بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لإعدام الأستاذ محمود محمد طه: وقفتان
وقفة أولى: انطلاق الشارع والديمقراطية
تصادف الذكرى الثالثة والثلاثون لإعدام الأستاذ محمود محمد طه في يناير هذا العام انطلاق السودانيين في عاصمتهم ومختلف مدنهم في مظاهرات عارمة تدين سياسات النظام العسكري الإسلامي وتطالب بعودة الديمقراطية.
وهذه الانطلاقة الشعبية حلقة من حلقات نضال السودانيين المستمر ضد الأنظمة العسكرية وضد كل أشكال القهر، وتأكيد مجدّد لطموحهم الأصيل للعيش في ظل نظام ديمقراطي يحترم حرياتهم وكرامتهم. لقد كان التجسيد الأكبر والأنجح لذلك الطموح حتى الآن في تاريخنا المعاصر هو اللحظة الأكتوبرية في عام 1964 عندما نجح شعب أعزل ومسالم في إسقاط نظام عسكري بوسيلة العصيان المدني. إلا أن الخطر على الإنجاز الأكتوبري وعلى المكتسب الديمقراطي ما لبث أن أتى من اليمين واليسار. انطلق اليمين بقيادة حركة الإخوان المسلمين في حملة محمومة ضد اليسار تتوّجت بحل الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965. وكان ردّ فعل اليسار بعدها بفترة هو انقلاب العقيد جعفر نميري في مايو 1969 الذي ادّعى استبدال "الديمقراطية البرجوازية" بديمقراطيته "الثورية".
وكانت الفترة التي أعقبت سقوط نظام نميري في أبريل 1985 فترة ديمقراطية برلمانية تمتّع فيها السودانيون بحرياتهم الدستورية الأساسية، إلا أنها انقطعت بانقلاب الحركة الإسلامية في يونيو 1989. وفي واقع الأمر فإن بذرة انقلاب الإسلاميين تعود للحظة انتصارهم في نوفمبر 1965 عندما قامت الجمعية التأسيسية بحلّ الحزب الشيوعي بدعوى أنه حزب يروّج للإلحاد. كانت الحجة التي ألهب بها الإسلاميون الشارع حجّة غير ديمقراطية في أساسها، لأن الديمقراطية في أصلها نظام علماني محايد بإزاء الدين ولذا فإنها لا توفّر حماية لدين معين على حساب الأديان الأخرى ولا توفّر حماية خاصة وامتيازا للإيمان على حساب اللإيمان. إلا أن الحجّة نجحت، ومنذ تلك اللحظة فرض الخطاب الإسلامي المعادي للعلمانية وبالتالي للديمقراطية نفسه بوصفه الخطاب المهيمن والسائد والمرجعية الجديدة لكل قوى اليمين. وكانت المادة 126 التي أضافها الإسلاميون لقانونهم الجنائي عام 1991 هي ذروة تكريس هذا الخطاب.
إن نضال السودانيين من أجل استعادة ديمقراطيتهم سيظلّ ناقصا ومختلا إن لم يتأسس على الشرط العلماني. إن الدرس الكبير الذي يجب أن نخرج منه من واقع المأساة المستمرة لحكم الإسلاميين هو ضرورة فصل الدين عن الدولة والسياسة. وبدون هذا الشرط العلماني لن يستطيع السودانيون التأسيس لديمقراطية صحيحة ومعافاة ومستدامة تضمن لهم، ضمن ما تضمن، حرية الفكر والتعبير والمساواة بين المواطنين.
وقفة ثانية: المادة 126 وشجاعة التحدّي
ما بين الذكرى الثانية والثلاثين في يناير الماضي لإعدام الأستاذ محمود محمد طه بتهمة الرِّدّة والذكرى الثالثة والثلاثين هذا العام وقع أهم حدث في تاريخ المادة 126 إلى الآن وما نعتبره أهم حدث حتى الآن في قصة نضال السودانيين من أجل حرية الفكر والتعبير ونعني به ما حدث في مايو 2017 عندما أقدم الشاب محمد صالح الدسوقي على خطوة جريئة وصلبة وغير مسبوقة بأن طالب رسميا بتغيير صفته الدينية في سجله المدني من "مسلم" إلى "لاديني". كانت خطوة الدسوقي هذه خطوة لم يتحسّب لها النظام الإسلامي وخاصة أن من قام بها وُلد وترعرع في ظل التشريب العقائدي للنظام وسيطرته الشاملة على العملية التربوية ووسائل الإعلام. وبإزاء الصدمة غير المتوقعة لم يجد النظام في مصادره الإسلامية ما يسعفه حلّا مناسبا فلجأ لحيلة ألهمته إياها التجربة السوفيتية عندما كان السوفيت يلصقون بالمعارضين تهمة عدم التوازن النفسي والاختلال العقلي. ولقد كان الدسوقي محظوظا ومحقّا بأن غادر البلاد لأن النظام كان من الممكن أن يدمره عقليا بوضعه في مصحة نفسية (كما كان يفعل النظام السوفيتي) أو كان من الممكن أن يترك مهمة تصفيته لفرقة من فرقه العاملة خارج البنيات الرسمية.
إن الخطوة الجريئة التي أقدم عليها الدسوقي تكشف لنا عن الضعف الأصيل للمادة 126 ولاجدواها عندما تصطدم بالتحدي المشروع لما تنطوي عليه من قهر واستبداد. وعند التحليل نرى أنها مادة لا تعكس استبداد التصوّر الإسلامي فحسب وإنما تكشف أيضا عن تناقضه وعدم اتساقه الأخلاقي. فالمادة 126 تتويج لتصوّر يعطي المواطن السوداني غير المسلم الحق في أن يخرج من دينه ويدخل الإسلام ولكنه يجرّم فعل المواطن السوداني المسلم الذي يقرر الخروج من الإسلام ليعتنق دينا آخر أو يصبح لادينيا. وهكذا فالمادة تجسّد في موضوعها المباشر والعملي الذي يجرّم فعل الخروج من الإسلام استبداد التصوّر، بينما يُبرز التصورُ نفسُه بجلاء وهو يدعو الآخرين لترك أديانهم واعتناق الإسلام تناقضَه وعدمَ اتساقه الأخلاقي لأن قبول الآخرين للإسلام يتطلّب حرية الفكر والحق الإنساني لتغيير العقيدة التي تحجرها المادة 126 وشبيهاتها في بلاد إسلامية أخرى (ما نقوله هنا ينطبق على الواقع المعاصر الذي سقطت فيه الممارسة الجهادية التاريخية للإسلام).
إن فعالية المادة 126 وشبيهاتها تعتمد على فرض وترسيخ حالة كثيفة من الخوف الفردي والجماعي. ولكن ماذا عندما يظهر شخص مثل الدسوقي ويعلن ما وصفناه أعلاه بالتحدي المشروع للمادة وقهرها؟ ماذا عندما يقهر الفرد خوفه؟ هذه هي اللحظة التي تنهار فيها المادة 126 ولا تملك إلا رد فعل واحد وهو إعدام الخارج على الإسلام. وهذه هي اللحظة التي يجد الإسلام نفسه فيها في معارضة حقّين إنسانيين أصيلين: حق الحياة وحق حرية الفكر والتعبير. هذه المعركة خاضتها المسيحية قبل الإسلام وخسرتها، ولا تخالجنا ذرة من الشك أن ما حدث للمسيحية سيحدث للإسلام وأن نهاية المطاف ستكون قبول الحقوق الأساسية والتعايش معها حتى لو تعارض ذلك مع النصوص والممارسة التاريخية (مثلما حدث في حالة الرِّق الذي تجيزه الشريعة الإسلامية).
إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي نبتت فيه ظاهرة النفاق منذ فترته التأسيسية، وذلك أن هيمنته الشاملة كدين والقهر السياسي لدولته ما كان من الممكن ان يسمحا بنشوء فضاء معارض. هذا القهر للمعارضة، وخاصة المعارضة الدينية، جعل النفاق (الذي لطّف البعض وصفه فيما بعد باستخدام تعبير "التَّقِيَّة") جزءا من الواقع اليومي للمجتمعات الإسلامية عبر تاريخها. وعندما نقول هذا لا نعني بالطبع أن الشك في الإسلام ومعارضته قد تمّ محوهما محوا تاما. لقد ظل تراث الشك في الإسلام ونقده وتجاوزه حيّا بدرجات مختلفة إلا أن التعبير عن ذلك ظلّ دائما ممنوعا وسريّا. وكتابات ممثلي هذه التيارات غالبا ما أُعدمت ولا نجد صداها في الغالب إلا في كتابات من يردّون عليهم ويذمّونهم.
إن المادة 126 وشبيهاتها هي امتداد لواقعِ رفضِ المعارضة هذا واضطهادها وقمعها الذي لازم الإسلام منذ نشوئه. والمادة في دورها المزدوج الذي يكرّس واقع القهر الفكري من ناحية ويدعم واقع النفاق من ناحية أخرى تشكّل ركيزة صلبة للنظام الإسلامي لا يستطيع الاستغناء عنها. وهكذا فإن المادة 126 لن تزول نهائيا في تقديرنا إلا بذهاب النظام الإسلامي وعودة الديمقراطية. إلا أن زوال هذه المادة يجب أن يبدأ الآن بمواجهتها فكريا وكشف انتهاكها لحقّ الحياة وحقّ حرية الفكر والتعبير وتعرية الضرر النفاقي والانتكاس الأخلاقي اللذين يرتبطان بها.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم.
kassalawi99@hotmail.com