بعض جوانب الإسلام في جنوب السودان إبان عهد التركية

 


 

 

بعض جوانب الإسلام في جنوب السودان إبان عهد التركية

Some Aspects of Islam in the Southern Sudan during the Turkiya
Richard Gray ريتشارد غريي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لفصل في كتاب صدر عام 1973م بعنوان: "Northern Africa: Islam and Modernization" (شمال أفريقيا: الإسلام والتحديث) عن دار نشر Frank Cass بلندن، في صفحات 65 -72. وكان كاتب الفصل (1929 – 2005م) يعمل في تلك السنوات أستاذاً بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، بعد أن تحصل منها على درجة الدكتوراه عام 1957م وكانت رسالته عن "تاريخ جنوب السودان بين عامي 1839 و1889م"، واستل منها كتاباً نشره عام 1961م. وعمل بعد ذلك بجامعة الخرطوم ثم في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية حتى تقاعده في 1989م. ونشر آخر كتابين له بعنوان:" Black Christians and White Missionaries مسيحيون سود ومبشرون بيض" عام 1990، وحرر (بالاشتراك مع يوسف فضل) عام 2002م كتاباً بعنوان " Religion and Conflict in Sudan الدين والصراع في السودان". وللمزيد عن سيرة الرجل يمكن الاطلاع على ما كُتب عنه في صحيفة الإندبندنت (https://tinyurl.com/5f8e74v7).
********** ************* ***********
كانت إحدى أكبر نتائج انتصار محمد علي على مملكة الفونج في عام 1820م هي فتح النيل الأبيض للملاحة بالبواخر. وما أن حل عام 1841م حتى بلغت رحلاته الاستكشافية نحو ألف ميل جنوب الخرطوم، ووصلت إلى مناطق شاسعة كانت إلى ذلك التاريخ معزولة تماماً تقريباً. وغدت تلك المناطق فجأة معرضةً لقوى العالم الخارجي. لقد كانت هنالك على الأقل ثلاثة طرق لدراسة ما حدث لاحقاً من اتصال مع شعوب الجنوب: 1/ يمكن للمرء أن يحاول، من وجهات نظر غربية ليبرالية وإنسانية وإمبريالية تحليل أسباب فشل ما: ومراراً وتكراراً، خابت الآمال في تسخير الجنوب لتحقيق أرباح تجارية، أو تبشير مسيحي، أو إحداث "تنمية" متناغمة وسلمية؛ وانتهت كل تلك المساعي بفشل كارثي واضح.
2/ وعوضاً عن ذلك، يمكن أن نركز الانتباه على ردود أفعال الجنوبيين، ونكتشف، منذ الفترة الباكرة من مواجهة الشلك مع جيرانهم الفونج والبقارة في الشمال، وحتى مشاركتهم الجماعية الحالية في السنوات القليلة الماضية مع حركة الأنانيا، أنهم قوم شديدو الفخر والمقاومة العنيدة للحكم الأجنبي ولتأثيراته.
3/ ويمكن أيضاً أن ننظر إلى مبادرة محمد علي بحسبانها توسعاً جوهرياً للحدود العربية - الإسلامية والتي امتدت في شمال السودان إلى حين وصول البدو العرب من القرن السابع فصاعداً، وعُزِّزَ ذلك التوسع من خلال الحج إلى مكة، واستيطان شيوخ الدين من مصر وبقية العالم الإسلامي. لقد ركز مؤرخو جنوب السودان عموماً على أول تلك المواضيع الرئيسية المذكورة أعلاه – وكاتب هذا المقال ليس استثناءً - وكانت مصادرهم الرئيسية هي سجلات وملاحظات الأوروبيين - وبدرجة أقل بكثير الرحالة "الأتراك" والمصريين والمشاركين. ومن الواضح أن هذه المصادر غير كافية إذا رغب المرء في دراسة ردود فعل الجنوبيين أو بحث أمر استيعابهم في الثقافة الإسلامية السائدة بشمال البلاد؛ ويتطلب البحث المطلوب في تلك المواضيع الحفاظ على المصادر الأصلية وأمنها، ولا سيما الذكريات والمذكرات والمرويات الشفهية سريعة التلاشي في كل من الشمال والجنوب. ولا تحاول هذه الورقة سوى جلب بعض المراجع المتناثرة في المصادر الأوروبية حول تمدد الإسلام جنوباً في عهد التركية.
وتركزت الصلات الباكرة بالجنوب على منطقتي قبيلتين: الشلك والباري Bari. وفي السابق، كانت فرق الشلك التي تهاجم غيرها بزوارقها هي أقوى قوة نهرية على النيل الأبيض. وفي نهاية القرن الثامن عشر سيطر الشلك على أليس Alays(وهو اسم الكوة قديماً(1) ) حيث يعبر الناس ذلك النهر المهم على طريق القوافل من دارفور إلى سنار، وتشير التقارير في دارفور إلى موقفهم من الإسلام:
"عندما تنقل المركب أو المُعَدّيَة المحمديين (أي المسلمين. المترجم) تجدهم كثيراً ما يظهرون أهمية وعظمة منحها إياهم وضعهم. فما أن يجلس المسلم على ظهر المركب حتى يسأل "من هو سيد هذا النهر، الله أم الرُّبّان ...؟" (والإجابة هي أن "الله هو السيد"). غير أن الشلكاوي يجيب بـ: "لا. لا بد أن تقول إن فلاناً (ويذكر اسم الرُّبّان) هو سيد هذه المركب، وإلا لن تعبر النهر" (2).
وحتى بعد غزوة محمد علي، فقد ظل التجار يُقْتَلُونَ عند ذلك المعبر أو في قواربهم، واستمرت غارات الشلك في شمال الياس (الكوة) حتى عام 1853م؛ وحينها سادت صلات سلمية وعلاقات تجارية مع التجار المسلمين في أراضي الشلك. وكانت تلك المبادرة السلمية قد أتت في البدء من "الجلابة" الذين لم يكونوا يستخدمون الطريق النهري، بل كانوا يتحركون براً من كردفان وتقلي (السلطنة الإسلامية الصغيرة في جبال النوبة). وأتى هؤلاء "الجلابة" بعد أن سمح لهم رث "ملك" الشلك بالاتجار في العاج، وأقاموا في كاكا، وهي أبعد منطقة شمالية يستوطن فيها الشلك. وأنضم إليهم بقارة بني سليم وكل الناقمين الذين فروا من الحكم التركي – المصري. وتزايدت أعداد هؤلاء بالتدرج حتى عام 1860م، حين كانت هناك 17 مجموعة سكانية كبيرة (من مجموع 21) تتكون من العرب بصورة حصرية في تلك المنطقة. وصار الكثير من الشلك في منطقة كاكا يرتدون الملابس القطنية، وشُوهِدَتْ أعداد من نساء الشلك في تلك المنطقة وهن يجلبن للبيع بيض الدجاج وقَرْعات (gourds) ماء مزينة برسومات جميلة، ونساء العرب وهن يحملن المريسة والأقمشة القطنية والألجِمَة الخ لبيعها. غير أن تأثير كل ذلك، ووجود الكثير من المستوطنات العربية، كان ضعيفا وقليل الأهمية. ورفض رث الشلك أي اتصال بالمسؤولين الأتراك وتجار الخرطوم. ولاحظ النمساوي مارتن ثيودور فون هيوغلين في عام 1869م بأنه على الرغم من صلات الشلك الكثيرة بالعرب، إلا أن "الإسلام لم يتأصل ويضرب بجذوره في أوساطهم بعد"(3). ومع ذلك، فإن النمط القديم من غارات الزوارق إلى الشمال قد تبدل تماماً بحلول أواخر عام 1859: فعلى نحو متزايد، رافق شلك المناطق حول كاكا فرسان البقارة في غارات ضد جيرانهم من الدينكا. وقد أعرب بعض شلك المناطق الشمالية صراحةً عن رغبتهم في "التحرر من طغيان الرث ومستشاريه" بينما كان بقية الشلك يعتبرونهم عبيداً للعرب. وكرد فعل على ذلك قام رث الشلك في سبتمبر من عام 1860م بحملة غاضبة ضد الكثير من الشماليين وطردهم من كاكا؛ وكان أحد أولئك المطرودين هو التاجر الدنقلاوي محمد خير. جمع ذلك التاجر محاربين في 13 قارب وهاجم بهم عاصمة الرث ونهبها في عام 1861م. وربما كانت ردة فعل الشلك اللاحقة تجاه الإسلام محكومة باتصالاتهم التي سادها العداء إلى حد كبير مع الشمال خلال بقية القرن. غير أن عملية التثاقف acculturation (4) في أوساط شلك ودينكا أقصى الشمال هو موضوع يستأهل التحقيق الدقيق.
****** ****** ******
كان التجار والمبشرون الأوروبيون الذين كانوا على اتصال باكر مع قبيلة الباري في رأس الجزء الصالح للملاحة من النيل الأبيض يهيمنون إلى حد كبير على التجارة. وهنا كانت المسيحية، وليس الإسلام، هي التي فشلت في ترك انطباع قوي لدى الجنوبيين، وهنا كان التجار الأوروبيون هم رواد الطريق الذي قاد إلى الكوارث اللاحقة. وكثيراً ما يُلْقَى باللوم على الإسلام في انتشار العداء بين الشمال والجنوب بسبب إجازته لتجارة الرقيق. ويُعْزَى هذا التفسير جزئياً لكون أن البريطانيين العاملين في المجال الإنساني (humanitarians) كانوا في شُغْل شاغِل بتجارة الرقيق، ولم يتأثروا بصورة كاملة تقريباً سوى بما كتبه المستكشفون سبيك وغرانت وبيكر (5)، الذين بلغوا تلك المناطق في وقت متأخر نسبياً، ورأوا العنف شائعا على نحو كبير، وخلصوا إلى أنه كانت نتيجةً للاتجار بالرقيق. غير أن من كانوا قد قدموا قبلهم لتلك المناطق أتوا بدلائل تثبت أن تجارة الرقيق لم تتسبب منذ البداية في العنف. وعوضاً عن ذلك، كانت العوامل الرئيسية التي أدت إلى ذلك المأزق أو الأزمة هي عدم الاستعداد التام عند القبائل المحلية لتلبية متطلبات تجارة العاج، والتصميم الذي لا يعرف الرحمة عند التجار الأوروبيين على تحقيق أرباح سريعة وسهلة. وفي خلق هذا المأزق والعداء، كان لموقف المسؤولين "الأتراك" وأطقم القوارب العربية أهمية ثانوية فقط. ومن المؤكد أن موقفهم كان فيما يبدو جشعاً ويظهر أشد الازدراء والاحتقار التام تجاه "العبيد" العراة المتوحشين. ولا شك أن الاختلاف الحاد بين الإسلام والعالم الوثني كان قد ساهم في ذلك الموقف. واستمر الجنود وطاقم القوارب، الذين كانوا قد شاركوا في الحملات الحكومية الباكرة في عمليات يتم فيها أسر أو شراء امرأة أو اطفل في بعض الأحيان، والقيام بذلك وهم تحت قيادة التجار الأوربيين. وبحلول عام 1855م كانت الكثير من المراكب القادمة من الجنوب تبلغ الخرطوم وعلى ظهرها ما بين 10 إلى 30 من المسترقات والمسترقين، كان الفرد منهم يُبَاعُ بمبلغ 7 جنيهات إسترلينية. غير أن أعداد من استرقوا بهذه الطريقة كانت قليلة جدا، علماً بأن أعداد المسترقين في السودان كانت بالآلاف، وكانت الأرباح التي يجنيها أولئك الجنود وطاقم القوارب من تجارة الرقيق لا تُعد شيئاً يذكر عند المقارنة بعائد تجارة العاج في تلك الفترة. وفي غضون المرحلة الأولى، كان الطلب على المسترقين ينحصر بصورة شبه كاملة في النمط التقليدي للحياة القبلية؛ إذ أن شراء المسترقين يتم عادةً من قبيلة صديقة كانت قد اصطادتهم. ولم يكن سوق الرقيق، على الأقل في تلك الأيام، عاملاً محفزاً يساعد في تفاقم تلك التجارة. ومن المهم أن ندرك أن المسلمين لم يكونوا وحدهم هم من ينظرون لسكان تلك المناطق الإفريقية بعين الازدراء ويعاملونهم بقسوة مفرطة. فقد ورد مثلاً أن واحدا من المسؤولين "الأتراك" قال في أول رحلة استكشافية أنه "من الضروري أن نقذف في قلوبهم الرعب؛ ومن بعد ذلك سيصبح الطريق الذي نسلكه أكثر سهولة" - وهذا القول ليس ببعيد عن قول تاجر مسيحي: "من بعد عبورنا أليس (الكوة)، من الضروري ألا نثق البتة في كل الذين لا يخشون بأسنا".
وحاول التجار الأوربيون الخروج من ذلك المأزق مع قبيلة الباري والقبائل النهرية الأخر عن طريق إنشاء مستوطنات تجارية مستدامة في الداخل (تُعرف بـ " الزرائب /الزرايب")، يعمل فيها جنود وخدم من الشمال مزودين بالأسلحة. ومنذ ذلك الوقت غدت تجارة العاج في النيل الأبيض تعتمد على العنف، وجر ذلك العنف معه في طريقه تجارة الرقيق. وفي معظم تلك المناطق كان التجار الأوربيون هم من المسؤولين في المقام الأول عن ذلك التغير في طبيعة تجارة العاج؛ إذ أنهم كانوا هم الذين استغلوا التنافس بين القبائل من أجل الاستيلاء على الأبقار وعلى اصطياد الرقيق؛ وكانوا يمنحون الأبقار لمكافأة "القبائل الصديقة" لإعطائها لهم العاج، ولخدماتها الأخرى (وأهمها اصطياد الرقيق)، الذين كان التجار الأوربيون بدورهم يعطونهم لجنودهم العرب كمرتبات، وذلك لتعويض النفقات العامة المتزايدة بشكل كبير. وكان الفساد والخراب الذي أحدثه ذلك النظام القائم على قاعدة "فرّق واِنْهَبْ divide and plunder" هو العامل الأكبر في العلاقات اللاحقة بين شعوب المناطق الداخلية، وترك إرثاً من الشك والكراهية تجاه أي دخيل أجنبي. غير أن مجتمعاً تعدديا جديدا بدأ أيضاً في التشكل والتطور حول تلك المستوطنات منذ حوالي عام 1869م فصاعداً. واستولى الخديوي إسماعيل وإدارته في الاستوائية على نوَّى التثاقف nuclei acculturation (6) المتناثرة والهشة تلك.
ومع ذلك، كانت هناك منطقة واحدة كان الشماليون المسلمون هم الرواد فيها، وهي منطقة أصبحت فيما بعد ذات أهمية عظيمة. فإلى جنوب دارفور، وفي وسط برية ذات كثافة سكانية منخفضة، كان هناك مزيج من السكان المسلمين (النوبة والجلابة والداجو والبرقو الخ) الذين يعملون في مناجم النحاس الشهيرة في "حفرة النحاس". وكان النحاس المستخرج يمر عبر دارفور إلى شبكة تجار مسلمين (وجد بارث Heinrich Barth (7) أن منطقة كانو في شمال نيجيريا كانت تستورد كميات كبيرة من ذلك النحاس، غير أن جزءاً كبيرا من ذلك النحاس كان يُتاجر به مع القبائل الوثنية في الجنوب). وكانت الاتصالات مع هؤلاء الناس قليلة جداً، ولكن في نهاية القرن الثامن عشر علم أول أوروبي يصل إلى دارفور (8) أن حملات صغيرة كانت تتوغل في تلك الأراضي عبر "حفرة النحاس". وكانت تلك الحملات في بعض الأحيان عبارة عن غارات عسكرية كاملة تعتمد في حصولها على الأرباح من تجارة الرقيق والنهب على نطاق واسع، لكنها كانت تتألف عادةً من الجلابة الذين كانوا يجلبون على ظهور الحمير كميات صغيرة من الخرز والنحاس والقماش المصري الأزرق، ويتاجرون بتلك البضائع في مقابل العاج والمسترقين مع الزاندي في أقصى الشمال ومع كريش Kreish.
ونشأت الأسواق وانتشرت شهرتها حتى سمعت أول رحلة مصرية عبر النيل الأبيض وبحر الجبل إشاعات عن تجار مسلمين إلى الغرب، بينما أخبر أحد أفراد قبيلة الدينكا النهرية تاجراً أوروبياً كيف أنه كان سافر لمسافة عشرين يوماً إلى الغرب إلى كريش حيث كان يبيع المسترقين والعاج لتجار "سود وحمر" كانوا يمتطون الحمير والجمال. وبحلول عام 1853م كان بعض الجلابة من كردفان قد شقوا – لأول مرة - طريقاً برياً جديداً يتخطى الحدود الجنوبية الشرقية لدارفور، وورد أنهم يواصلون في ممارسة "تجارة رابحة جداً من خلال استيراد البقر والملابس والقطن والخرز". ولم تكن أنشطة أولئك الجلابة تتضمن إخضاعاً مباشراً للناس، ولكن كما هو الحال في بني شنقول وبلاد جالا وكثير من مناطق شرق أفريقيا، كان التاجر العربي مضطراً ليدفع لزعيم المنطقة التي يمر بها ضريبة على كل شحنة بضائع يحملها عبر منطقته. وتقدم الإسلام عبر تلك الجبهة، ونال بعض المسلمين في بعض الحالات امتيازات ومزايا سياسية. ومن خير الأمثلة على ذلك هو ما ذكره الأب سانت اندريا استفانو في عام 1964م في كتابه المعنون "Tribal History of Western Bahr El Gazal" عن مرويات تتعلق بعائلة فيروج Feroge الحاكمة في مستوطنات كاليقي Kaligi القبلية الصغيرة (9)، التي كانت تدعي بأنها من نسل رجل برناوي أدى فريضة الحج ثم عاد من مكة لتلك المنطقة (التي تبعد 85 ميلاً شرق حفرة النحاس) ليدعوا الناس فيها للإسلام. وذكر الأب سانت اندريا استفانو أن ذلك الرجل كان يحيط نفسه بهالة من القداسة والعلم، مما جعله يفوق عوام الناس ويصبح مقرباً من حاكمهم أكبي Akpi، الذي زوجه ابنته (زهراء). وعقب وفاة أكبي خلفه فيروج في الحكم، بعد أن نال تأييد وحماية سلطان دارفور. وقامت هذه المجموعة لاحقاً بالتحرك جنوباً وهزمت وحدات صغيرة أخرى. غير أن مثل تلك الانتصارات السياسية كانت جد نادرة ومحدودة الحجم والتأثير، إذ أن السلطة الكاملة بقيت في أيدي الحكام المحليين في ذلك العهد الذي بدأ فيه دخول المسلمين لتلك المناطق.
وأختل ذلك التوازن عندما اكتشف تجار الخرطوم ممراً على "بحر الغزال"، وأقاموا العديد من "الزرائب" بالقرب من منابع مياهه. وربما بلغت حملات أولئك التجار في عام 1862م نهر مبومو Mbomu river (على الحدود الحالية بين جمهوريتي أفريقيا الوسطى والكنغو الديمقراطية. المترجم)، وتمكنوا بما كانت معهم من قوات من إخضاع الزعماء المحليين الذين كانوا من قبل يفرضون الضرائب على أولئك الجلابة. وفي عام 1870م، على سبيل المثال، وجد عالم الأعراق والنبات الألماني جورج اشفاينفورث (Schweinfurth) أن جوديو Gudyoo(الذي كان أحد زعماء كريش وأحد كبار رعاة تجار الرقيق) قد استقر كشيخ عادي تحت سلطة أحد التجار العرب. وكان المتجولون من الجلابة يتحركون في المنطقة بحرية تحت حماية نظام "الزرائب"، وكان عددهم في عام 1870م 2,700 تاجراً، وقُدر أن هناك 2,000 آخرين كانوا يقيمون بصورة مستدامة في تلك "الزرائب". ووجد اشفاينفورث أيضاً رجلاً تونسيا خمن أنه تاجر رقيق، وكانت تلك هي رحلته الثانية لدارفور. وهذا مثال على مدى اتساع شبكة التجارة البرية الإسلامية. وكان أغلب أولئك الرجال يستثمرون رؤوس أموالهم في شراء ثور أو حمار من كردفان أو دارفور، ثم يقومون بتحميله بأقمشة قطنية وأسلحة نارية بلجيكية زهيدة الثمن وغير ذلك من السلع التي يحتاج إليها العرب في الزريبة. وعندما يصلون إلى بحر الغزال يبيعون حيواناتهم وبضائعهم مقابل أربعة أو خمسة من المسترقين، ثم يسوقونهم شمالاً عبر الصحاري، فيحققون ربحاً مجزياً إن نجوا من أهوال هذه المسيرة الطويلة. وهناك آخرون كانوا يعملون وكلاءً لتجار الرقيق الأثرياء في كردفان ودارفور، واستقروا في الزريبة باعتبارهم من "الفقرا" الزاهدين، وظلوا يجمعون المئات من المسترقين لمخدميهم. وقُدرت أعداد المسترقين الذين كانوا قد "صُدروا" عبر الطريق البري بنحو 12,000 – 15,000 مسترق سنوياً، وهذا عدد أضخم بكثير من أعداد المسترقين الذين كانوا يُرحلون بالمراكب عبر النيل الأبيض، والذي لم يكن يتجاوز عددهم 2,000 مسترق كل عام.
لقد كان تاريخ عنف الفوضى التي ارتبطت بتجارتي العاج والرقيق هو التفسير الرئيس لقلة التأثير الإسلامي (في الجنوب). ولا عجب، إذ أن المناطق التي سادت فيها صلات سلمية مع شعوب الجنوب كانت للأسف قليلة جدا. ولكن يبدو أن عملية التثاقف (6) كانت بطيئة ولكنها ثابتة داخل الدائرة المباشرة لتجار "الزَرائب" ومراكز الحكومة. ومن المؤسف أن السجلات الوثائقية كانت شبه معدومة في منطقة دار فرتيت في بحر الغزال، حيث يبدو أن عملية التثاقف هذه كانت الأكثر تقدماً. وفي الفترة من 1879 إلى 1881م حاول (الإيطالي) جيسي، تحت قيادة غوردون، إقامة حكم منظم في تلك المنطقة. ووجد جيسي أن القبائل الأصغر (بما في ذلك الكريش The Kreish) التي كانت في الأصل على قدم المساواة مع الجلابة، قد تجمعت في مجموعات متفرقة حول "الزَرائب" وكانوا من المزارعين الذين لهم القدرة على التكيف، وكانوا - على عكس معظم القبائل الكبيرة غير المروَّضة - على استعداد لجمع المطاط وزراعة القطن. ونَمَت القبائل الأصغر، وكذلك من تركهم العرب من المسترقين خلفهم، رغبة شديدة في صناعة الملابس القطنية، واعتنق الكثير منهم فيما يبدو الإسلام.
وذكر غوردون أن من كانوا يقطنون في المناطق النهرية من بحر الجبل غدوا يحملون خليطاً من بعض خصال سكان المنطقة الأصليين وكذلك بعض خصال العرب "semi -native semi-arab " بسبب صلاتهم بالنساء والشباب الذين كانوا يأتون للعمل مع الجنود، ووجدوا أن العيش في المركز الذي أقامه الجيش كان أطيب من عيشهم في قراهم الأصلية، فأبوأ العودة إليها. وضرب غوردون مثلاً برجال قرية كاملة - كانت تتحدث بالعربية - آثرت العيش بقرب المركز الحكومي في رفقة زوجاتهم وأطفالهم. ولاحظ أمين باشا (حاكم الاستوائية الذي عُمد باسم إدوارد كارل أوسكار ثيودور شنيتزر) الصلات القوية بين المراكز الحكومية والقرى والمجموعات القبلية الإفريقية المجاورة، وقابل العديد من زعماء القبائل شبه المستعربين semi - arabized chiefs. وكان أحد هؤلاء الزعماء من "الأشولي Acholi"، وبدا الرجل لأمين باشا دنقلاوي المظهر، إذ كان يرتدي ما يرتديه الدناقلة عادةً، ويجلس على عنقريب، ويكرم ضيوفه بفناجين القهوة. وذكر أمين باشاً أيضاً أنه زار منطقةً أخرى فوجد أن زعيمها استقبله وهي يرتدي قميصاً ملوناً وطويلاً ويضع الطربوش على رأسه. وبما أن رجال الأشولي، مثلهم مثل رجال القبائل النيلية الذين كانوا يسخرون ممن يرتدي أي نوع من الملابس، فإن ما كان يرتديه ذلك الزعيم يقوم دليلاً على استيعابه واندماجه ضمن الثقافة المادية الإسلامية. غير أن تقويم مدى انتشار المعتقدات والممارسات الدينية الإسلامية بين أهل الجنوب أمر أشد عسراً بكثير. فقد ذكر أمين باشا ذات مرة ما يلي: "خلال أكثر من عشرين عاماً من الحكم، لم أتمكن من إدخال أكثر من عشرة أشخاص في الإسلام في كل مديرياتنا". وكان أمين نفسه يمارس شعائر الإسلام أثناء وجوده في الاستوائية، وكان يسجل الظروف والأحداث التي تقع بمنطقته بدقة وحرص، لذا فإن هذا قد يبدو للوهلة الأولى دليلاً قاطعاً إلى حد ما. ومن المؤكد أن ما ذكره أمين باشا يثبت الحدود الضيقة للتأثير الإسلامي، إلا أنه يجب ذكر أن ذلك التعليق كان قد كُتِبَ عقب جولة محبطة له في منطقة رول Rohl (يقع نهر رول بالقرب من منطقتي ورابول وتنجوك. المترجم)، والتي ربما قادته ليقلل من مدى انتشار الإسلام في جنوب السودان. إن الدليل الملموس الوحيد الذي تقدمه مذكرات أمين باشا هو حقيقة مفادها أنه في العيد الصغير (عيد الفطر) عام 1881م شهد "جميع رؤساء الأحياء" بمركز الحكومة في لادو Lado الاحتفال بالعيد؛ ومن الصعب بالطبع أن نحدد ما إذا كان دافعهم لحضور تلك المناسبة دينياً أو سياسياً أو لمجرد التسلية والمتعة.
وأشك كثيراً في إمكانية تحقيق تقدم كبير في دراسة هذه الجوانب الإسلامية حتى تُجْرَى أبحاث مفصلة، وخاصة بالنسبة لمنطقة دار فرتيت باستخدام نوعين آخرين من الأدلة: النوع الأول هو تقارير الإداريين البريطانيين والمبشرين المسيحيين في العامين الأولين من القرن التاسع والعشرين، رغم أني لا أعرف كم من تلك التقارير المحلية التفصيلية قد بقيت؛ والنوع الآخر، والأكثر أهمية، هو المرويات الشفهية الأصلية التي تختفي هي الأخرى بسرعة بالطبع، وخاصة في ظل الظروف الحالية (أي في سبعينيات القرن العشرين. المترجم).
********* *********** ********
إحالات مرجعية
1/ https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%A9
2/ أورد كاتب المقال أن ذلك القول جاء على لسان الرحالة البريطاني وليام جورج براون (1768 – 1813م) في عام 1799م، بحسب ما ذكره ميرسير Mercer في ورقة له عن تجارة وسياسة الشلك من منتصف القرن السابع عشر إلى عام 1861م.
3/ للمزيد عن مارتن ثيودور فون هيوغلين von Heuglin (1824 – 1876م). اُنْظُرْ في هذا الرابط: https://shorturl.at/ZO7ST
4/ ذكر الكاتب أن لباحث من جامعة سانتا باربرا بكالفورنيا اسمه J. W. Frost أطروحة دكتوراه عنوانها
A HISTORY OF THE SHILLUK OF THE SOUTHERN SUDAN. https://shorturl.at/GGNM7
5/ المذكورون هم رحالة ومستكشفون بريطانيون سعوا لاكتشاف منابع النيل: اسبيك John Hanning Speke (1827 – 1864م)، وغرانت James Augustus Grant (1827 – 1892م)، وبيكر 1821) Samuel Baker- 1893م(.
6/ يعرف التثاقف في بعض القواميس بأنه تكيُّف شخص مع ثقافة أجنبيَّة يكون على علاقة بها (مثلاً "تَثاقُف مُهاجِر"). والتثاقف هو العملية التي يكتسب الفرد أو الجماعة من طريقها خصائص ثقافة أخرى، من خلال التفاعل والاتصال المباشر، أو هي اكتساب الثقافة بالمشاركة والاتصال، أو هي عملية التغير الثقافي الذي ينجم عن الاتصال المستمر بين جماعتين متمايزتين ثقافياً. ويعرف أيضاً بأنه العملية التي يتم من خلالها استيعاب الأفراد في ثقافة ليست ثقافتهم الأصلية.
7/ هينريش بارث (1821 -1865م) هو باحث ومستكشف ألماني https://rb.gy/xxozpl
8/ لعل أول أوروبي يصل إلى دارفور هو البريطاني وليام جورج براون (1768 – 1813م) https://tinyurl.com/5xw7k8hy
9/ يمكن النظر في هذا الرابط عن كاليقي: https://joshuaproject.net/people_groups/12451/OD

alibadreldin@hotmail.com
////////////////////////////////

 

 

آراء