تجديد إقتراح وضع السودان تحت الوصاية الدولية
بورفيسور مهدي أمين التوم
21 March, 2022
21 March, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
بينما الإنقلابيون متشبثون بالحكم دون سند دستوري أو شعبي، و متمادون في التحطيم و العبث بالدولة و أهلها في كل إتجاه ، وبينما الأحزاب لاهية تتقاذفها الأهواء و ضبابية الرؤى ، و بينما تكوينات المقاومة الشبابية متمادية في سخطها علي كل شيئ و في رفضها للآخرين شخوصاً و تاريخ ، يزداد إنحدار السودان نحو الهاوية و تتفاقم الأمور فيه بشكل مزعج و متسارع بالشكل الذي جعله لم يعُد ذلك الوطن الذي كان أو الذي تَطَلَّع له جيل عشرينيات القرن العشرين الذين كانوا مشبعين من ناحية بروح معارك كرري الجهادية ، و خارجين من ناحية أخرى برؤى إنفتاحية و تحررية أشعلتها معارك الحرب العالمية الأولى التي نفثت فيهم روحاً جديدة تصبو للحرية و للإنعتاق من ذُل الإستعمار ، تشبثاً بحق الحياة في وطنٍ حرٍ مستقل ، يحكمه بنوه ، وتظلله مفاهيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية .تلك الظروف حدت برجل في قامة البطل علي عبداللطيف أن يصدح بصرخة سجلها له التاريخ في شكل نداء أو مقالة بعنوان :- مطالب الامة السودانية ، كانت بداية لكفاح سياسي وثوري طويل و شاق ، إنتهى بخروج الإستعمار ، و إعلان إستقلال السودان في مطلع يناير من عام 1956م .
لكن ماحدث خلال الستة والستين سنة التي أعقبت الإستقلال ، يمثل في مجمله خيبة قومية لأجيال تعاقبت منذ إنهيار مؤتمر الخريجين في أربعينيات القرن العشرين وحتى يوم الناس هذا ، مما يستوجب بعثاً جديداً ونداءً متجدداً في هيئة مطالب مستحدثة و عاجلة للأمة السودانية في تيهها الحالي علها تلتفت قبل ضياع السودان نهائياً و إلى الأبد . إن الوطن ظل لعقود طويلة يئن تحت محنٍ و إحنٍ و إبتلاءاتٍ و خيبات سياسية و إقتصادية و مجتمعية تهدد بفنائه، مما يستوجب البحث عن مخرج مستنبط من من خارج الصندوق ، بحثاً عن بداية جديدة و بعث جديد للوطن من خارج الاُطر التقليدية الداخلية التي أوردت السودان و أهله موارد الهلاك و المسغبة المهيمنة علي كل نواحيه حالياً .
دعونا نعترف بداية بأننا قد فشلنا كلنا، مدنيين و عسكريين و تكنوقراط و سياسيين، في إدارة وطننا سياسياً و إقتصادياً . لقد تعاقبت علينا أنظمة شمولية قاهرة ، و أنظمة حزبية فاشلة ، وتولى أمورنا من خابت آمالنا فيهم من جيل الإستقلال ، وما تلاهم من أجيال عسكرية ومدنية ، وأكملت ثلاثينية الإنقاذ رسالة الخراب و التخريب ، بينما غرق مؤخراً تكنوقراط الثورة في بحار الضعف و التردد و فقدان الإتجاه ، فاصبح في كل حين يسيطر على الأفق مَن ضعفت فيهم الوطنية و صِدْق الإنتماء ، و قويت فيهم الأنانية و التفكير الفردي الذي يجعل الذات هي المحور و ماعداها يذهب إلى الجحيم ، حتى و إن كان الوطن و أهله !!!
بالإضافة إلى هذا ففي ظني أن ترك الأمر للأجيال الشبابية الصاعدة المسيطرة علي الساحة حالياً ، لا يستقيم و لا يطمئن لأنها ببساطة غير مؤهلة بشكلٍ كافٍ ، لا أكاديمياً و لا وطنياً، لتحقيق آمال الأمة السودانية في الحرية والعدالة و السلام ، و لا أظنها مستوعبة بقدر مطمئن لمفاهيم النهضة الإجتماعية و التنمية الإقتصادية ، لأنها رغم حماسها و إندفاعها الظاهري ، لا تمتلك الحس اللازم و الصحيح لهذه المفاهيم ، ولهذا لا تُقَدِّر أهميتها ، وضرورة تحقيقها ، و عِظَم عبء المحافظة عليها . ليس هذا فقط بل حتى تأهيلها العلمي و الأكاديمي ، منذ سُلم نميري التعليمي الفاشل وحتى ثورة التعليم العالي الإنقاذية التي أطاحت بسمعة الخريج السوداني ، لا يؤهلها لإخراج الوطن من ورطته و مأذقه الحالي .
أما مَن لا يزالون على قيد الحياة من سياسيي ما بعد الإستقلال وحتى الآن ، فإن الفشل مُجسَّد فيهم وفي ما خلفوه من بصمات سالبة وعجز ظاهر ، في كل شئون الحياة السودانية ، ليس أقله تركهم البلاد لحكم العسكر لأكثر من ثلثي عُمر الإستقلال !!!
لهذا و لغيره مما لا تخطئه عين المراقب و المتابع من خارج دوائر ما يسمون بالمجموعات الفاعلة في الساحة السياسية ، فإني أعتقد أن الخروج من هذه الورطة يقتضي التفكير جدياً و سريعاً في إنقاذ السودان من عبث بنيه بوضعه مؤقتاً تحت مظلة الوصاية الدولية لمدة عشرة سنوات يكون خلالها تحت رعاية مجلس الأمن الدولي مباشرة ، و ذلك من أجل تأمين البلاد مِن أعداءٍ طامعين يتناوشونها خارجياً ، و مِن أبناءٍ عاقين يسعون لتمزيقها داخلياً ، و من هواة حُكم مفتقدين للمقدرات اللازمة... إنها سانحة لتوفير فرصة جديدة للسودانيين لإعادة هيكلة بلادهم إدارياً و إقتصادياً علي أسس سليمة ، و إعادة توطينها في عجلة الإقتصاد العالمي و آلياته ، وقفاً للتدهور العام المريع و المتزايد ، و إنطلاقاً بالبلاد نحو آفاق تنمية حقيقية و مستدامة ، و تدريباً لكوادر شبابية جديدة قادرة على إدارة البلاد بإيجابية و مؤهلة نظرياً و عملياً لتنميتها و النهوض بها و إستدامة تطويرها.
لضمان إحداث التغيير المرتقب خلال الفترة الزمنية القصيرة المقترحة لوضع البلاد تحت وصاية مجلس الأمن ، لابد من البدء بإعادة هيكلة الدولة بحيث تُحكَم بداية بشكل مركزي في إطار خمس ولايات أو أقاليم كبرى بواسطة إداريين أكفاء مدركين لأهمية التعاون المنُتِج مع الإدارات الأهلية ، إلى حين توفير بدائل تُغني عن ما نحن فيه من مفاهيم قبلية و جهوية أقعدت بالسودان وعطلت تقدمه ..
بجانب ذلك فإن تهيئة السودان للإنطلاق في ظل إعادة تأسيس و تأمين دولي ، تقتضي إعطاء أولوية كبرى لإعداد دستور دائم للبلاد ، وهي المهمة التي فشلت فيها كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان منذ الإستقلال . لقد بدأ عهد الحرية و الإستقلال بدستور أسموه دستوراً مؤقتاً أعدته قُبيل الإستقلال لجنة دولية مؤهلة ، و أُجريت عليه تعديلات طفيفة بُعَيد إعلان الإستقلال ليكون حاكماً لدولة حرة و مستقلة . لقد كانت تلك الوثيقة المُعدَّلة أفضل صيغة دستورية شهدها السودان منذ إستقلاله حيث أن الأنظمة التي توالت بعد ذلك ، عسكرياً و مدنياً ، حاولت وضع دساتير خرجت شائهة و لم تحظ ابداً بإجماع الأُمة السودانية ، ولهذا لم تجد الإحترام الواجب ، حتى من العسكريين و الوزراء الذين قاموا أمام الله و الناس بأداء قسم الولاء لتلك النسخ المتعاقبة من الدساتير و الحاملة لشعار الأُمة المغلوبة على أمرها. لذا
فإن أُمة السودان المتطلعة لحياة مستقرة وتنمية مستدامة ، ستكون في حاجة إلى دستور دائم مُحكَم ، و ذي طبيعة مدنية و إنسانية ، مُستَمدة من تجارب الشعوب التي سبقتنا في سُلَّم الحضارة الحديثة ، و بعيدٍ كلياً عن المفاهيم الدينية و النصوص الشرعية التي لم يُحدِث إقحامها في دساتير السودان المتعاقبة إلا المزيد من التشرذم و التمزق المجتمعي ، والمزيد من عدم الإستقرار السياسي الذي أدى في بعض نهاياته المحزنة إلى فصل جزءٍ عزيزٍ من السودان ، كما أدى إلى إذلال الناس عموماً ، و النساء خصوصاً ، فأصبحت الأمهات و الأخوات و البنات يُجلَدن بالسياط ، و على مرأى من الناس، في إنتهاكٍ مخجل لإنسانيتهن ، و إنسانية الذين يشهدون تلك العملية الوحشية التي تُرتكب باسم الدين ، دعك من الذين فقدوا أطرافهم في سرقات جوعٍ ، و أُوقفوا قسراً أمام محاكم بائسة و قضاة شائهين وغير مؤهلين .
لذلم فإن الأُمة السودانية في حاجة إلى دستور عصري يتمحور حول مفاهيم مدنية بحتة ، يبقى فيها الدين لله و الوطن للجميع . ولقد آن الأوان لإعترافنا بفشلنا في إعداد دستور دائم على الرغم من مضي أكثر من ستين عاماً على الإستقلال .علينا إذاً ترك هذه المهمة إلى لجنة دولية ، مثل التي تم تكليفها قُبَيل الإستقلال ، يتم إختيارها من مجموعة خبراء دستوريين دوليين ، على أن تُخضَع مسودة الدستور المقترحة من اللجنة لإستفتاء شعبي عام حتى تصبح مجازة شعبياً و ملزِمة للجميع ، إذا حازت على ما لا يقل عن ثُلثي أصوات الرجال والنساء الذين لا تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً . ويمكن إنجاز مسودة الدستور و إكمال الإستفتاء عليها بسهولة قبل إنقضاء السنوات العشر المقترحة للوصاية الدولية ، ليتم علي ضوئها إجراء إنتخابات شعبية في نهاية فترة الوصاية الدولية ، ليعود السودانيون لحكم أنفسهم فاتحين صفحة جديدة في تاريخهم السياسي و الإداري.
إن الحاجة لحكم مركزي قوي ، بداية ، لضبط الأوضاع السياسية والإدارية ،يُعطي الأُمة فرصة للتفكير في قبول دستور مستقبلي مبني على هيكلة فيدرالية للدولة ، إذ أن الفيدرالية في ما يبدو هي الحل العملي و السياسي لمشكلات الحكم المزمنة في السودان ، و هي الترياق الناجع للصراع المتنامي و المعطِّل بين المركز و الهامش في سودان ما بعد الإستقلال ، شريطة أن تكون فيدرالية حقيقية للدولة، ليست مستمدة من تجاربنا المحلية الفاشلة ، بل مستنبطة من تجارب الآخرين الناجحة، و المطبقة بدرجات متفاوتة في العالم مثل الولايات المتحدة و كندا و سويسرا وغيرها . وبما أن إستقرار الحكم و التنمية المتوازنة والمتكاملة هي من أهم تطلعات المجتمعات ، فربما يكون من المناسب طرح نظامين دستوريين ،أحدهما مركزي و الآخر فيدرالي أو كونفدرالي ، ليقرر الشعب عبر إستفتاءٍ حرٍ ما يريده لوطنه بحرية و دون إملاء .
هذه الإستراحة المقترحة من عناء التشاكس والفشل الذي طال و إستطال ، تتطلب إستقراراً سياسياً و قبولاً مجتمعياً من كافة الكيانات القومية و المحلية لكي تُعاد صياغة الحياة في السودان بعد التيه الذي خلقناه بأيدينا لأكثر من ستة عقود . ليس هذا فحسب، بل الأمر يُحتم التفكير خارج الصندوق أو خارج الأُطر التقليدية . فالوضع الذي نحن فيه الآن وما يحيط بنا من بؤس و مسغبة و تنازع و إنهيار مجتمعي ، هو أسوأ مما كان عليه الحال أيام الإستعمار . ويزيد الأمر حرجاً أن كل ذلك حدث بأيدٍ سودانية إخترنا بعضها عبر إنتخابات يُقال أنها حرة ، ولكنها لم تكن كذلك تماماً لتَخَلُّف مجتمعنا و لإنتشار الأُمية ، و حُكِمنا بعضها الآخر عنوة باسم الجيش حنثاً بقسم أداه العسكر أمام الله و أمام الناس . ولهذا و لغيره يبقى الجيش و نَزَعَاتِه الإنقلابية هو الخطر الحقيقي المهدد دوماً لطموحات الأُمة ، ولذا لا بد من تحييده ، و إعادة بنائه ، هيكلةً وعقيدةً ، و تخليصه من الجهوية والحزبية التي أصبحت طاغية عليه و منفية لقوميته . لكن حجم الدمار الذي أصاب بُنية الجيش في عهد الإنقاذ ربما يصعب أو يستحيل علاجه بدون تسريح كامل الجيش و إعادة بنائه من جديد ، مع إيكال أمر حفظ حدود الدولة مؤقتاً إلى قوات دولية الى حين إكمال تكوين الجيش بصورته الجديدة .. وتسريح الجيش أو إعادة صياغته هذه تعني بالضرورة إنهاء كل التشكيلات العسكرية الأُخرى نظامية كانت أو غير نظامية ، ما عدا منظومة الشرطة ذات المهام الشرطية المدنية المتعارف عليها دولياً .
من ناحية أخرى ليس بالجيش وحده يتزعزع الإستقرار فللأحزاب و منظمات المجتمع المدني الكثير من الآليات والنشاطات التي أعاقت في الماضي تحقيق مطالب الأُمة في الإستقرار والتنمية المستدامة ، و هي تمتلك الكثير مما يمكن أن تعيق به الإستقرار المستهدف للسودان وأهله . ولهذا من الضروري أن تقتنع القيادات السياسية والنقابية التقليدية بأنها قد نضب معينها ، وضاع السودان بين ثنايا نشاطاتها ، ورضخ بما يكفي لأطماع آل المهدي و آل الميرغني و أهل اليسار و الإسلام السياسي . إن الوطن في حاجة إلى تنظيمات سياسية و مدنية متفهمة لحاجة الأُمة السودانية في ثوبها الجديد للخروج من دائرة الفشل المفرغة ، والإنطلاق نحو تكوين أُمة معافاة من كل ما كَبَّلها و عَطَّل حركتها ، وجعلها تتقهقر إلى الخلف بخطى فاقت كل تصوُر وخيال .
لا بد من التنحي الطوعي لتلك القيادات التقليدية السياسية والنقابية و ترك الأمر لقيادات شبابية مدربة لإعادة صياغة أحزابها و منظماتها المدنية ، فكرياً و تنظيمياً ، ولتبقى عائلتا المهدي و الميرغني بعيداً عن السياسة ، دعك من الهيمنة عليها بالإغراء و التمويل و الدجل. فليتركوا الأُمة السودانية تحقق مطالبها ، وترسم مستقبلها ، بعيداً عنهم و عن الدجل و الخرافة و الصوفية التي ترعرعت بشكل ملفت و معيق في الآونة الأخيرة ، تحقيقاً لقول إبن خلدون رحمه الله بأن الصوفية تزدهر في فترات الإنحطاط المجتمعي ، وياله من إنحطاط تدهورنا له بعد ستين عاماً من إعلان إستقلال دولتنا التي خاف العالم و لا يزال يخاف من يقظتها ، بينما عمل بنوها و لا يزالوا يعملون للوصول بها إلى أدنى درجات الإنحطاط السياسي و الإقتصادي و الأخلاقي.
إن كل ما جرى إستعراضه اعلاه بإختصار ينبع من مطلب أساسي للأُمة السودانية هو المحافظة علي السودان كوطن ، و علي الأمة السودانية ككتلة حضارية مميزة ، تحقيقاً لإستقرار و تنمية متوازنة و مستدامة عن طريق القفز بالإقتصاد السوداني إلى الأمام في جو معافى ، و بطرق مبتكرة وغير تقليدية، من الطبيعي أن تتمحور اساساً حول الزراعة لتضع السودان في طريق الكفاية والتصنيع الزراعي تمهيداً للإكتفاء الذاتي أولاً ، ومن ثمَّ الإنطلاق نحو تحقيق حلم أن يكون السودان سلة غذاء الاقليم بما حباه الله به من أرضٍ وماءٍ ومُزَارِع كفءٍ إذا توفرت له الإمكانات الإدارية اللازمة ، و التقنيات الحديثة ، و التمويل الكافي ، و الرعاية الإجتماعية التي تجعل منه إنساناً منتجاً برضىً وكفاءة . و في هذا الصدد فإن تجربة مشروع الجزيرة في فترة إزدهاره يمكن إستدعاءها بثلاثيتها المعروفة ، شركة و حكومة و مزارع ، مع تطوير يرتكز على ما برز في تلك التجربة من إيجابيات و تفادي و معالجة ما شابها من سلبيات . وبمثل هذا المفهوم يمكن للمشروعات الزراعية الكبرى في السودان أن تستعيد ألقها بشقيها الزراعي والحيواني ، على أن يكون التصنيع الزراعي محوراً اساسياً للإستهلاك الداخلي والتصدير ، فهو يجعل للنشاطات الزراعية قيمة إضافية مقدرة و مطلوبة و مستحَقة .
وفي إطار الإبتكار و التفكير غير التقليدي مضمون العائد ، يمكن خلال فترة العشرِ سنوات المقترحة تنفيذ قفزة تنموية ولائية عن طريق تحديد ثلاثة مشروعات كبرى لكل ولاية في مجالات التنمية الإقتصادية والتعليم والخدمات والبنى التحتية ، وتكليف مؤسسات إستشارية عالمية معروفة لتقديم دراسات جدوى لتلك المشروعات ومن ثَمَّ عرض مشروعات كل ولاية على حدة على واحدة من الدول الصديقة لتتبناها وتنافس بها الدول الأُخرى مما يخلق منافسة حميدة بين الدول الصديقة تدفع بتنمية الولايات جميعها و بشكل متوازن لتقريب الشقة التنموية بينها وبين المركز ، تشجيعاً للهجرة الطوعية المعاكسة للأقاليم ، وتخفيفاً للتكدس البشري غير المنتج في الخرطوم وعواصم الولايات و الأقاليم .
إن تحقيق هذا المطلب يقتضي التركيز على الدول الغربية مثل بريطانيا و أمريكا و كندا و ألمانيا و فرنسا و إيطاليا و النرويج ، و الإبتعاد عن الصين المتورطة في الكثير مما أقعد بالإقتصاد السوداني ، وكذلك الإبتعاد عن الدول العربية لأن مراميها في الغالب ذاتية ، ولا تملك التقانة اللازمة ، وفي تجاربها مع الإستثمار الإنقاذي الكثير من علامات الإستفهام .
وبعد ، فإن هذه خطوط عريضة لصرخة تجديد مسار تأتي بعد قرنٍ من صرخة علي عبداللطيف ، تستهدف تحقيق بعض مطالب الأُمة السودانية المشروعة عبر إتاحة الفرصة لبداية جديدة ، و بشكل غير تقليدي، بعد أن ضلت البلاد الطريق إلى الإستقرار السياسي والتنمية المستدامة . عندها فقط يمكن أن يتحقق السودان الذي حلم به الآباء المؤسسون ، وإفتقدته الأجيال اللاحقة و تستحقه الأجيال الصاعدة .
ولك الله يا وطني.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
20 مارس 2022م
mahditom 1941@ yahoo.com
بينما الإنقلابيون متشبثون بالحكم دون سند دستوري أو شعبي، و متمادون في التحطيم و العبث بالدولة و أهلها في كل إتجاه ، وبينما الأحزاب لاهية تتقاذفها الأهواء و ضبابية الرؤى ، و بينما تكوينات المقاومة الشبابية متمادية في سخطها علي كل شيئ و في رفضها للآخرين شخوصاً و تاريخ ، يزداد إنحدار السودان نحو الهاوية و تتفاقم الأمور فيه بشكل مزعج و متسارع بالشكل الذي جعله لم يعُد ذلك الوطن الذي كان أو الذي تَطَلَّع له جيل عشرينيات القرن العشرين الذين كانوا مشبعين من ناحية بروح معارك كرري الجهادية ، و خارجين من ناحية أخرى برؤى إنفتاحية و تحررية أشعلتها معارك الحرب العالمية الأولى التي نفثت فيهم روحاً جديدة تصبو للحرية و للإنعتاق من ذُل الإستعمار ، تشبثاً بحق الحياة في وطنٍ حرٍ مستقل ، يحكمه بنوه ، وتظلله مفاهيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية .تلك الظروف حدت برجل في قامة البطل علي عبداللطيف أن يصدح بصرخة سجلها له التاريخ في شكل نداء أو مقالة بعنوان :- مطالب الامة السودانية ، كانت بداية لكفاح سياسي وثوري طويل و شاق ، إنتهى بخروج الإستعمار ، و إعلان إستقلال السودان في مطلع يناير من عام 1956م .
لكن ماحدث خلال الستة والستين سنة التي أعقبت الإستقلال ، يمثل في مجمله خيبة قومية لأجيال تعاقبت منذ إنهيار مؤتمر الخريجين في أربعينيات القرن العشرين وحتى يوم الناس هذا ، مما يستوجب بعثاً جديداً ونداءً متجدداً في هيئة مطالب مستحدثة و عاجلة للأمة السودانية في تيهها الحالي علها تلتفت قبل ضياع السودان نهائياً و إلى الأبد . إن الوطن ظل لعقود طويلة يئن تحت محنٍ و إحنٍ و إبتلاءاتٍ و خيبات سياسية و إقتصادية و مجتمعية تهدد بفنائه، مما يستوجب البحث عن مخرج مستنبط من من خارج الصندوق ، بحثاً عن بداية جديدة و بعث جديد للوطن من خارج الاُطر التقليدية الداخلية التي أوردت السودان و أهله موارد الهلاك و المسغبة المهيمنة علي كل نواحيه حالياً .
دعونا نعترف بداية بأننا قد فشلنا كلنا، مدنيين و عسكريين و تكنوقراط و سياسيين، في إدارة وطننا سياسياً و إقتصادياً . لقد تعاقبت علينا أنظمة شمولية قاهرة ، و أنظمة حزبية فاشلة ، وتولى أمورنا من خابت آمالنا فيهم من جيل الإستقلال ، وما تلاهم من أجيال عسكرية ومدنية ، وأكملت ثلاثينية الإنقاذ رسالة الخراب و التخريب ، بينما غرق مؤخراً تكنوقراط الثورة في بحار الضعف و التردد و فقدان الإتجاه ، فاصبح في كل حين يسيطر على الأفق مَن ضعفت فيهم الوطنية و صِدْق الإنتماء ، و قويت فيهم الأنانية و التفكير الفردي الذي يجعل الذات هي المحور و ماعداها يذهب إلى الجحيم ، حتى و إن كان الوطن و أهله !!!
بالإضافة إلى هذا ففي ظني أن ترك الأمر للأجيال الشبابية الصاعدة المسيطرة علي الساحة حالياً ، لا يستقيم و لا يطمئن لأنها ببساطة غير مؤهلة بشكلٍ كافٍ ، لا أكاديمياً و لا وطنياً، لتحقيق آمال الأمة السودانية في الحرية والعدالة و السلام ، و لا أظنها مستوعبة بقدر مطمئن لمفاهيم النهضة الإجتماعية و التنمية الإقتصادية ، لأنها رغم حماسها و إندفاعها الظاهري ، لا تمتلك الحس اللازم و الصحيح لهذه المفاهيم ، ولهذا لا تُقَدِّر أهميتها ، وضرورة تحقيقها ، و عِظَم عبء المحافظة عليها . ليس هذا فقط بل حتى تأهيلها العلمي و الأكاديمي ، منذ سُلم نميري التعليمي الفاشل وحتى ثورة التعليم العالي الإنقاذية التي أطاحت بسمعة الخريج السوداني ، لا يؤهلها لإخراج الوطن من ورطته و مأذقه الحالي .
أما مَن لا يزالون على قيد الحياة من سياسيي ما بعد الإستقلال وحتى الآن ، فإن الفشل مُجسَّد فيهم وفي ما خلفوه من بصمات سالبة وعجز ظاهر ، في كل شئون الحياة السودانية ، ليس أقله تركهم البلاد لحكم العسكر لأكثر من ثلثي عُمر الإستقلال !!!
لهذا و لغيره مما لا تخطئه عين المراقب و المتابع من خارج دوائر ما يسمون بالمجموعات الفاعلة في الساحة السياسية ، فإني أعتقد أن الخروج من هذه الورطة يقتضي التفكير جدياً و سريعاً في إنقاذ السودان من عبث بنيه بوضعه مؤقتاً تحت مظلة الوصاية الدولية لمدة عشرة سنوات يكون خلالها تحت رعاية مجلس الأمن الدولي مباشرة ، و ذلك من أجل تأمين البلاد مِن أعداءٍ طامعين يتناوشونها خارجياً ، و مِن أبناءٍ عاقين يسعون لتمزيقها داخلياً ، و من هواة حُكم مفتقدين للمقدرات اللازمة... إنها سانحة لتوفير فرصة جديدة للسودانيين لإعادة هيكلة بلادهم إدارياً و إقتصادياً علي أسس سليمة ، و إعادة توطينها في عجلة الإقتصاد العالمي و آلياته ، وقفاً للتدهور العام المريع و المتزايد ، و إنطلاقاً بالبلاد نحو آفاق تنمية حقيقية و مستدامة ، و تدريباً لكوادر شبابية جديدة قادرة على إدارة البلاد بإيجابية و مؤهلة نظرياً و عملياً لتنميتها و النهوض بها و إستدامة تطويرها.
لضمان إحداث التغيير المرتقب خلال الفترة الزمنية القصيرة المقترحة لوضع البلاد تحت وصاية مجلس الأمن ، لابد من البدء بإعادة هيكلة الدولة بحيث تُحكَم بداية بشكل مركزي في إطار خمس ولايات أو أقاليم كبرى بواسطة إداريين أكفاء مدركين لأهمية التعاون المنُتِج مع الإدارات الأهلية ، إلى حين توفير بدائل تُغني عن ما نحن فيه من مفاهيم قبلية و جهوية أقعدت بالسودان وعطلت تقدمه ..
بجانب ذلك فإن تهيئة السودان للإنطلاق في ظل إعادة تأسيس و تأمين دولي ، تقتضي إعطاء أولوية كبرى لإعداد دستور دائم للبلاد ، وهي المهمة التي فشلت فيها كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان منذ الإستقلال . لقد بدأ عهد الحرية و الإستقلال بدستور أسموه دستوراً مؤقتاً أعدته قُبيل الإستقلال لجنة دولية مؤهلة ، و أُجريت عليه تعديلات طفيفة بُعَيد إعلان الإستقلال ليكون حاكماً لدولة حرة و مستقلة . لقد كانت تلك الوثيقة المُعدَّلة أفضل صيغة دستورية شهدها السودان منذ إستقلاله حيث أن الأنظمة التي توالت بعد ذلك ، عسكرياً و مدنياً ، حاولت وضع دساتير خرجت شائهة و لم تحظ ابداً بإجماع الأُمة السودانية ، ولهذا لم تجد الإحترام الواجب ، حتى من العسكريين و الوزراء الذين قاموا أمام الله و الناس بأداء قسم الولاء لتلك النسخ المتعاقبة من الدساتير و الحاملة لشعار الأُمة المغلوبة على أمرها. لذا
فإن أُمة السودان المتطلعة لحياة مستقرة وتنمية مستدامة ، ستكون في حاجة إلى دستور دائم مُحكَم ، و ذي طبيعة مدنية و إنسانية ، مُستَمدة من تجارب الشعوب التي سبقتنا في سُلَّم الحضارة الحديثة ، و بعيدٍ كلياً عن المفاهيم الدينية و النصوص الشرعية التي لم يُحدِث إقحامها في دساتير السودان المتعاقبة إلا المزيد من التشرذم و التمزق المجتمعي ، والمزيد من عدم الإستقرار السياسي الذي أدى في بعض نهاياته المحزنة إلى فصل جزءٍ عزيزٍ من السودان ، كما أدى إلى إذلال الناس عموماً ، و النساء خصوصاً ، فأصبحت الأمهات و الأخوات و البنات يُجلَدن بالسياط ، و على مرأى من الناس، في إنتهاكٍ مخجل لإنسانيتهن ، و إنسانية الذين يشهدون تلك العملية الوحشية التي تُرتكب باسم الدين ، دعك من الذين فقدوا أطرافهم في سرقات جوعٍ ، و أُوقفوا قسراً أمام محاكم بائسة و قضاة شائهين وغير مؤهلين .
لذلم فإن الأُمة السودانية في حاجة إلى دستور عصري يتمحور حول مفاهيم مدنية بحتة ، يبقى فيها الدين لله و الوطن للجميع . ولقد آن الأوان لإعترافنا بفشلنا في إعداد دستور دائم على الرغم من مضي أكثر من ستين عاماً على الإستقلال .علينا إذاً ترك هذه المهمة إلى لجنة دولية ، مثل التي تم تكليفها قُبَيل الإستقلال ، يتم إختيارها من مجموعة خبراء دستوريين دوليين ، على أن تُخضَع مسودة الدستور المقترحة من اللجنة لإستفتاء شعبي عام حتى تصبح مجازة شعبياً و ملزِمة للجميع ، إذا حازت على ما لا يقل عن ثُلثي أصوات الرجال والنساء الذين لا تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً . ويمكن إنجاز مسودة الدستور و إكمال الإستفتاء عليها بسهولة قبل إنقضاء السنوات العشر المقترحة للوصاية الدولية ، ليتم علي ضوئها إجراء إنتخابات شعبية في نهاية فترة الوصاية الدولية ، ليعود السودانيون لحكم أنفسهم فاتحين صفحة جديدة في تاريخهم السياسي و الإداري.
إن الحاجة لحكم مركزي قوي ، بداية ، لضبط الأوضاع السياسية والإدارية ،يُعطي الأُمة فرصة للتفكير في قبول دستور مستقبلي مبني على هيكلة فيدرالية للدولة ، إذ أن الفيدرالية في ما يبدو هي الحل العملي و السياسي لمشكلات الحكم المزمنة في السودان ، و هي الترياق الناجع للصراع المتنامي و المعطِّل بين المركز و الهامش في سودان ما بعد الإستقلال ، شريطة أن تكون فيدرالية حقيقية للدولة، ليست مستمدة من تجاربنا المحلية الفاشلة ، بل مستنبطة من تجارب الآخرين الناجحة، و المطبقة بدرجات متفاوتة في العالم مثل الولايات المتحدة و كندا و سويسرا وغيرها . وبما أن إستقرار الحكم و التنمية المتوازنة والمتكاملة هي من أهم تطلعات المجتمعات ، فربما يكون من المناسب طرح نظامين دستوريين ،أحدهما مركزي و الآخر فيدرالي أو كونفدرالي ، ليقرر الشعب عبر إستفتاءٍ حرٍ ما يريده لوطنه بحرية و دون إملاء .
هذه الإستراحة المقترحة من عناء التشاكس والفشل الذي طال و إستطال ، تتطلب إستقراراً سياسياً و قبولاً مجتمعياً من كافة الكيانات القومية و المحلية لكي تُعاد صياغة الحياة في السودان بعد التيه الذي خلقناه بأيدينا لأكثر من ستة عقود . ليس هذا فحسب، بل الأمر يُحتم التفكير خارج الصندوق أو خارج الأُطر التقليدية . فالوضع الذي نحن فيه الآن وما يحيط بنا من بؤس و مسغبة و تنازع و إنهيار مجتمعي ، هو أسوأ مما كان عليه الحال أيام الإستعمار . ويزيد الأمر حرجاً أن كل ذلك حدث بأيدٍ سودانية إخترنا بعضها عبر إنتخابات يُقال أنها حرة ، ولكنها لم تكن كذلك تماماً لتَخَلُّف مجتمعنا و لإنتشار الأُمية ، و حُكِمنا بعضها الآخر عنوة باسم الجيش حنثاً بقسم أداه العسكر أمام الله و أمام الناس . ولهذا و لغيره يبقى الجيش و نَزَعَاتِه الإنقلابية هو الخطر الحقيقي المهدد دوماً لطموحات الأُمة ، ولذا لا بد من تحييده ، و إعادة بنائه ، هيكلةً وعقيدةً ، و تخليصه من الجهوية والحزبية التي أصبحت طاغية عليه و منفية لقوميته . لكن حجم الدمار الذي أصاب بُنية الجيش في عهد الإنقاذ ربما يصعب أو يستحيل علاجه بدون تسريح كامل الجيش و إعادة بنائه من جديد ، مع إيكال أمر حفظ حدود الدولة مؤقتاً إلى قوات دولية الى حين إكمال تكوين الجيش بصورته الجديدة .. وتسريح الجيش أو إعادة صياغته هذه تعني بالضرورة إنهاء كل التشكيلات العسكرية الأُخرى نظامية كانت أو غير نظامية ، ما عدا منظومة الشرطة ذات المهام الشرطية المدنية المتعارف عليها دولياً .
من ناحية أخرى ليس بالجيش وحده يتزعزع الإستقرار فللأحزاب و منظمات المجتمع المدني الكثير من الآليات والنشاطات التي أعاقت في الماضي تحقيق مطالب الأُمة في الإستقرار والتنمية المستدامة ، و هي تمتلك الكثير مما يمكن أن تعيق به الإستقرار المستهدف للسودان وأهله . ولهذا من الضروري أن تقتنع القيادات السياسية والنقابية التقليدية بأنها قد نضب معينها ، وضاع السودان بين ثنايا نشاطاتها ، ورضخ بما يكفي لأطماع آل المهدي و آل الميرغني و أهل اليسار و الإسلام السياسي . إن الوطن في حاجة إلى تنظيمات سياسية و مدنية متفهمة لحاجة الأُمة السودانية في ثوبها الجديد للخروج من دائرة الفشل المفرغة ، والإنطلاق نحو تكوين أُمة معافاة من كل ما كَبَّلها و عَطَّل حركتها ، وجعلها تتقهقر إلى الخلف بخطى فاقت كل تصوُر وخيال .
لا بد من التنحي الطوعي لتلك القيادات التقليدية السياسية والنقابية و ترك الأمر لقيادات شبابية مدربة لإعادة صياغة أحزابها و منظماتها المدنية ، فكرياً و تنظيمياً ، ولتبقى عائلتا المهدي و الميرغني بعيداً عن السياسة ، دعك من الهيمنة عليها بالإغراء و التمويل و الدجل. فليتركوا الأُمة السودانية تحقق مطالبها ، وترسم مستقبلها ، بعيداً عنهم و عن الدجل و الخرافة و الصوفية التي ترعرعت بشكل ملفت و معيق في الآونة الأخيرة ، تحقيقاً لقول إبن خلدون رحمه الله بأن الصوفية تزدهر في فترات الإنحطاط المجتمعي ، وياله من إنحطاط تدهورنا له بعد ستين عاماً من إعلان إستقلال دولتنا التي خاف العالم و لا يزال يخاف من يقظتها ، بينما عمل بنوها و لا يزالوا يعملون للوصول بها إلى أدنى درجات الإنحطاط السياسي و الإقتصادي و الأخلاقي.
إن كل ما جرى إستعراضه اعلاه بإختصار ينبع من مطلب أساسي للأُمة السودانية هو المحافظة علي السودان كوطن ، و علي الأمة السودانية ككتلة حضارية مميزة ، تحقيقاً لإستقرار و تنمية متوازنة و مستدامة عن طريق القفز بالإقتصاد السوداني إلى الأمام في جو معافى ، و بطرق مبتكرة وغير تقليدية، من الطبيعي أن تتمحور اساساً حول الزراعة لتضع السودان في طريق الكفاية والتصنيع الزراعي تمهيداً للإكتفاء الذاتي أولاً ، ومن ثمَّ الإنطلاق نحو تحقيق حلم أن يكون السودان سلة غذاء الاقليم بما حباه الله به من أرضٍ وماءٍ ومُزَارِع كفءٍ إذا توفرت له الإمكانات الإدارية اللازمة ، و التقنيات الحديثة ، و التمويل الكافي ، و الرعاية الإجتماعية التي تجعل منه إنساناً منتجاً برضىً وكفاءة . و في هذا الصدد فإن تجربة مشروع الجزيرة في فترة إزدهاره يمكن إستدعاءها بثلاثيتها المعروفة ، شركة و حكومة و مزارع ، مع تطوير يرتكز على ما برز في تلك التجربة من إيجابيات و تفادي و معالجة ما شابها من سلبيات . وبمثل هذا المفهوم يمكن للمشروعات الزراعية الكبرى في السودان أن تستعيد ألقها بشقيها الزراعي والحيواني ، على أن يكون التصنيع الزراعي محوراً اساسياً للإستهلاك الداخلي والتصدير ، فهو يجعل للنشاطات الزراعية قيمة إضافية مقدرة و مطلوبة و مستحَقة .
وفي إطار الإبتكار و التفكير غير التقليدي مضمون العائد ، يمكن خلال فترة العشرِ سنوات المقترحة تنفيذ قفزة تنموية ولائية عن طريق تحديد ثلاثة مشروعات كبرى لكل ولاية في مجالات التنمية الإقتصادية والتعليم والخدمات والبنى التحتية ، وتكليف مؤسسات إستشارية عالمية معروفة لتقديم دراسات جدوى لتلك المشروعات ومن ثَمَّ عرض مشروعات كل ولاية على حدة على واحدة من الدول الصديقة لتتبناها وتنافس بها الدول الأُخرى مما يخلق منافسة حميدة بين الدول الصديقة تدفع بتنمية الولايات جميعها و بشكل متوازن لتقريب الشقة التنموية بينها وبين المركز ، تشجيعاً للهجرة الطوعية المعاكسة للأقاليم ، وتخفيفاً للتكدس البشري غير المنتج في الخرطوم وعواصم الولايات و الأقاليم .
إن تحقيق هذا المطلب يقتضي التركيز على الدول الغربية مثل بريطانيا و أمريكا و كندا و ألمانيا و فرنسا و إيطاليا و النرويج ، و الإبتعاد عن الصين المتورطة في الكثير مما أقعد بالإقتصاد السوداني ، وكذلك الإبتعاد عن الدول العربية لأن مراميها في الغالب ذاتية ، ولا تملك التقانة اللازمة ، وفي تجاربها مع الإستثمار الإنقاذي الكثير من علامات الإستفهام .
وبعد ، فإن هذه خطوط عريضة لصرخة تجديد مسار تأتي بعد قرنٍ من صرخة علي عبداللطيف ، تستهدف تحقيق بعض مطالب الأُمة السودانية المشروعة عبر إتاحة الفرصة لبداية جديدة ، و بشكل غير تقليدي، بعد أن ضلت البلاد الطريق إلى الإستقرار السياسي والتنمية المستدامة . عندها فقط يمكن أن يتحقق السودان الذي حلم به الآباء المؤسسون ، وإفتقدته الأجيال اللاحقة و تستحقه الأجيال الصاعدة .
ولك الله يا وطني.
بروفيسور
مهدي أمين التوم
20 مارس 2022م
mahditom 1941@ yahoo.com