بعض جوانب تجارة الرقيق العربية من السودان بين القرنين السابع والتاسع عشر (3 -3)
بدر الدين حامد الهاشمي
23 October, 2024
23 October, 2024
بعض جوانب تجارة الرقيق العربية من السودان بين القرنين السابع والتاسع عشر (3 -3)
SOME ASPECTS OF THE ARAB SLAVE TRADE FROM THE SUDAN - 7th to 19th CENTURY
يوسف فضل حسن Yusuf Fadl Hassan
تقديم: هذه ترجمة للجزء الثالث والأخير مما ورد في مقال طويل للأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن (1931- )، نُشِرَ عام 1977م في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" في صفحات 85 – 106. والمقال – كما ذكر المؤلف في الحاشية – هو نسخة منقحة من ورقة ألقاها أمام "برنامج دراسات الشرق الأوسط" بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن في عام 1974م.
والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن غنِيّ عن التَّعريف، ويمكن الاطلاع على سيرته الذاتية ومؤلفاته في هذا الرابط: https://tinyurl.com/53skxv9s
المترجم
********* ********** ************
كان معظم الذين يُعرضون للبيع رقيقاً في شندي هم من الأحباش ونوبة سنار، ومن السكان الوثنيين في المناطق المجاورة لدارفور، مثل بورنو Bornu ودار سيلا Dar Silla، خاصة بين الفرتيت والباندا والفاتيقو Fatigo والباقجا Bagja. وربما كان تباعد المسافات بين تلك المناطق يشير إلى أن "ملكية" أولئك المسترقين كانت تتغير لعدد من المرات قبل بلوغهم وجهتهم الأخير. وكان تجار سواكن يشترون نحو ألف مسترق (من كل قافلة؟ المترجم)، ويُذهب بألف وخمسمائة مسترق ومسترقة إلى مصر، وتُبَاعُ البقية محلياً. والجدير بالذكر أن مصدرين فرنسيين كانا قد قدرا عدد المسترقين الذين تجلبهم قافلة سنار إلى القاهرة عند نهاية القرن الثامن عشر بـ 300 – 400 و150، على التوالي.
وبحسب ما جاء في كتاب بيركهاردت فقد كان الحداربة هم في الغالب الأعم من يشترون المسترقين في شندي وسنار والأبيض لبيعهم في الجزيرة العربية. والحداربة هم أغنى التجار العرب (أو المستعربين) وأكثرهم عدداً، وكان يبيعون مسترقيهم ويشترون بما يجنونه من أموال مختلف البضائع الهندية. وكانوا يرسلون المسترقين عن طريق البحر الأحمر عبر سواكن (التي هي أهم مركز تجاري لتجارة الرقيق بعد القاهرة ومصوع) إلى الحجاز واليمن.
غير أنه، بحلول نهاية القرن الثامن عشر، طغت قوافل الفور التي كانت تحمل التجارة إلى مصر عبر "درب الأربعين" على الأهمية التجارية لشندي بحسبانها محوراً لطريق التجارة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. ويرجع أقدم ذكر لهذا الطريق إلى عام 1689م. وقد وصفه الرحالة البريطاني وليام براون (1768 - 1813م) ببعض التفصيل، واستطاع الوصول إلى سجل قوافل المسترقين التي وصلت إلى القاهرة منذ عام 1150 إلى عام 1735م. و"درب الأربعين" هو شريان دارفور لمصر (1)، وكان يبدأ من "أوري Ure" التي لم تعد موجودةً منذ القرن السابع عشر؛ وحلت محلها "كوبي" بعد عام 1750م، التي غدت المركز التجاري الرئيس. وكانت "كبكابية" هي أيضاً مركزاً تجاريا آخر. ويسير الطريق من "كوبي" إلى سواري Suwayri، وهي آخر نقطة في الحدود. ثم يذهب الطريق عبر الصحراء عبر واحة سليمة، وفيها يلتقي الطريق مع طريق سنار – شندي، وأخيراً يسير عبر واحات الخارجة، ومنها إلى أسيوط. وهذا طريق آمن نسبياً. وفي تلك المراكز التجارية كان تجار السودان النيلي (مثل "الجلابة" من الدناقلة والجعليين)، يتزوجون من نساء السكان المحليين، ويمولون قوافل التجارة وينظمونها. ومع ذلك، يبدو أن السيطرة النهائية على التجارة لمسافات طويلة، وتنظيمها وسلامتها كانت تقع على عاتق السلطان، الذي لا تستطيع أي قافلة مغادرة كوبي بدون إذنه. وكانت القوافل تبدأ عادةً بقيادة السلطان نفسه (أشار الكاتب في الحاشية إلى أن المؤرخ أوفاهي أخبره بأنه في عام 1850م كان هناك 32 تاجراً (يسمونهم خبراء؟ Khabris، كانت لهم زرائبهم الخاصة في كوبي. المترجم). وكان السلطان، بحسبانه أكبر تاجر في البلاد، يبعث مع كل قافلة بضاعته الخاصة، ويكلف مسترقيه أو ممثليه للتجارة باسمه في مصر والبلدان المجاورة الأخرى. وفي بعض الأحيان كان السلطان يرسل قوافله الخاصة إلى القاهرة. وربما كان سبب تدخل الدولة هو حاجة سلاطين دارفور إلى مسترقين يعملون لديهم. ويبدو أن عدداً كبيراً من المسترقين الذين تم الحصول عليهم، إما من خلال الجزية المدفوعة للسلطان، أو في الغارات التي أقرها، كانوا يُحْتَفَظُ بهم لاستخدام السلطان. أما بقية المسترقين فكانوا يباعون في الأسواق. وفي دارفور (وكذلك في وداي)، كان يُحْصَلُ على الرقيق في غالب الأحوال من مناطق القبائل الوثنية إلى الجنوب، والتي تمتد تقريباً بين بحر الغزال في الشرق وأدواوا (Adawaw) في الغرب. وذكر الرحالة البريطاني براون بأن المسترقين كان يُجْلَبُونَ من مناطق عديدة (ذكر منها الكاتب Dar Kulla (Goula), Dar Runga, and Gnem -Gnum .المترجم). وبحسب ما جاء كتاب محمد بن عمر التونسي المعنونVoyage on Ouaday ، فقد كان المسترقون يُجْلَبُونَ من شالا ومن (عين) فرح، وبيانقا Bynga ومن dar gona و dar Ronton. وكما ذكر بيركهاردت آنفاً كان يُؤْتَى بالمسترقين من الفرتيت والباندا وقبائل أخرى غير محددة (مثل فاتقيو والباغا)، وقد يكون المقصود بـ "الباغا" هم البيغو Baygo الذين كانوا يعيشون في البدء على بحر الغزال، والذين كان سلطان الفور يتلقى منهم الجزية (التي تقتصر على الفتيات). غير أنه بعد اعتلاء محمد الفضل لعرش السلطنة (1802 – 1839م)، الذي كانت أمه من البغيو، أعلن عن عتق/ تحرير كل أفراد تلك القبيلة، بحسب ما أورده هارولد ماكمايكل في كتابه عن تاريخ العرب في السودان.
وبحسب ما ذكره الرحالة البريطاني براون، فقد كان من المعتاد في دارفور ووداي دفع الجِزْي بمسترقين يتم أسرهم في الغارات، أو بالشراء في المناطق المذكورة أعلاه. ومع ذلك، وعلى عكس سلطنة وداي التي كانت قد اعتادت على الإغارة على مناطق خاصة لصالح السلطان، فإن سلطان الفور لم يقم بنفسه بأي غارات تقريباً. وكان يلجأ عادةً إلى إصدار تصريح يسمى " السلطيّة" وهي "حملة مسلحة (أو غزوة) غرضها الحصول على الرقيق" من مناطق الجنوب أو من الجنوب الغربي. وكان مثل ذلك التصريح يُمْنَحُ للشخص الذي يمكنه جمع رأس المال اللازم لتغطية تكلفة مثل ذلك العمل. وبعد انتهاء الحملة يلزم من نظمها أن يعطي السلطان خُمس ما حصل عليه في "غزوته" من مسترقين وغنائم أخرى.
وقبل مغادرته إلى المنطقة المخصصة للغارات، كان على منظم "الغزوة" أن يجند الرجال ويؤمن رأس المال اللازم للمؤن. وعلاوة على ذلك، نظراً لأن العديد من المسترقين كانوا يُشْتَرَوْنَ بالفعل في المنطقة الجنوبية، كان على منظم "الغزوة" أن يحمل معه أيضاً السلع التجارية المطلوبة للمقايضة مثل القماش والملح وأساور النحاس والخرز. وكانت مجموعة "الجلابة" هي التي تقدم عادةً ذلك الائتمان المطلوب. ومن أجل تحقيق أقصى قدر من الربح، كان بعض "الجلابة" يرافقون الحملة، حيث سيكسبون المزيد من المسترقين مقابل رأس مالهم مما لو اختاروا البقاء وراءهم. وكان عدد أفراد الحملة يعتمد إلى حد كبير على الائتمان الذي كان أصحاب التصديق يحصلون عليه من ممولهم. وقد حصل بعض القادة على رأس المال للحصول على حوالي 500 مسترق. كما ورد أنه كانت تُجرى حوالي 60 غزوة كل عام. وعند بلوغ الحملة لمقصدها، يبدأ الجنود في إقامة "زريبة" لحجز الذين يُقْبَضُ عليهم /عليهن فيها. وكانت تلك الطريقة في الحصول على المسترقين والمسترقات تمارس منذ بدايات القرن التاسع عشر. وفي بعض المناطق، وعقب مرور خمسة عقود، أقيمت مستوطنات تجارية شبه مستدامة، يطلق على الواحدة منها اسم "ديم" في جميع المناطق، وكانت تمتد إلى منطقة النيل الأبيض.
وكان عرب البقارة في جنوب دارفور والفولاني المهاجرون يقومون بشن حملات لجمع الرقيق، ويبيعونهم للتجار أو يقدمونهم للسلطان كجزية (2). وفي ذات الوقت ذهب "جلابة" آخرون جنوباً وهم لا يملكون غير ما يحمله الواحد منهم من بضائع متنوعة على ظهر حمار لبيعها لرجال ونساء القبائل الوثنية. وفعل مثل ذلك أيضا "جلابة" كردفان ودارفور الأثرياء لذات الغرض. وعند منتصف القرن التاسع عشر استقر هؤلاء بالقرب من "الزرائب" و"الديوم" حيث كانوا يعملون كوسطاء بين "جلابة" الشمال ومصادر الرقيق في الجنوب. وبحسب ما أتى به الرحالة بيركهاردت فقد كان "الجلابة" يزورون الفرتيت في أماكنهم، الذين كانوا يبيعون لهم أطفالهم نظير منحهم الذرة والدخن.
وبحسب ما ذكره الرحالة البريطاني براون، كان "الجلابة" يحصلون على احتياجاتهم من قادة حملات الرقيق، ولكنهم كانوا أيضاً يبتاعون الرقيق من التجار المحليين. فعلى سبيل المثال كانت عقوبة ارتكاب شخص لجرم ما في دار قولا (Dar Gola) هي استرقاق أطفاله أو أطفال أحد أقاربه. وكان تجار دارفور يشترون المسترق مقابل بضعة أرطال من الملح.
ومن الصعوبة تحديد أعداد الذين استرقوا في دارفور، سواءً أكان ذلك عن طريق التجارة أو الغزوات. غير أن أعداد الذين صُدروا لمصر قد تعطينا فكرةً عن حجم تلك التجارة وعن أعداد المسترقين. وكان الرحالة البريطاني براون يرى أن أي قافلة تحمل ألف مسترق ومسترقة تُعْتَبَر قافلة كبيرة. وكان بالقافلة التي عاد بها براون إلى مصر عام 1796م نحو 5,000 مسترق ومسترقة. وبحسب ما جاء به كاتب فرنسي كان قد رافق الامبراطور نابليون بونابرت في رحلته لمصر، فقد كان عدد المسترقين الذين يصلون مصر سنويا يبلغ 3,000. غير أن كاتباً فرنسياً آخر (اسمه جيرارد Girdard) قدر في عام 1799م أن عدد المسترقين الذين يبلغون مصر من دارفور كان يتراوح بين 5,000 و6,000 مسترق كل عام. وذكر كاتب فرنسي آخر (اسمه لابانوس Lapanous) أن ابن سلطان دار فور كان قد قاد قافلة إلى مصر تحمل ما يصل إلى 12,000من المسترقين.
ومهما يكن رأينا في تقديرات أولئك الكتاب الفرنسيين، فلا بد من التأكيد أن أعداد المسترقين كانت في زيادة مضطردة كل عام بسبب ازدياد الطلب على المسترقين بمصر في تلك السنوات. ومنذ عام 1796م طلب حكام مصر من سلاطين دارفور أربع مرات إرسال المزيد من المسترقين. وبعث المماليك ممثلاً لهم في عام 1796م لدارفور ليطلب مثل تلك الزيادة. وبعث نابليون برسالتين في عامي 1798 و1800م طالباً إرسال 4,000 من المسترقين (بحسب ما جاء في كتاب سي هارولد C. Harold المعنون "بونابرت في مصر Bonaparte in Egypt". وأرسل محمد علي باشا في عام 1918م حملة تجارية إلى دارفور ووداي لذات الغرض. ولم تحدث الزيادة في الطلب على المسترقين السود بسبب زيادة الأعمال في مجال الخدمة المنزلية بمصر والدول الأخرى، ولكنها ربما كانت بسبب إحياء ممارسة تجنيد المسترقين السود في جيوش الدولة، تلك الممارسة القديمة التي كادت أن تُنَسَّى. وكانت رغبة محمد علي باشا في الحصول على مسترقين سود من دارفور بمثابة إيذان أو انذار لغزوه للسودان في 1821م من أجل تحقيق هدفه المتمثل في تجنيد السود للعمل في جيشه.
وكانت مجموعة "الجلابة" هي التي أدت دوراً مهماً في تجارة المسافات طويلة تلك؛ إذ كانوا يعملون وسطاءً بين مصادر المسترقين والأسواق الأجنبية. غير أن صعود نجم أولئك "الجلابة" لم يكن يعتمد على المسترقين فحسب، بل كان يعتمد على عدد من البضائع الأخرى (وبالإضافة لذلك لم تكن نشاطاتهم التجارية تقتصر على دارفور وحدها، أو "درب الأربعين"، ولكنها كانت تمتد لمراكز تجارية في وداي، خاصة نيرمو Nirmo). وباستثناء فترة انقطاع قصيرة بين عامي 1810 و1817م، واصل "الجلابة" في تجارتهم عبر "درب الأربعين" لمقابلة الطلب المتزايد في مصر. غير أن التجارة عبر "درب الأربعين" في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بدأت في التقلص لسببين هما زيادة أعداد النهابين وقطاع الطرق عند الحدود بين دارفور وكردفان، وظهور طبقة جديدة من تجار الرقيق الذين كانوا يعملون في جنوب دارفور، وصاروا في الغالب ينقلون مسترقيهم عبر كردفان إلى مدينة الأبيض بعد أن ساءت العلاقات بين الإدارة التركية – المصرية وسلطنة الفور. وأفضى ذلك التدهور في العلاقات السياسية لانتصار دارفور في عام 1874م. ومع اشتداد المطالبة بمنع تجارة الرقيق، غدا مصير "درب الأربعين" محتوماً.
لقد كان الغزو التركي - المصري عام 1821م قد مهد لمرحلة جديدة في تاريخ تجارة الرقيق في السودان. ففي البداية كانت للحكومة المصرية مصلحة راسخة في الحصول على المسترقين السود للحفاظ على إمدادات منتظمة لجيشها. والواقع أنه حتى قبل الغزو، أعلن محمد علي باشا في عام 1235هـ (1819 – 1820م) عن احتكار جميع الواردات القادمة من السودان بما في ذلك الرقيق والعاج والصمغ، واستولى على كل وكالات "الجلابة"، وهي وكالات كانت تتعامل في كل ما يتعلق ببيع المسترقين في القاهرة.
وما إن اكتملت عملية غزو السودان حتى قامت حكومة العهد التركي - المصري بغارات متقطعة لجمع المسترقين، خاصة في منطقتي الفونج وجبال النوبة. وأصبحت مثل تلك الغارات دوريةً وأكثر تنظيماً بين عامي 1824 و1832م. وفي عام 1826م، بُعِثَتْ أول مجموعة لتحارب الشلك على النيل الأبيض. وفي العام التالي، أُرْسِلَتْ غارة مماثلة ضد الدينكا، حيث أُسِرَّ منهم 500 شخص. وفي حملة ثالثة في منطقة غَيْرُ مُتَطَوِّرة، أُسر حوالي 5,000 مختطف، احتفظت الحكومة بنصفهم، ومنحت النصف الآخر للجنود، ربما عوضاً عن الرواتب. وفي المقابل، باع أولئك الجنود من مُنِحُوا لهم من المسترقين لتجار دنقلا، الذين كانوا يشترون في بعض الأحيان المسترقين من زعماء وثنيين مستقلين. ووسعت المكاسب الهائلة التي حققها المسؤولون الأتراك المصريون الذين عملوا في السودان من هذه الحملة نطاق الأطراف المتورطة في الرق. فبالإضافة إلى الحكومة، كان هناك للموظفين الأتراك والمصريين و"الجلابة" منافس آخر، وهم التجار الذين قدموا من أوروبا. وفي بدايات عام 1838م، تم الإبلاغ عن قيام رجل فرنسي بشحن قوارب محملة بالمسترقين والمسترقات عبر النيل إلى مصر. وربما تم إخراج "الجلابة" من العمل في تجارة الرقيق جزئياً بسبب احتكار السلطات التركية - المصرية للصادرات السودانية، الذي امتد إلى السودان في عام 1824م، ولم يتم إلغاء ذلك الاحتكار إلا في عام 1848م. كما عانى "الجلابة" أيضاً من منافسة التجار الأوروبيين الذين كان قد سُمح لهم بالتجارة في السودان.
وعلى الرغم من أن التجار الأوربيين كانوا قد رحبوا بإلغاء احتكار التجارة، إلا أنهم لم يكونوا راضين عن استبعادهم من الدخول في تجارة العاج العالية الأرباح. فقد كان حملات الحكومة هي وحدها المسموح لها بجمع العاج، وهي في طريقها لفتح أبوب التجارة عبر النيل الأبيض. وأخيراً سُمح للتجار الأوربيين (في عام 1851م) بإرسال حملاتهم الخاصة عبر النيل الأبيض لجمع العاج. وما أن جاء عام 1859م حتى كان ما لا يقل عن خمسين مركباً قد غادرت الخرطوم وهي محملة بالعاج (بحسب ما ورد في كتاب ريتشارد غري "تاريخ جنوب السودان بين عامي 1838 – 1889م A History of the Southern Sudan"، الصادر عام 1961م).
وكان التجار الأوربيون في البداية يعملون في تجارة العاج فقط (خاصة في منطقة باري Bari)، ولم يمارسوا تجارة الرقيق. ولكن – لعوامل عديدة خارج نطاق هذا المقال – تغير ذلك الوضع سريعاً وتحول لعداء صريح. لذا، عوضاً عما كانوا يؤمله التجار الأوربيون من تعاون تجاري مشترك، لجأوا للإغارة على "القبائل المعادية" من أجل ضمان الحصول على العاج. وفي غضون تلك الغارات حصل التجار الأوربيون على "سلعتين" أخريين: الرقيق والأبقار. وكانت "السلعتان" في غاية الأهمية والفائدة لعملية الحصول على العاج. ومن أجل حماية وتقوية أنفسهم ضد أعدائهم، أقام التجار الأوربيون "زرائب" (أو معسكرات) استخدموها كمواقع حامية (garrison posts) ومراكز تجارية. كذلك عينوا عدداً من المستعربين المسلحين من شمالي السودان للخدمة في حراسة في تلك "الزرائب"، وللمساعدة في شن هجمات على "القبائل المعادية". لذا كان أولئك التجار الأوربيون يبيعون من يسترقونهم لتغطية تكاليف "الزرائب" التي أقاموها، خاصة دفع مرتبات السودانيين المستعربين الذين يعملون معهم، وكذلك مرتبات الحمالين والخدم وغيرهم. واستخدم التجار الأوربيون الأبقار في مقايضة العاج من أفراد قبيلتي الدينكا والنوير. ومع تزايد ندرة العاج في مناطق بحر الجبل التي كان يحصلون عليه منها، وارتفاع أسعار الفائدة التي يفرضها الدائنون في الخرطوم، لم يعد أولئك التجار بقادرين على الاستمرار في الاعتماد على تجارة العاج وحدها؛ لذا عملوا في تجارة الرقيق. وبذلك صارت تجارة الرقيق جزءاً لا يتجزأ من تجارة العاج، وشرع أصحاب "الزرائب" في الاتجار بالمسترقين، إما ببيعهم محلياً، أو بنقلهم بالمراكب إلى الخرطوم (استشهد كاتب المقال هنا بما ورد في كتاب ريتشارد غري المذكور أعلاه. المترجم). غير أنه بحلول عام 1863م كان الرواد من أولئك التجار البريطانيين قد انسحبوا من منطقة النيل الأبيض، وشرعت أعداد متزايدة من تجار عرب الشمال في أخذ مكانهم. وقاد انسحاب التجار البريطانيون إلى ظهور "أمراء تجار" أثرياء في مناطق النيل الأبيض التي لم تكن تقع تحت سيطرة الحكومة. وفي سعى هؤلاء للحصول على العاج، لجأوا أيضاً للاتجار في الرقيق من أجل تعويض خسائرهم. وكان من أنجح أولئك التجار العرب رجل مصري اسمه محمد أحمد العقد al - Aqqad (استشهد كاتب المقال هنا بما ورد في كتاب ريتشارد غري المذكور أعلاه، وبكتاب جورج نيفيل ساندرسون المعنون "England, Europe and the Upper Nile" الصادر عام 1965م. المترجم(.
وفي ذات الوقت تقريباً، شهدت منطقة بحر الغزال تطوراً مماثلاً في تجارة العاج - الرقيق، وإن كان مع اختلاف رئيسي واحد: لم يكن في تلك المنطقة تاجر رقيق أوروبي واحد، وكانت تلك التجارة مقصورة على العرب السوريين والمصريين والسودانيين. وكانت الصلات بين الجزء الشمالي – الغربي في تلك المنطقة وكردفان ودارفور صلات قديمة. وقد سبقت لنا الإشارة إلى الغارات التي كان يشنها الفور وعرب البقارة على مناطق الفرتيت وبحر الجبل، إضافة للأنشطة "الجلابة" التجارية. وكان هؤلاء التجار المتجولون يستبدلون رؤوس أموالهم الصغيرة من الأقمشة القطنية والخرز والنحاس بالعاج والمسترقين. وكان نجاحهم يعتمد إلى حد كبير على رضا وتعاون الزعماء المحليين الذين كان "الجلابة" يدفعون لهم رسوماً في مقابل السماح لهم بمزاولة التجارة في مناطقهم (أشار الكاتب في الحاشية - مستشهدا بكتاب ريتشارد غري المذكور آنفا - إلى أن أهم زعيم محلي اشتغل بتجارة الرق كان هو زعيم الزاندي موبي Mopoi الذي كان يتلقى الأسلحة والذخائر والسلع التجارية في مقابل الآلاف من المسترقين... المترجم). وكان التجار المتجولون يسلكون طرقاً غير مباشرة إلى كوبي والأبيض وهم ينقلون المسترقين. غير أن ذلك النمط التقليدي للتجارة تغير بعد فتح الطريق النهري إلى الخرطوم في حوالي عام 1850م.
ومع اكتشاف ذلك الطريق الجديد، سارع التجار السوريون والمصريون (والسودانيون لاحقاً) للحصول على العاج. وحذوا حذو نظرائهم في بحر الجبل فأقاموا "الزرائب"، ووظفوا خدماً وحراساً مسلحين من الشمال. وكانوا يمارسون أعمالهم في أوساط القبائل المسالمة التي كانت تقطن المناطق الواقعة بين قبيلتي الدينكا والزاندي. غير أنهم بعد أن استنزفوا كل ما في تلك المناطق من عاج، ذهبوا بمساعدة "قوات جمع الرقيق" التي أسسوها، لمناطق أبعد في حوض النيل والكونغو، ودخلوا للكنغو نفسه. وانتشرت بعد ذلك الكثير من المستوطنات التجارية المسورة في كل تلك المناطق. وكان بعض التجار يمتلكون العديد من "الزرائب" التي تحتوي على مرافق تجارية منظمة. وبالإضافة لحصولهم على العاج، كانت قوات أولئك التجار تغزو القبائل المحلية وتنهب أبقارها وتسترق سكانها، تماماً مثلما كانت تفعل في النيل الأبيض. وصارت تجارة الرقيق هنا أيضاً جزءاً لا يتجزأ من تجارة العاج.
وكانت قائمة "أمراء التجار" تضم بعض المصريين الأقباط مثل عبد المسيح غطاس، والمصريين المسلمين مثل علي أبو عمري وكنداوي بيه؛ والمغربي محمد البلالي والتونسي كوكوك Kucuk علي. وكان أشهر التجار السودانيين هو الزبير باشا رحمة، الجعلي العربي الذين كان يسيطر من "ديم الزبير" على أعمال تجارية واسعة في غرب بحر الغزال.
وكان الجلابي العادي الذي كان يمثل رأس الرمح للنشاطات التجارية العربية في المنطقة يجد الحماية وفرصاً عديدة للتجارة حول تلك "الزرائب". وعلى الرغم من أن بعضهم كان قد واصل في التجوال بين مختلف القري حاملاً بضاعته برأس مال قليل، إلا أنه كان هناك منهم من صاروا وكلاء لتجار دارفور وكردفان الأغنياء. وفي أواخر ستينيات القرن التاسع عشر كان ارتباط "الجلابة" بملاك تلك الزرائب قد أفضى لاتساع حركة تجارة الرقيق، التي كانت تزود الأسواق في كردفان ودارفور، وفي النهاية مصر والجزيرة العربية، بالمسترقين والمسترقات. وكانت أعداد أولئك الذين نُقِلُوا من بحر الغزال أكبر من أعداد الذين أُرْسِلُوا من النيل الأبيض بالمراكب والبواخر.
كما أن الاستغلال التجاري المتزايد لجنوب السودان، والذي أدى في أعقابه إلى تجارة الرقيق، ترافق كذلك مع الجهود المتزايدة للحد من هذا الشر، على الرغم من أن حكام السودان الأتراك والمصريين كانوا قد حاولوا منذ بعض الوقت حظر تجارة الرقيق، إلا أن جهودهم لم تنجح. وقدم إبرام اتفاقية تجارة الرقيق الإنجليزية- المصرية في أغسطس 1877م إطاراً فعالاً لإنهاء تجارة الرقيق في السودان بحلول عام 1889م. وعلى الرغم من استمرار تجارة الرقيق، إلا أن إغلاق جميع الطرق التي تنقل المسترقين خارج السودان ساعد في القضاء على تلك التجارة الشريرة المُسْتَقْبَحَة.
******* ******** **********
1/ تجد في هذا الرابط مقالاً غربياً حديثاً عن "درب الأربعين": https://shorturl.at/ir8MW
2/ أشار الكاتب هنا إلى ورقة للبريطاني G. K. C. Hebbert نشرت عام 1925م في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" ذكر فيها أنه كان لبقارة الرزيقات والهبانية رقيق يسمونهم "باندلا" Bandala أو "ماندلا" Mandala .
alibadreldin@hotmail.com
SOME ASPECTS OF THE ARAB SLAVE TRADE FROM THE SUDAN - 7th to 19th CENTURY
يوسف فضل حسن Yusuf Fadl Hassan
تقديم: هذه ترجمة للجزء الثالث والأخير مما ورد في مقال طويل للأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن (1931- )، نُشِرَ عام 1977م في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" في صفحات 85 – 106. والمقال – كما ذكر المؤلف في الحاشية – هو نسخة منقحة من ورقة ألقاها أمام "برنامج دراسات الشرق الأوسط" بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن في عام 1974م.
والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن غنِيّ عن التَّعريف، ويمكن الاطلاع على سيرته الذاتية ومؤلفاته في هذا الرابط: https://tinyurl.com/53skxv9s
المترجم
********* ********** ************
كان معظم الذين يُعرضون للبيع رقيقاً في شندي هم من الأحباش ونوبة سنار، ومن السكان الوثنيين في المناطق المجاورة لدارفور، مثل بورنو Bornu ودار سيلا Dar Silla، خاصة بين الفرتيت والباندا والفاتيقو Fatigo والباقجا Bagja. وربما كان تباعد المسافات بين تلك المناطق يشير إلى أن "ملكية" أولئك المسترقين كانت تتغير لعدد من المرات قبل بلوغهم وجهتهم الأخير. وكان تجار سواكن يشترون نحو ألف مسترق (من كل قافلة؟ المترجم)، ويُذهب بألف وخمسمائة مسترق ومسترقة إلى مصر، وتُبَاعُ البقية محلياً. والجدير بالذكر أن مصدرين فرنسيين كانا قد قدرا عدد المسترقين الذين تجلبهم قافلة سنار إلى القاهرة عند نهاية القرن الثامن عشر بـ 300 – 400 و150، على التوالي.
وبحسب ما جاء في كتاب بيركهاردت فقد كان الحداربة هم في الغالب الأعم من يشترون المسترقين في شندي وسنار والأبيض لبيعهم في الجزيرة العربية. والحداربة هم أغنى التجار العرب (أو المستعربين) وأكثرهم عدداً، وكان يبيعون مسترقيهم ويشترون بما يجنونه من أموال مختلف البضائع الهندية. وكانوا يرسلون المسترقين عن طريق البحر الأحمر عبر سواكن (التي هي أهم مركز تجاري لتجارة الرقيق بعد القاهرة ومصوع) إلى الحجاز واليمن.
غير أنه، بحلول نهاية القرن الثامن عشر، طغت قوافل الفور التي كانت تحمل التجارة إلى مصر عبر "درب الأربعين" على الأهمية التجارية لشندي بحسبانها محوراً لطريق التجارة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. ويرجع أقدم ذكر لهذا الطريق إلى عام 1689م. وقد وصفه الرحالة البريطاني وليام براون (1768 - 1813م) ببعض التفصيل، واستطاع الوصول إلى سجل قوافل المسترقين التي وصلت إلى القاهرة منذ عام 1150 إلى عام 1735م. و"درب الأربعين" هو شريان دارفور لمصر (1)، وكان يبدأ من "أوري Ure" التي لم تعد موجودةً منذ القرن السابع عشر؛ وحلت محلها "كوبي" بعد عام 1750م، التي غدت المركز التجاري الرئيس. وكانت "كبكابية" هي أيضاً مركزاً تجاريا آخر. ويسير الطريق من "كوبي" إلى سواري Suwayri، وهي آخر نقطة في الحدود. ثم يذهب الطريق عبر الصحراء عبر واحة سليمة، وفيها يلتقي الطريق مع طريق سنار – شندي، وأخيراً يسير عبر واحات الخارجة، ومنها إلى أسيوط. وهذا طريق آمن نسبياً. وفي تلك المراكز التجارية كان تجار السودان النيلي (مثل "الجلابة" من الدناقلة والجعليين)، يتزوجون من نساء السكان المحليين، ويمولون قوافل التجارة وينظمونها. ومع ذلك، يبدو أن السيطرة النهائية على التجارة لمسافات طويلة، وتنظيمها وسلامتها كانت تقع على عاتق السلطان، الذي لا تستطيع أي قافلة مغادرة كوبي بدون إذنه. وكانت القوافل تبدأ عادةً بقيادة السلطان نفسه (أشار الكاتب في الحاشية إلى أن المؤرخ أوفاهي أخبره بأنه في عام 1850م كان هناك 32 تاجراً (يسمونهم خبراء؟ Khabris، كانت لهم زرائبهم الخاصة في كوبي. المترجم). وكان السلطان، بحسبانه أكبر تاجر في البلاد، يبعث مع كل قافلة بضاعته الخاصة، ويكلف مسترقيه أو ممثليه للتجارة باسمه في مصر والبلدان المجاورة الأخرى. وفي بعض الأحيان كان السلطان يرسل قوافله الخاصة إلى القاهرة. وربما كان سبب تدخل الدولة هو حاجة سلاطين دارفور إلى مسترقين يعملون لديهم. ويبدو أن عدداً كبيراً من المسترقين الذين تم الحصول عليهم، إما من خلال الجزية المدفوعة للسلطان، أو في الغارات التي أقرها، كانوا يُحْتَفَظُ بهم لاستخدام السلطان. أما بقية المسترقين فكانوا يباعون في الأسواق. وفي دارفور (وكذلك في وداي)، كان يُحْصَلُ على الرقيق في غالب الأحوال من مناطق القبائل الوثنية إلى الجنوب، والتي تمتد تقريباً بين بحر الغزال في الشرق وأدواوا (Adawaw) في الغرب. وذكر الرحالة البريطاني براون بأن المسترقين كان يُجْلَبُونَ من مناطق عديدة (ذكر منها الكاتب Dar Kulla (Goula), Dar Runga, and Gnem -Gnum .المترجم). وبحسب ما جاء كتاب محمد بن عمر التونسي المعنونVoyage on Ouaday ، فقد كان المسترقون يُجْلَبُونَ من شالا ومن (عين) فرح، وبيانقا Bynga ومن dar gona و dar Ronton. وكما ذكر بيركهاردت آنفاً كان يُؤْتَى بالمسترقين من الفرتيت والباندا وقبائل أخرى غير محددة (مثل فاتقيو والباغا)، وقد يكون المقصود بـ "الباغا" هم البيغو Baygo الذين كانوا يعيشون في البدء على بحر الغزال، والذين كان سلطان الفور يتلقى منهم الجزية (التي تقتصر على الفتيات). غير أنه بعد اعتلاء محمد الفضل لعرش السلطنة (1802 – 1839م)، الذي كانت أمه من البغيو، أعلن عن عتق/ تحرير كل أفراد تلك القبيلة، بحسب ما أورده هارولد ماكمايكل في كتابه عن تاريخ العرب في السودان.
وبحسب ما ذكره الرحالة البريطاني براون، فقد كان من المعتاد في دارفور ووداي دفع الجِزْي بمسترقين يتم أسرهم في الغارات، أو بالشراء في المناطق المذكورة أعلاه. ومع ذلك، وعلى عكس سلطنة وداي التي كانت قد اعتادت على الإغارة على مناطق خاصة لصالح السلطان، فإن سلطان الفور لم يقم بنفسه بأي غارات تقريباً. وكان يلجأ عادةً إلى إصدار تصريح يسمى " السلطيّة" وهي "حملة مسلحة (أو غزوة) غرضها الحصول على الرقيق" من مناطق الجنوب أو من الجنوب الغربي. وكان مثل ذلك التصريح يُمْنَحُ للشخص الذي يمكنه جمع رأس المال اللازم لتغطية تكلفة مثل ذلك العمل. وبعد انتهاء الحملة يلزم من نظمها أن يعطي السلطان خُمس ما حصل عليه في "غزوته" من مسترقين وغنائم أخرى.
وقبل مغادرته إلى المنطقة المخصصة للغارات، كان على منظم "الغزوة" أن يجند الرجال ويؤمن رأس المال اللازم للمؤن. وعلاوة على ذلك، نظراً لأن العديد من المسترقين كانوا يُشْتَرَوْنَ بالفعل في المنطقة الجنوبية، كان على منظم "الغزوة" أن يحمل معه أيضاً السلع التجارية المطلوبة للمقايضة مثل القماش والملح وأساور النحاس والخرز. وكانت مجموعة "الجلابة" هي التي تقدم عادةً ذلك الائتمان المطلوب. ومن أجل تحقيق أقصى قدر من الربح، كان بعض "الجلابة" يرافقون الحملة، حيث سيكسبون المزيد من المسترقين مقابل رأس مالهم مما لو اختاروا البقاء وراءهم. وكان عدد أفراد الحملة يعتمد إلى حد كبير على الائتمان الذي كان أصحاب التصديق يحصلون عليه من ممولهم. وقد حصل بعض القادة على رأس المال للحصول على حوالي 500 مسترق. كما ورد أنه كانت تُجرى حوالي 60 غزوة كل عام. وعند بلوغ الحملة لمقصدها، يبدأ الجنود في إقامة "زريبة" لحجز الذين يُقْبَضُ عليهم /عليهن فيها. وكانت تلك الطريقة في الحصول على المسترقين والمسترقات تمارس منذ بدايات القرن التاسع عشر. وفي بعض المناطق، وعقب مرور خمسة عقود، أقيمت مستوطنات تجارية شبه مستدامة، يطلق على الواحدة منها اسم "ديم" في جميع المناطق، وكانت تمتد إلى منطقة النيل الأبيض.
وكان عرب البقارة في جنوب دارفور والفولاني المهاجرون يقومون بشن حملات لجمع الرقيق، ويبيعونهم للتجار أو يقدمونهم للسلطان كجزية (2). وفي ذات الوقت ذهب "جلابة" آخرون جنوباً وهم لا يملكون غير ما يحمله الواحد منهم من بضائع متنوعة على ظهر حمار لبيعها لرجال ونساء القبائل الوثنية. وفعل مثل ذلك أيضا "جلابة" كردفان ودارفور الأثرياء لذات الغرض. وعند منتصف القرن التاسع عشر استقر هؤلاء بالقرب من "الزرائب" و"الديوم" حيث كانوا يعملون كوسطاء بين "جلابة" الشمال ومصادر الرقيق في الجنوب. وبحسب ما أتى به الرحالة بيركهاردت فقد كان "الجلابة" يزورون الفرتيت في أماكنهم، الذين كانوا يبيعون لهم أطفالهم نظير منحهم الذرة والدخن.
وبحسب ما ذكره الرحالة البريطاني براون، كان "الجلابة" يحصلون على احتياجاتهم من قادة حملات الرقيق، ولكنهم كانوا أيضاً يبتاعون الرقيق من التجار المحليين. فعلى سبيل المثال كانت عقوبة ارتكاب شخص لجرم ما في دار قولا (Dar Gola) هي استرقاق أطفاله أو أطفال أحد أقاربه. وكان تجار دارفور يشترون المسترق مقابل بضعة أرطال من الملح.
ومن الصعوبة تحديد أعداد الذين استرقوا في دارفور، سواءً أكان ذلك عن طريق التجارة أو الغزوات. غير أن أعداد الذين صُدروا لمصر قد تعطينا فكرةً عن حجم تلك التجارة وعن أعداد المسترقين. وكان الرحالة البريطاني براون يرى أن أي قافلة تحمل ألف مسترق ومسترقة تُعْتَبَر قافلة كبيرة. وكان بالقافلة التي عاد بها براون إلى مصر عام 1796م نحو 5,000 مسترق ومسترقة. وبحسب ما جاء به كاتب فرنسي كان قد رافق الامبراطور نابليون بونابرت في رحلته لمصر، فقد كان عدد المسترقين الذين يصلون مصر سنويا يبلغ 3,000. غير أن كاتباً فرنسياً آخر (اسمه جيرارد Girdard) قدر في عام 1799م أن عدد المسترقين الذين يبلغون مصر من دارفور كان يتراوح بين 5,000 و6,000 مسترق كل عام. وذكر كاتب فرنسي آخر (اسمه لابانوس Lapanous) أن ابن سلطان دار فور كان قد قاد قافلة إلى مصر تحمل ما يصل إلى 12,000من المسترقين.
ومهما يكن رأينا في تقديرات أولئك الكتاب الفرنسيين، فلا بد من التأكيد أن أعداد المسترقين كانت في زيادة مضطردة كل عام بسبب ازدياد الطلب على المسترقين بمصر في تلك السنوات. ومنذ عام 1796م طلب حكام مصر من سلاطين دارفور أربع مرات إرسال المزيد من المسترقين. وبعث المماليك ممثلاً لهم في عام 1796م لدارفور ليطلب مثل تلك الزيادة. وبعث نابليون برسالتين في عامي 1798 و1800م طالباً إرسال 4,000 من المسترقين (بحسب ما جاء في كتاب سي هارولد C. Harold المعنون "بونابرت في مصر Bonaparte in Egypt". وأرسل محمد علي باشا في عام 1918م حملة تجارية إلى دارفور ووداي لذات الغرض. ولم تحدث الزيادة في الطلب على المسترقين السود بسبب زيادة الأعمال في مجال الخدمة المنزلية بمصر والدول الأخرى، ولكنها ربما كانت بسبب إحياء ممارسة تجنيد المسترقين السود في جيوش الدولة، تلك الممارسة القديمة التي كادت أن تُنَسَّى. وكانت رغبة محمد علي باشا في الحصول على مسترقين سود من دارفور بمثابة إيذان أو انذار لغزوه للسودان في 1821م من أجل تحقيق هدفه المتمثل في تجنيد السود للعمل في جيشه.
وكانت مجموعة "الجلابة" هي التي أدت دوراً مهماً في تجارة المسافات طويلة تلك؛ إذ كانوا يعملون وسطاءً بين مصادر المسترقين والأسواق الأجنبية. غير أن صعود نجم أولئك "الجلابة" لم يكن يعتمد على المسترقين فحسب، بل كان يعتمد على عدد من البضائع الأخرى (وبالإضافة لذلك لم تكن نشاطاتهم التجارية تقتصر على دارفور وحدها، أو "درب الأربعين"، ولكنها كانت تمتد لمراكز تجارية في وداي، خاصة نيرمو Nirmo). وباستثناء فترة انقطاع قصيرة بين عامي 1810 و1817م، واصل "الجلابة" في تجارتهم عبر "درب الأربعين" لمقابلة الطلب المتزايد في مصر. غير أن التجارة عبر "درب الأربعين" في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بدأت في التقلص لسببين هما زيادة أعداد النهابين وقطاع الطرق عند الحدود بين دارفور وكردفان، وظهور طبقة جديدة من تجار الرقيق الذين كانوا يعملون في جنوب دارفور، وصاروا في الغالب ينقلون مسترقيهم عبر كردفان إلى مدينة الأبيض بعد أن ساءت العلاقات بين الإدارة التركية – المصرية وسلطنة الفور. وأفضى ذلك التدهور في العلاقات السياسية لانتصار دارفور في عام 1874م. ومع اشتداد المطالبة بمنع تجارة الرقيق، غدا مصير "درب الأربعين" محتوماً.
لقد كان الغزو التركي - المصري عام 1821م قد مهد لمرحلة جديدة في تاريخ تجارة الرقيق في السودان. ففي البداية كانت للحكومة المصرية مصلحة راسخة في الحصول على المسترقين السود للحفاظ على إمدادات منتظمة لجيشها. والواقع أنه حتى قبل الغزو، أعلن محمد علي باشا في عام 1235هـ (1819 – 1820م) عن احتكار جميع الواردات القادمة من السودان بما في ذلك الرقيق والعاج والصمغ، واستولى على كل وكالات "الجلابة"، وهي وكالات كانت تتعامل في كل ما يتعلق ببيع المسترقين في القاهرة.
وما إن اكتملت عملية غزو السودان حتى قامت حكومة العهد التركي - المصري بغارات متقطعة لجمع المسترقين، خاصة في منطقتي الفونج وجبال النوبة. وأصبحت مثل تلك الغارات دوريةً وأكثر تنظيماً بين عامي 1824 و1832م. وفي عام 1826م، بُعِثَتْ أول مجموعة لتحارب الشلك على النيل الأبيض. وفي العام التالي، أُرْسِلَتْ غارة مماثلة ضد الدينكا، حيث أُسِرَّ منهم 500 شخص. وفي حملة ثالثة في منطقة غَيْرُ مُتَطَوِّرة، أُسر حوالي 5,000 مختطف، احتفظت الحكومة بنصفهم، ومنحت النصف الآخر للجنود، ربما عوضاً عن الرواتب. وفي المقابل، باع أولئك الجنود من مُنِحُوا لهم من المسترقين لتجار دنقلا، الذين كانوا يشترون في بعض الأحيان المسترقين من زعماء وثنيين مستقلين. ووسعت المكاسب الهائلة التي حققها المسؤولون الأتراك المصريون الذين عملوا في السودان من هذه الحملة نطاق الأطراف المتورطة في الرق. فبالإضافة إلى الحكومة، كان هناك للموظفين الأتراك والمصريين و"الجلابة" منافس آخر، وهم التجار الذين قدموا من أوروبا. وفي بدايات عام 1838م، تم الإبلاغ عن قيام رجل فرنسي بشحن قوارب محملة بالمسترقين والمسترقات عبر النيل إلى مصر. وربما تم إخراج "الجلابة" من العمل في تجارة الرقيق جزئياً بسبب احتكار السلطات التركية - المصرية للصادرات السودانية، الذي امتد إلى السودان في عام 1824م، ولم يتم إلغاء ذلك الاحتكار إلا في عام 1848م. كما عانى "الجلابة" أيضاً من منافسة التجار الأوروبيين الذين كان قد سُمح لهم بالتجارة في السودان.
وعلى الرغم من أن التجار الأوربيين كانوا قد رحبوا بإلغاء احتكار التجارة، إلا أنهم لم يكونوا راضين عن استبعادهم من الدخول في تجارة العاج العالية الأرباح. فقد كان حملات الحكومة هي وحدها المسموح لها بجمع العاج، وهي في طريقها لفتح أبوب التجارة عبر النيل الأبيض. وأخيراً سُمح للتجار الأوربيين (في عام 1851م) بإرسال حملاتهم الخاصة عبر النيل الأبيض لجمع العاج. وما أن جاء عام 1859م حتى كان ما لا يقل عن خمسين مركباً قد غادرت الخرطوم وهي محملة بالعاج (بحسب ما ورد في كتاب ريتشارد غري "تاريخ جنوب السودان بين عامي 1838 – 1889م A History of the Southern Sudan"، الصادر عام 1961م).
وكان التجار الأوربيون في البداية يعملون في تجارة العاج فقط (خاصة في منطقة باري Bari)، ولم يمارسوا تجارة الرقيق. ولكن – لعوامل عديدة خارج نطاق هذا المقال – تغير ذلك الوضع سريعاً وتحول لعداء صريح. لذا، عوضاً عما كانوا يؤمله التجار الأوربيون من تعاون تجاري مشترك، لجأوا للإغارة على "القبائل المعادية" من أجل ضمان الحصول على العاج. وفي غضون تلك الغارات حصل التجار الأوربيون على "سلعتين" أخريين: الرقيق والأبقار. وكانت "السلعتان" في غاية الأهمية والفائدة لعملية الحصول على العاج. ومن أجل حماية وتقوية أنفسهم ضد أعدائهم، أقام التجار الأوربيون "زرائب" (أو معسكرات) استخدموها كمواقع حامية (garrison posts) ومراكز تجارية. كذلك عينوا عدداً من المستعربين المسلحين من شمالي السودان للخدمة في حراسة في تلك "الزرائب"، وللمساعدة في شن هجمات على "القبائل المعادية". لذا كان أولئك التجار الأوربيون يبيعون من يسترقونهم لتغطية تكاليف "الزرائب" التي أقاموها، خاصة دفع مرتبات السودانيين المستعربين الذين يعملون معهم، وكذلك مرتبات الحمالين والخدم وغيرهم. واستخدم التجار الأوربيون الأبقار في مقايضة العاج من أفراد قبيلتي الدينكا والنوير. ومع تزايد ندرة العاج في مناطق بحر الجبل التي كان يحصلون عليه منها، وارتفاع أسعار الفائدة التي يفرضها الدائنون في الخرطوم، لم يعد أولئك التجار بقادرين على الاستمرار في الاعتماد على تجارة العاج وحدها؛ لذا عملوا في تجارة الرقيق. وبذلك صارت تجارة الرقيق جزءاً لا يتجزأ من تجارة العاج، وشرع أصحاب "الزرائب" في الاتجار بالمسترقين، إما ببيعهم محلياً، أو بنقلهم بالمراكب إلى الخرطوم (استشهد كاتب المقال هنا بما ورد في كتاب ريتشارد غري المذكور أعلاه. المترجم). غير أنه بحلول عام 1863م كان الرواد من أولئك التجار البريطانيين قد انسحبوا من منطقة النيل الأبيض، وشرعت أعداد متزايدة من تجار عرب الشمال في أخذ مكانهم. وقاد انسحاب التجار البريطانيون إلى ظهور "أمراء تجار" أثرياء في مناطق النيل الأبيض التي لم تكن تقع تحت سيطرة الحكومة. وفي سعى هؤلاء للحصول على العاج، لجأوا أيضاً للاتجار في الرقيق من أجل تعويض خسائرهم. وكان من أنجح أولئك التجار العرب رجل مصري اسمه محمد أحمد العقد al - Aqqad (استشهد كاتب المقال هنا بما ورد في كتاب ريتشارد غري المذكور أعلاه، وبكتاب جورج نيفيل ساندرسون المعنون "England, Europe and the Upper Nile" الصادر عام 1965م. المترجم(.
وفي ذات الوقت تقريباً، شهدت منطقة بحر الغزال تطوراً مماثلاً في تجارة العاج - الرقيق، وإن كان مع اختلاف رئيسي واحد: لم يكن في تلك المنطقة تاجر رقيق أوروبي واحد، وكانت تلك التجارة مقصورة على العرب السوريين والمصريين والسودانيين. وكانت الصلات بين الجزء الشمالي – الغربي في تلك المنطقة وكردفان ودارفور صلات قديمة. وقد سبقت لنا الإشارة إلى الغارات التي كان يشنها الفور وعرب البقارة على مناطق الفرتيت وبحر الجبل، إضافة للأنشطة "الجلابة" التجارية. وكان هؤلاء التجار المتجولون يستبدلون رؤوس أموالهم الصغيرة من الأقمشة القطنية والخرز والنحاس بالعاج والمسترقين. وكان نجاحهم يعتمد إلى حد كبير على رضا وتعاون الزعماء المحليين الذين كان "الجلابة" يدفعون لهم رسوماً في مقابل السماح لهم بمزاولة التجارة في مناطقهم (أشار الكاتب في الحاشية - مستشهدا بكتاب ريتشارد غري المذكور آنفا - إلى أن أهم زعيم محلي اشتغل بتجارة الرق كان هو زعيم الزاندي موبي Mopoi الذي كان يتلقى الأسلحة والذخائر والسلع التجارية في مقابل الآلاف من المسترقين... المترجم). وكان التجار المتجولون يسلكون طرقاً غير مباشرة إلى كوبي والأبيض وهم ينقلون المسترقين. غير أن ذلك النمط التقليدي للتجارة تغير بعد فتح الطريق النهري إلى الخرطوم في حوالي عام 1850م.
ومع اكتشاف ذلك الطريق الجديد، سارع التجار السوريون والمصريون (والسودانيون لاحقاً) للحصول على العاج. وحذوا حذو نظرائهم في بحر الجبل فأقاموا "الزرائب"، ووظفوا خدماً وحراساً مسلحين من الشمال. وكانوا يمارسون أعمالهم في أوساط القبائل المسالمة التي كانت تقطن المناطق الواقعة بين قبيلتي الدينكا والزاندي. غير أنهم بعد أن استنزفوا كل ما في تلك المناطق من عاج، ذهبوا بمساعدة "قوات جمع الرقيق" التي أسسوها، لمناطق أبعد في حوض النيل والكونغو، ودخلوا للكنغو نفسه. وانتشرت بعد ذلك الكثير من المستوطنات التجارية المسورة في كل تلك المناطق. وكان بعض التجار يمتلكون العديد من "الزرائب" التي تحتوي على مرافق تجارية منظمة. وبالإضافة لحصولهم على العاج، كانت قوات أولئك التجار تغزو القبائل المحلية وتنهب أبقارها وتسترق سكانها، تماماً مثلما كانت تفعل في النيل الأبيض. وصارت تجارة الرقيق هنا أيضاً جزءاً لا يتجزأ من تجارة العاج.
وكانت قائمة "أمراء التجار" تضم بعض المصريين الأقباط مثل عبد المسيح غطاس، والمصريين المسلمين مثل علي أبو عمري وكنداوي بيه؛ والمغربي محمد البلالي والتونسي كوكوك Kucuk علي. وكان أشهر التجار السودانيين هو الزبير باشا رحمة، الجعلي العربي الذين كان يسيطر من "ديم الزبير" على أعمال تجارية واسعة في غرب بحر الغزال.
وكان الجلابي العادي الذي كان يمثل رأس الرمح للنشاطات التجارية العربية في المنطقة يجد الحماية وفرصاً عديدة للتجارة حول تلك "الزرائب". وعلى الرغم من أن بعضهم كان قد واصل في التجوال بين مختلف القري حاملاً بضاعته برأس مال قليل، إلا أنه كان هناك منهم من صاروا وكلاء لتجار دارفور وكردفان الأغنياء. وفي أواخر ستينيات القرن التاسع عشر كان ارتباط "الجلابة" بملاك تلك الزرائب قد أفضى لاتساع حركة تجارة الرقيق، التي كانت تزود الأسواق في كردفان ودارفور، وفي النهاية مصر والجزيرة العربية، بالمسترقين والمسترقات. وكانت أعداد أولئك الذين نُقِلُوا من بحر الغزال أكبر من أعداد الذين أُرْسِلُوا من النيل الأبيض بالمراكب والبواخر.
كما أن الاستغلال التجاري المتزايد لجنوب السودان، والذي أدى في أعقابه إلى تجارة الرقيق، ترافق كذلك مع الجهود المتزايدة للحد من هذا الشر، على الرغم من أن حكام السودان الأتراك والمصريين كانوا قد حاولوا منذ بعض الوقت حظر تجارة الرقيق، إلا أن جهودهم لم تنجح. وقدم إبرام اتفاقية تجارة الرقيق الإنجليزية- المصرية في أغسطس 1877م إطاراً فعالاً لإنهاء تجارة الرقيق في السودان بحلول عام 1889م. وعلى الرغم من استمرار تجارة الرقيق، إلا أن إغلاق جميع الطرق التي تنقل المسترقين خارج السودان ساعد في القضاء على تلك التجارة الشريرة المُسْتَقْبَحَة.
******* ******** **********
1/ تجد في هذا الرابط مقالاً غربياً حديثاً عن "درب الأربعين": https://shorturl.at/ir8MW
2/ أشار الكاتب هنا إلى ورقة للبريطاني G. K. C. Hebbert نشرت عام 1925م في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" ذكر فيها أنه كان لبقارة الرزيقات والهبانية رقيق يسمونهم "باندلا" Bandala أو "ماندلا" Mandala .
alibadreldin@hotmail.com