حد كبير، وإنَّها تطبيق لمبدأ المنهاج الأخلاقي في السلوك السياسي.  وأخلاقيَّاً إنَّه بمثابة مفهوم العقلانيَّة الأخلاقيَّة الذي تنادى به الفيلسوف الألماني عمانوئيل كَنْت (1724-1804م).  ذلك هو روسو، الذي جاءت معارضة غيره له لأنَّه كان ينشد المساواة، وكان له إيمان عميق بالتجمعات الجماهيريَّة والنفوذ الحشدوي، الذي كان يهدِّد الفرديَّة الليبراليَّة في ذلك العصر من الزمان.  فبرغم من أنَّ روسو قد فشل في إيجاد الحلول لكثرٍ من مشكلاته – أو لنقل بالأحرى – مشكلات المجتمع يومئذٍ، إلا أنَّ اقترابه لها استقرَّ على إيمانه الثابت بثلاث قضايا: أساسيَّة الحريَّة الإنسانيَّة، والميل الطبيعي للإنسان نحو الخير، وأهميَّة وضع المؤسسات السياسيَّة على السيادة الديمقراطيَّة كوسيلة للتعبير عن الرغبة العامة.
هذه هي الخلفيَّة الفلسفيَّة والتأريخيَّة التي منها نشأت الحكومات الغربيَّة الحديثة، فأخذ مؤسسو الأنظمة الحكوميَّة من هذه الأفكار والرؤى الفلسفيَّة، وتركوا أجزاءاً مما لا تناسب أوضاعهم الاجتماعيَّة وعقائدهم الدِّينيَّة وظروفهم السياسيَّة ورغباتهم الذاتيَّة.  ففي البدء وصف جون لوك – كما أشرنا سلفاً – ثلاثة أنماط من السلطة: السلطة التشريعيَّة وهي سلطة سن القوانين؛ والسلطة التنفيذيَّة وهي السلطة التي تقوم بتنفيذ أو تطبيق هذه القوانين؛ ثم السلطة الفيديراليَّة وهي السلطة المخوَّلة لممارسة العلاقات الخارجيَّة وإعلان الحرب والسلام.  وتحت هذا التصنيف نجد أنَّ الوظيفة التنفيذيَّة ما هي إلا تطبيقاً للتشريعات بواسطة الإداريين والقضاة، والوظيفة الفيديراليَّة تتميَّز عن التنفيذيَّة بدرجة التخويل المطلوب في التعامل مع الدول الأجنبيَّة.  بيد أنَّ البعض يكتفي دوماً بتصنيف السلطة إلى تنفيذيَّة وتشريعيَّة وقضائيَّة، ويضيف البعض الآخر الصحافة كسلطة رابعة.  إذن ما الذي ينظِّم هذه السلطات في الدولة؟
الدستور وثيقة سُخِّرت لتنظيم السلطة السياسيَّة في الدولة؛ إذ إنَّه ليوضِّح موضع السلطة قانونيَّاً، وكيف يتم استخدامها، وما هي حدودها؛ ثمَّ إنَّه ليحدِّد حجم وصلاحيات الوظائف والمؤسسات الرئيسة في الدولة، وينظِّم علاقاتها مع بعضها بعضاً ومع المواطن العادي.  غير أنَّ طلاب العلوم السياسيَّة غالباً ما لا يعيرون دراسة الدساتير أيَّة أهميَّة، وذلك لسببين: أولاً، الدساتير الرسميَّة لا تمثِّل مراشد صائبة في الواقع السياسي والعملي، وذلك بالقياس إلى افتراض توزيع السلطة داخل الدولة.  فعلى سبيل المثال، تُقدم عدَّة دساتير على شطب – أو نادراً ما تذكر – مهام العمليَّة السياسيَّة لمؤسسات هامة كالأحزاب، ومجموعات الضغط، والخدمة المدنيَّة.  ثانياً، تتعرَّض الدساتير الرسميَّة من حين إلى آخر للإلغاء بعنجهيَّة، ويبدو هذا جليَّاً في قيام الأنظمة الديكتاتوريَّة بتمزيق الدساتير المكتوبة.  لذلك نجد أنَّ الدساتير الرسميَّة لا تحمل أيَّة علاقة مع ما يجري على أرض الواقع المعاش، باستثناء دساتير كل من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وفرنسا وألمانيا، حيث الممارسة السياسيَّة لا تنحرف كثيراً عن محدَّدات الصياغات الدستوريَّة.  ومن هنا تأتي أهميَّة الدساتير الرسميَّة لعدة أسباب: إنَّها لتحوي اللوائح الإجرائيَّة ذات الأهميَّة القصوى للنِّظام السياسي، ثمَّ إنَّها لتذكِّر شعباً معيَّناً عن المبادئ السياسيَّة التي يعتبرها هامة، ويرغب في أن يعيش تحت مظلَّتها.  علاوة على القيم الأخلاقيَّة والثقافيَّة، فالدساتير توفِّر سبل تقييد الساسة وموظَّفي الخدمة المدنيَّة.  ثمَّ إنَّها – أي الدساتير – السبيل الرئيس لإضفاء الشرعيَّة لنظام بعينه للحكومة، ولأسلوب معيَّن لتنظيم توزيع  السلطة داخل مؤسسات الدولة.
والجدير بالذِّكر أنَّ الدساتير دوماً ما تهدف إلى ابتكار نظام عملي فعَّال من التعدُّديَّة التي تواجهها، وهي تعدُّديَّة الطبقات، الأقاليم الجغرافيَّة، المجموعات الأثنيَّة واللغويَّة والثقافيَّة، وهلمجرَّاً.  كل هذه المجموعات المختلفة تطالب في ألحَّ ما يكون الطلب من صائغي الدستور أن يتم تمثيلهم في الدولة بأسلوب يرضي طموحاتهم وتطلعاتهم، ويمنحهم الاحترام الذاتي.  بيد أنَّ مزاعم التجمعات الأثنيَّة والإقليميَّة لهي الأكثر تعقيداَّ لتضاممها دستوريَّاً.  والرغائب الشعبيَّة غالباً ما تنتهي بها الحال لتمسي دستوريَّة، برغم من أنَّها قد تأخذ وقتاً طويلاً قبل استدراكها؛ والصِّراعات السياسيَّة قد تتمظهر وتتبلور في شكل أزمات في البناء الدستوري.  ولكن حين تكون الثقافات والأعراق المختلفة في الدولة غير منفصلة عن المجتمع – كحال السود في الولايات المتَّحدة، أو الهنود الغربيين والهنود والباكستانيين في المملكة المتَّحدة – فإنَّهم يطالبون في أشد ما يكون الطلب بحماية حقوقهم المدنيَّة بواسطة تشريعات وضمانات دستوريَّة خاصة.  أما حين تقطن المجموعات الأثنيَّة والثقافيَّة والقوميَّة في مناطق جغرافيَّة متميِّزة – كالباسك في أسبانيا والولونيين في بلجيكا والويلز والإسكوتلنديين في المملكة المتَّحدة، وكذلك حال القوميات المختلفة في السُّودان – هنا تنشأ معضلة كلاسيكيَّة تتمثَّل في عمليَّة بناء الدولة، ويقتصر التحدِّي القائم هنا على إيجاد حكومة موحَّدة لعدة أقاليم جغرافيَّة، حيث يحتفظ كل إقليم بثقافته الفريدة.(81)
وهناك نوعان من الاتحاد السياسي لأيَّة دولة: وحدوي أو فيديرالي، كل يقر بالخصوصيَّة الجغرافيَّة للحكومة، ويعترف بضرورة إيجاد ضمانات دستوريَّة للتعدُّديَّة الإقليميَّة والثقافيَّة بطريقة ما.  وعادة ما تُصنَّف الدساتير حسبما هي وحدويَّة (المملكة المتَّحدة وفرنسا واليابان)، أو فيديراليَّة (الولايات المتَّحدة وأستراليا وألمانيا)، أو مكتوبة (مصنَّفة)، أو غير مكتوبة (غير مصنَّفة)، أو مرنة، أو غير مرنة.  وفي الدولة ذات الدستور الوحدوي تكون السلطة العليا في أيدي مصدر واحد، وإنَّ السلطة المخوَّلة لإقليم ما لمشروط دوماً بالمراقبة بواسطة الجسم السيادي الذي له الحق في إلغائها.  أما في الدولة ذات الدستور الفيديرالي فالسلطة مقسَّمة دستوريَّاً بين عدَّة مؤسسات تنسيقيَّة.  والحكومة المركزيَّة تملك مسؤوليات ذات أهميَّة كبرى؛ بيد أنَّ الحكومات الولائيَّة تكون قويَّة في إطار المسؤوليات المخصصة لها دستوريَّاً.  والمشكلات التي تنشب بين المؤسسات التنسيقيَّة بين الفينة وأخرى تُحل بواسطة المحكمة العليا أو أيَّة جسم مشابه لها.
ولعلَّ اهتمام الحكومات الغربيَّة وغيرها بالجهويَّة أو الإقليميَّة لم يكن اعتباطاً، بل هو نتاج استدراكي للمسؤوليَّة الرسميَّة تجاه شعوبها المختلفة، وامتثالاً لمبدأ المشاركة في السلطة وتقاسم الثروة القوميَّة.  والجهويَّة أو الإقليميَّة هي في الحق الجزئيَّة التي ترتبط بها مصالح إقليم جغرافي معيَّن.  إذن من الطبعي حقاً أن نجد أنَّ الشعور بالانتماء الإقليمي أقوى من الانتماء القومي.  وليس هذا بالغرابة فى الآن نفسه.  فالولاءات تبدأ تصاعديَّاً بالأسروة والعشيرة والقبيلة والإقليم والدولة والقارة، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا الولاء أو الانتماء خصماً على حساب العدالة والمساواة، فالعدل هو أقرب شيء للتقوى، ولا ينبغي أن تحول الكراهيَّة بين الناس على عدم بسط العدل والشهادة بالقسط، كما جاء في محكم تنزيله: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة: 5/8).  إذ أنَّه حين يختل ميزان العدالة والمساواة بين الدولة المركزيَّة وإقليم معيَّن أو عدة أقاليم تستعر الحروبات الأهليَّة لأنَّ مواطنو جهة ما أو إقليم ما قد استشعروا بأنَّ مصالحهم الحيويَّة في خطر من تغول السلطة المركزيَّة، واستوجبت الحال حمل السلاح اضطراراً للدفاع عن هذه المصالح المهدَّدة، أو في سبيل إسترجاع المسلوبة منها.  أما الفيديراليَّة فهي تشمل الموالاة المدنيَّة إلى كل من الكل السياسي وجزئياتها، التي تختلف ولكنها تتصف بالتناسق.  إنَّها تستوجب – كذلك – التقسييم الدستوري للسلطات بين هذا الكل والجزئيَّات.
ومن هذا المنطلق كان يرى جان-جاك روسو أنَّه لا سبيل إلى ضمان حكومة شعبيَّة مؤثّرة إلا في النِّظام الفيديرالي، ابتداءاً من وحدة صغيرة ذات سيادة.  والسيادة، التي تعني ممارسة الرغبة العامة، ينبغي أن تكون دوماً للشعب، وسلطات الرئيس والتنفيذيين الآخرين يجب أن تنبع من الشَّعب.  والجماهير هي التي تتعاقد مع وأمام بعضها بعضاً لتتَّحد كليَّاً وتكوِّن جسماً سياسيَّاً مدنيَّاً، ولا يستوجب على الحكومة الاعتماد فقط على مؤسساتها، بل عليها أيضاً أن تأخذ موافقة المرؤوسين في الحسبان.  إذن، أين موقع السُّودان في هذا الإعراب؟

للحديث بقيَّة،،،،

 

آراء