تعيسة: رواية الإنسان والمكان في رحلة البحث عن الذات
إبراهيم برسي
30 December, 2024
30 December, 2024
بقلم إبراهيم برسي
10 يناير 2024
في رواية “تعيسة” للدكتور بشرى الفاضل، يُفتح العالم كصفحة من الرمال المتغيرة، بلا معالم واضحة، إلا تلك التي ترسمها أقدام التائهين وأحلامهم.
الهروب هنا ليس مجرد فعل جسدي؛ بل هو محاولة يائسة لإعادة صياغة الحياة خارج حدود القهر والتاريخ.
سعيد وبخيت، بحملهما المتناقض لعلاقة السيد والعبد، يشكلان محوراً إنسانياً يتقاطع فيه الماضي مع الحاضر، القهر مع المصالحة، والإنسان مع ذاته المنكسرة.
تعيسة ليست شخصية عابرة؛ إنها أيقونة للإنسان في عزلته المطلقة، كائن تتجلى فيه هشاشة الحواس وقوة الروح.
ولدت عمياء، صماء، وبكماء، ومع ذلك يشع منها جمال يعجز العقل عن تفسيره.
يقول الراوي عنها:
“كان وجهها على الدوام باسماً، مشرقاً، يشعُّ منه النور بحيث يصعب التمعن فيه”.
هذا الجمال الغريب لا يوحي فقط بالمفارقة، بل يعيد صياغة مفهوم الجمال ذاته.
تعيسة ليست كائناً إنسانياً بالمعنى التقليدي، بل هي انعكاس للوجود في شكله الخام، حيث تتحول إلى مرآة تعكس رعب الآخرين من الاختلاف.
فهؤلاء الذين يظنونها “ابنة الجن” ليسوا سوى ضحايا لرغبتهم في تصنيف ما لا يمكن تصنيفه.
بهذا، تتحول الرواية إلى نقد صامت للخوف الجماعي من الآخر، وتذكير دائم بأن ما نخشاه قد يكون تجسيداً لما نفتقده.
الصحراء، التي تمتد كأفق بلا نهاية، ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي كيان حي، نابض، يبتلع كل شيء ويعيد تشكيله.
يقول الراوي عن الرمال:
“رمال في رمال في رمال. كأن الرمال ابتلعت كل شيء، حتى القبور التي حفروها سرعان ما غمرتها الرياح، وكأن شيئاً لم يكن.”
الرمال هنا ليست سوى الزمن، ذلك العدو الأبدي الذي يمحو آثارنا ويعيد ترتيبها بعبثية مطلقة.
في هذا العالم المتغير، يصبح كل شيء هشاً، بدءاً من الهوية وصولاً إلى القيم.
سعيد، الذي يبدأ رحلته كسيد هارب من قهر الخارج، يجد نفسه محكوماً بمواجهة الداخل. وبخيت، الذي عاش حياة العبيد، يدخل الواحة ليصبح شريكاً في إعادة بناء ما تحطم، لكنه يبقى مسكوناً بشعور دائم بالدونية.
العلاقة بين سعيد وبخيت تتجاوز حدود الفرد لتصبح استعارة عن التاريخ نفسه. يقول سعيد لبخيت:
“نحن هنا بقينا أهل. بعد نعدل حالنا في بلدنا الجديدة دي، نزوج أولادك لي بناتي.”
هذه العبارة تبدو كإعلان للمصالحة، لكنها تحمل في طياتها عبء الماضي الذي لا يموت بسهولة. فرح بخيت بالعرض، لكنه في داخله ظل أسيراً لذكريات القهر.
هنا، تظهر الرواية كفحص عميق للمصالحة الحقيقية، تلك التي لا تُبنى على الأفعال وحسب، بل على تحولات داخلية شاقة.
تعيسة، الحاضرة الغائبة، تظل القلب الصامت للرواية. هي ليست مجرد شخصية، بل استعارة للوجود الإنساني في أشكاله المتعددة.
يقول الراوي عنها:
“ثمة كُحْلٌ دون كُحل في أهداب عينيها. ثمة حاجبان كأنهما خرجا للتو من أيدي خبيرة تجميل ماهرة.”
هذا الجمال المدهش الذي لا ينتمي لأي معيار تقليدي يرمز إلى الغموض الذي يكتنف الوجود الإنساني ذاته. هي ليست فقط رمزاً للجمال؛ بل هي دليل على أن الحياة في صمتها قد تحمل معاني تفوق ما نراه أو نسمعه.
موت سعيد في نهاية الرواية هو لحظة محورية. في تلك اللحظة، يغلق بخيت عيني سيده القديم للمرة الأخيرة. هذا الفعل البسيط يحمل رمزية ثقيلة؛ إنه موت السيد القديم، لكنه أيضاً ولادة عهد جديد.
الصمت الذي يخيم بعد موت سعيد ليس مجرد حداد، بل هو فراغ وجودي يدعو القارئ للتأمل: هل يمكننا حقاً دفن الماضي؟ أم أننا نحمله معنا، حتى ونحن نبني عوالم جديدة؟
“تعيسة” ليست مجرد رواية عن الحزن، بل هي قصيدة عن الجمال الذي ينبعث من قلب العزلة. إنها لوحة أدبية تتجاوز الكلمات لتخلق فضاءً مليئاً بالتساؤلات التي تظل دون إجابة.
بشرى الفاضل، بلغته الشعرية العذبة ورؤيته الفلسفية العميقة، يحول الصحراء إلى رمز للإنسان في سعيه الدائم نحو الفهم.
الواحة، التي تبدأ كملاذ، تتحول إلى استعارة عن الروح البشرية التي تبحث عن السلام، حتى وهي محاصرة بالخوف والذكريات.
في نهاية المطاف، “تعيسة” ليست عن التعاسة، بل عن الأمل الذي يزهر في أصعب الأماكن.
إنها تذكير بأن الجمال قد لا يكون في الضوء، بل في الظلال، في الصمت، وفي تلك المساحات الصغيرة بين ما نعرفه وما لا نستطيع إدراكه.
zoolsaay@yahoo.com
10 يناير 2024
في رواية “تعيسة” للدكتور بشرى الفاضل، يُفتح العالم كصفحة من الرمال المتغيرة، بلا معالم واضحة، إلا تلك التي ترسمها أقدام التائهين وأحلامهم.
الهروب هنا ليس مجرد فعل جسدي؛ بل هو محاولة يائسة لإعادة صياغة الحياة خارج حدود القهر والتاريخ.
سعيد وبخيت، بحملهما المتناقض لعلاقة السيد والعبد، يشكلان محوراً إنسانياً يتقاطع فيه الماضي مع الحاضر، القهر مع المصالحة، والإنسان مع ذاته المنكسرة.
تعيسة ليست شخصية عابرة؛ إنها أيقونة للإنسان في عزلته المطلقة، كائن تتجلى فيه هشاشة الحواس وقوة الروح.
ولدت عمياء، صماء، وبكماء، ومع ذلك يشع منها جمال يعجز العقل عن تفسيره.
يقول الراوي عنها:
“كان وجهها على الدوام باسماً، مشرقاً، يشعُّ منه النور بحيث يصعب التمعن فيه”.
هذا الجمال الغريب لا يوحي فقط بالمفارقة، بل يعيد صياغة مفهوم الجمال ذاته.
تعيسة ليست كائناً إنسانياً بالمعنى التقليدي، بل هي انعكاس للوجود في شكله الخام، حيث تتحول إلى مرآة تعكس رعب الآخرين من الاختلاف.
فهؤلاء الذين يظنونها “ابنة الجن” ليسوا سوى ضحايا لرغبتهم في تصنيف ما لا يمكن تصنيفه.
بهذا، تتحول الرواية إلى نقد صامت للخوف الجماعي من الآخر، وتذكير دائم بأن ما نخشاه قد يكون تجسيداً لما نفتقده.
الصحراء، التي تمتد كأفق بلا نهاية، ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي كيان حي، نابض، يبتلع كل شيء ويعيد تشكيله.
يقول الراوي عن الرمال:
“رمال في رمال في رمال. كأن الرمال ابتلعت كل شيء، حتى القبور التي حفروها سرعان ما غمرتها الرياح، وكأن شيئاً لم يكن.”
الرمال هنا ليست سوى الزمن، ذلك العدو الأبدي الذي يمحو آثارنا ويعيد ترتيبها بعبثية مطلقة.
في هذا العالم المتغير، يصبح كل شيء هشاً، بدءاً من الهوية وصولاً إلى القيم.
سعيد، الذي يبدأ رحلته كسيد هارب من قهر الخارج، يجد نفسه محكوماً بمواجهة الداخل. وبخيت، الذي عاش حياة العبيد، يدخل الواحة ليصبح شريكاً في إعادة بناء ما تحطم، لكنه يبقى مسكوناً بشعور دائم بالدونية.
العلاقة بين سعيد وبخيت تتجاوز حدود الفرد لتصبح استعارة عن التاريخ نفسه. يقول سعيد لبخيت:
“نحن هنا بقينا أهل. بعد نعدل حالنا في بلدنا الجديدة دي، نزوج أولادك لي بناتي.”
هذه العبارة تبدو كإعلان للمصالحة، لكنها تحمل في طياتها عبء الماضي الذي لا يموت بسهولة. فرح بخيت بالعرض، لكنه في داخله ظل أسيراً لذكريات القهر.
هنا، تظهر الرواية كفحص عميق للمصالحة الحقيقية، تلك التي لا تُبنى على الأفعال وحسب، بل على تحولات داخلية شاقة.
تعيسة، الحاضرة الغائبة، تظل القلب الصامت للرواية. هي ليست مجرد شخصية، بل استعارة للوجود الإنساني في أشكاله المتعددة.
يقول الراوي عنها:
“ثمة كُحْلٌ دون كُحل في أهداب عينيها. ثمة حاجبان كأنهما خرجا للتو من أيدي خبيرة تجميل ماهرة.”
هذا الجمال المدهش الذي لا ينتمي لأي معيار تقليدي يرمز إلى الغموض الذي يكتنف الوجود الإنساني ذاته. هي ليست فقط رمزاً للجمال؛ بل هي دليل على أن الحياة في صمتها قد تحمل معاني تفوق ما نراه أو نسمعه.
موت سعيد في نهاية الرواية هو لحظة محورية. في تلك اللحظة، يغلق بخيت عيني سيده القديم للمرة الأخيرة. هذا الفعل البسيط يحمل رمزية ثقيلة؛ إنه موت السيد القديم، لكنه أيضاً ولادة عهد جديد.
الصمت الذي يخيم بعد موت سعيد ليس مجرد حداد، بل هو فراغ وجودي يدعو القارئ للتأمل: هل يمكننا حقاً دفن الماضي؟ أم أننا نحمله معنا، حتى ونحن نبني عوالم جديدة؟
“تعيسة” ليست مجرد رواية عن الحزن، بل هي قصيدة عن الجمال الذي ينبعث من قلب العزلة. إنها لوحة أدبية تتجاوز الكلمات لتخلق فضاءً مليئاً بالتساؤلات التي تظل دون إجابة.
بشرى الفاضل، بلغته الشعرية العذبة ورؤيته الفلسفية العميقة، يحول الصحراء إلى رمز للإنسان في سعيه الدائم نحو الفهم.
الواحة، التي تبدأ كملاذ، تتحول إلى استعارة عن الروح البشرية التي تبحث عن السلام، حتى وهي محاصرة بالخوف والذكريات.
في نهاية المطاف، “تعيسة” ليست عن التعاسة، بل عن الأمل الذي يزهر في أصعب الأماكن.
إنها تذكير بأن الجمال قد لا يكون في الضوء، بل في الظلال، في الصمت، وفي تلك المساحات الصغيرة بين ما نعرفه وما لا نستطيع إدراكه.
zoolsaay@yahoo.com