تفكيك القضائية الفاسدة (33): أين قاضي دارفور العاشر؟
ushari@outlook.com
أولا،
القاضي العاشر
(1)
قبل يومين، أعلنت السلطة القضائية الفاسدة عن نقل تسعة قضاة محكمة عليا إلى دارفور. لكن القرار رقم 38 الصادر بتاريخ 21/2/2016، وهو مدفون في الموقع الشبكي للقضائية، كان حدد عشرة قضاة محكمة عليا، هم:
(1) الفاتح حامد حسن حسين (رئيس دائرة المحكمة القومية العليا لولايات دارفور الكبرى)، (2) د. سليمان محمد شايب، (3) الرحيمة حامد ركن، (4) صلاح الدين حسن الحاج، (5) حسين الفكي الأمين، (6) محمد النذير أحمد المبارك، (7) إبراهيم يعقوب آدم، (8) الفاتح الصديق رابح، (9) صلاح الدين عباس عجب، (10) بَكُر محمد بَكُر عبد اللطيف (وهو القاضي الفاسد موضوع مقالي السابق).
(2)
كنت كتبتُ في سودانايل عن القاضي الفاسد بكر محمد بكر عبد اللطيف، وأعطيه الآن الرقم (10) في قائمة قضاة المحكمة العليا المنقولين إلى دارفور. في ذلك المقال، بينتُ حيثيات فساد هذا القاضي وحذرتُ أهل دارفور من فساده، وختمت المقال بأن القضائية تقترف جريمة إضافية حين ترسل إلى دارفور هذا القاضي الفاسد.
(3)
لا أدري ما إذا كان القاضي الذي تقرر تغييبه من جماعة العشرة هو هذا القاضي الفاسد بكر محمد بكر عبد اللطيف. رغم أن هذا الاحتمال الضعيف وارد، بعد أن قرأ القضاة في المكتب الفني بالقضائية مقالي عن فساد هذا القاضي الوارد اسمه في كشف النقل إلى دارفور، فمن مهام القضاة في هذا المكتب الفني متابعة ما ينشر في الصحف ونقل الأخبار أولا بأول إلى رئيس القضاء، حيدر.
(4)
يظل احتمال أن بكر هو القاضي المستبعد ضعيفاً، لأن القاضي الفاسد مثل بكر له مكانة عظيمة ومقامية مقدرة في السلطة القضائية، ويوفر له زملاؤه القضاة الكبار في المحكمة العليا ورئيسُ القضاء الحمايةَ الكافية حين ينفضح فساده. فلا أتوقع أن القضائية الفاسدة عاقبت قاضيا فاسدا مثل بكر محمد بكر عبد اللطيف، بأن أحرجته وألغت في آخر لحظة نقله إلى دارفور، بعد أن كان اسمه ظهر في الكشوفات وبدأ القاضي يحلم بمشروعات للإفساد في دارفور، لا يمكن أن تتصرف القضائية الفاسدة ضد القاضي بكر بإلغاء نقليته، فقط بسبب مقالي في سودانايل الذي ورد فيه ما هو أصلا معروف لدى القضائية عن فساد هذا القاضي.
(5)
فيظل الأمر المتعلق بما إذا كان بكر محمد بكر هو القاضي العاشر المستبعد من دارفور متروكا للتحقيق فيه بواسطة الشباب والطلاب الحركيين والأساتذة في كلية القانون والشريعة بجامعة نيالا.
في حال تبين لهؤلاء الحركيين أن بكر هو القاضي العاشر الذي تم استبعاده من دارفور، سيكون الأمر متعلقا بطبيعة المهمة المكلف بها قضاة المحكمة العليا العشرة ناقص واحد في دارفور، وهي مهمة خطيرة لا يريد نظام الإنقاذ أن يقدح فيها ثبوتُ فساد أحد القضاة مثل بكر. أي، إن بكر في هذه الحالة سيكون عبئا ومشكلة للمهمة القضائية الخطيرة في دارفور، ليس بسبب أنه فاسد، ولكن بسبب أن فساده تم إثباته في المجال العام، وهو لن يتمكن من تقديم دفع يؤبه له ضد إسنادي الفساد إليه، حتى أمام قاض فاسد مثله، فالبينات جميعها تدينه وتدين معه زميلتيه الشريرتين إلهام أحمد عثمان وني ونادية سليمان. ولا شيء يقف أمام قوة البينات المستندية التي تثبت الأفعال الإجرامية التي اقترفها القضاة الثلاثة (المقال 32).
أما إذا تبين أن القاضي المستبعد شخص آخر، ينتهي الأمر في مكانه، وقد تتغير الأسئلة.
وكما قلت، لا أعرف شيئا عن فساد القضاة الآخرين أو عن نزاهتهم، ولم أقرأ أن محاميا تجرأ برصد فساد أحدهم أو بالكتابة عن ذلك الفساد. لكن، كل قاض فاسدٌ إلى أن يثبت العكس، وإلا نكون نلعب، فلا نتحمل أن نواجه كارثة القضائية السودانية، لا نتحمل لأن الحل في حلها وفي البدء من جديد من الأول، وفي العادة لا يتحمس الناس لمثل هذه الحلول البسيطة المعقولة، يريدون حلولا معقدة من نوع تأهيل القضاة وكمبيوترات وزيارات وورش عمل وزيادة المرتبات ولافتات مكتوب عليها لا للفساد القضائي!
(6)
كانت استحالةً وقائعيةً أن تَصدُق السلطة القضائية من البداية، كأن تكون في الخيال أعلنت على سبيل المثال عن هذه النقليات منذ أن كان صدر قرارها رسميا في شهر فبراير 2016 وحدد للقضاة مدة أسبوعين فقط للانتقال إلى دارفور. فقد سكتت القضائية على مدى شهرين تقريبا دون الإعلان عن واقعة نقل هؤلاء القضاة إلى دارفور. وتجاهلت الرد على إسنادي في سودانايل الفساد للقاضي بكر المنقول إلى دارفور. وحتى بعد أن أعلنت القضائية الخبرَ قبل يومين فقط، سكتت عن خبر القاضي العاشر المغيَّب، وكأنها لم تمنعه من الانتقال إلى دارفور، وكأن كل شيء عن قضاة المحكمة العليا لدارفور كان عاديا.
كان ضروريا أن تُفصح القضائية عن هوية هذا القاضي العاشر وأسباب تغييبه خاصة وهي قررت أن تعمل هلُّولَة بخبر نقل القضاة التسعة إلى دارفور. من هو؟ هل هو بكر محمد بكر عبد اللطيف الذي كتبتُ عنه قبل أسبوعين تقريبا أنه فاسد؟ لماذا تم منع القاضي العاشر، أيا كانت هويته، من السفر إلى دارفور؟ ما ظروف تخلفه؟
هذه أسئلة مهمة، لأن قاضي المحكمة العليا مؤسسة في ذاته، بالرغم من فساده.
(7)
بثت القضائية قبل يومين فقط كما هائلا من الهراء عن نقل القضاة التسعة إلى دارفور، ووزعت هراءها على وكالات الأنباء ونشرته عدة صحف، عن "تقصير الظل العدلي"، و"الوصول بالعدالة الى المواطنين في أماكنهم"، و"بسط سيادة حكم القانون والعدالة بين الناس"، وعن أن نقل هؤلاء القضاة التسعة يمثل "نقلة نوعية في مسارات تحقيق العدل بدارفور". وأعلنت القضائية، لزوم التحلية والتغطية، "الإفراج عن 518 نزيلا من سجون ولايات دارفور ، بعد أن تم اسقاط العقوبات عنهم".
وكما جاء في الفلسفة، الهُراء هو الكلام الفارغ غير المشدود إلى الصدق أو إلى الكذب، حين لا يكترث الهَرَّاء للحقيقة، لأن باله مشغول فقط بمشروعه الاحتيالي، وكنت قدرت أن المشروع الاحتيالي المقصود بعمليات نقل القضاة إلى دارفور هو ترتيب أرضية التغطية على جرائم عمر البشير وجرائم مساعديه وأعوانه المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية، وكذا للتثبيت القضائي للترتيبات المخططة من قبل نظام الإنقاذ لكل شيء في دارفور، بما في ذلك الترتيب القضائي لنتائج الاستفتاء، وتدمير ملفات جرائم الإسلاميين والمليشيات ومليشيا الجيش السوداني في دارفور. وكله بالطبع سيكون بالتنسيق مع وكيل النيابة لجرائم دارفور والقاضي الذي يمشي وراءه.
...
الذي نكاد ننساه أحيانا هو أن دارفور ظلت على مدى عقود من الزمان من أولها إلى آخرها مسرحا متمددا حتى عبر الحدود الدولية لجرائم الإسلاميين ولجرائم غيرهم من الجناة الموتورين، بما في ذلك جرائم اقترفتها الحركات المسلحة الدارفورية. ولا ننس جرائم المجموعات القبيلية، الجرائم الحاضرة والماضية، إذ لم تكن المذبحة في الضعين القريبة من نيالا محل قضاة المحكمة العليا المُفظِعة الجماعية الوحيدة التي اقترفتها قبيلة، كقبيلة، القبيلة التي لها قيادة ومثقفون وأجساد حربية ودعائية ومؤسسات تجارية، والقبيلة في دارفور لها شخصية اعتبارية وتتعامل أحيانا في منطقتها كالدولة لوحدها أو متعاونة مع الحكومة الإسلامية.
...
ثانيا،
"المأمورية لمدة عام" في دارفور
(1)
أضافت القضائية الفاسدة في خطابها قبل يومين حركة احتيالية أخرى، حين دلست على واقعة جوهرية بأن غطت عليها، ثم غيبتها، وخلقت انطباعا زائفا عن حقيقتها. هذه الحقيقة الجوهرية المستهدفة هي أن قضاة المحكمة العليا العشرة ناقص واحد بل هم في "مأمورية لمدة عام واحد". يبين نص قرار النقل أن هؤلاء القضاة ليسوا "منقولين إلى دارفور"، كما يسري الخطاب الاحتيالي الأخير من القضائية، الخطاب الذي قصدت به القضائية خدع أهل دارفور قبل يومين، بالقول لهم إنها ترسل إليهم هؤلاء القضاة التسعة لإنشاء دائرة محكمة عليا، فيتوقع أن يقضوا في دارفور أربعة أعواما على أقل تقدير قبل نقلهم إلى محكمة أخرى، وأن يؤدوا وظائفهم القضائية والإدارية والإجرائية المعتمدة في كل قضائية. والمعروف هو أن قضاة المحكمة العليا في بلاد الأرض لا يتم تنقيلهم بسهولة، ويبقون في محاكمهم مدة طويلة، قصد تطوير القانون العام في المنطقة ولخلق ثبات في معايير القانون وعقائده.
(2)
جاء في القرار السري رقم 38/2016 المدفون في الموقع الشبكي للقضائية ما يلي: "يُعتبر قضاة المحكمة القومية العليا المنقولين [خطأ] إلى دائرة ولايات دارفور الكبرى في مأمورية لمدة عام تبدأ من تاريخ استلامهم العمل".
فعبارة "مأمورية" تبين محدودية المهمة واستثنائيتها، والمهمة كما قدَّرتُها تتعلق بتغليق ملفات جرائم عمر البشير وأعوانه وجرائم بقية الإسلاميين في دارفور. هذه هي "المأمورية". علما أن قضاة المحكمة العليا الآخرين المنقولين إلى الولايات الأخرى غير دارفور، وأسماؤهم في ذات كشف التنقلات بذات القرار الرسمي من حيدر، لم يحظوا بمثل شرف التخصيص بـ "مأمورية لمدة عام". عليه، لا يمكن أن يكون نقل قضاة دارفور أمرا عاديا مثل نقليات بقية قضاة المحكمة العليا إلى الأقاليم الأخرى. لأنه تم تخصيصهم بـ "المأمورية لمدة عام واحد".
(3)
ولنلاحظ أن الوالي آدم الفكى أشار إلى التوقيت المهم للتزامن بين افتتاح دائرة المحكمة العليا وختام الاستفتاء الاداري لدارفور، "خاصة بعد الجولة الواسعة لرئيس الجمهورية التى تم خلالها وضع خارطة للمرحلة القادمة لدارفور والتى تحتاج الى القضاء والعدل وتتلخص في بسط هيبة الدولة وتكامل المنظومة العدلية". وكله كلام فارغ من الوالي، لأن السلطة القضائية ليست سوى شركة خاصة لتمكين الإسلاميين، فلا علاقة لها بأية عدالة من أي نوع، وثابت فسادها المريع الذي قدمتُ عينات له في المقالات السابقة، ولا يمكنها بسط "هيبة الدولة" لأن الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة لا مشروعية لها أصلا، ولا يعترف بها أحد في دارفور، حتى الذين تسلحهم هذه الدولة وترشوهم لتقتيل الأفارقة في دارفور وتشريدهم لا يعترفون بها.
...
باختصار، علينا أن نتذكر أن هذا القرار الأخير بنقل القضاة إلى دارفور جاء لتنفيذ إعلان القضائية الفاسدة في شهر نوفمبر 2015 عن نيتها إنشاء محكمة عليا في دارفور، وكان هذا الإعلان جاء بعد أيام فقط من إعلان عمر البشير عن إجراء الاستفتاء في دارفور في بداية نوفمبر 2015. فالأمر متعلق بعمر البشير وجرائمه في دارفور، وبالاستفتاء كواحدة من الخدع لمسح دارفور ذاتها من الذاكرة العالمية. وللقضاة دور يؤدونه.
...
ثالثا،
كيف تعمل المحكمة العليا؟
(1)
أجد دعما للنظرية أعلاه عن الأغراض الماسونية وراء ابتعاث القضاة العشرة ناقص واحد في أمر آخر يتعلق بطريقة عمل المحكمة العليا، كمحكمة استئنافية للنقض. ذلك أن نقل قضاة المحكمة العليا من الخرطوم إلى نيالا لم يكن ضروريا أصلا، إلا إذا استدعته ضرورة خاصة من نوع محدد، مما تم التعبير عنه بعبارة "مأمورية لمدة عام واحد".
فالذي لا يعرفه الكثيرون هو أن القضائية السودانية ظلت تعتمد واحدة من أفسد الطرق وأكثرها احتيالا للنظر في الطعون بالنقض وكذا للاستئناف. وهي الاقتصار على تبادل المذكرات المكتوبة بواسطة الأطراف والمودعة عند باب المحكمة، كالمُدخَل الوحيد للقضاة لينسجوا على أساسه رأيهم القضائي.
إذ تمنع القضائيةُ المرافعةَ المباشرة من قبل المحامين أو المتقاضين، أي هي تمنع ظهورهم أمامها. والمحامون المرعوبون من سطوة القضاة قبلوا هذا الإجراء السفيه. لذا أنت ترى في الخطاب الأخير عبارات الكذب عن التسهيل للمحامين في دارفور بإنشاء محكمة عليا لهم.
(2)
فسَّرتُ طريقةَ العرائض المتبادلة وسرية المداولة بين القضاة لوحدهم، قبل اتخاذهم القرار، بأن القضاة الفاسدين يفضلون اللقاء منفردين بالمتقاضين والمحامين خارج المحكمة، للتكتكة الثلاثية التي تدور بعد منتصف الليل، للاتفاق على الحكم لصالح الطرف المخاصِم الذي لديه استعداد أكبر لدفع الرشوة المقدرة لصالح القضاة ولصالح محاميي الطرفين.
(3)
يجب أن لا نستغرب. فإن القضاء السوداني منظومةُ عملياتٍ بالغة القذارة والانحطاط الأخلاقي، اسـألوني فقد كنت هناك، جُوَّة، في المحاكم، في حوالي ثلاثين قضية كيدية، في جميع درجات المحاكم من أول درجة إلى الاستئناف إلى النقض إلى المراجعة، وكنت أمثل نفسي بنفسي، أعاود المحاكم يوميا ستة أياما في الأسبوع أحيانا على مدى عامين، وأرابط في مكتب الجهاز القضائي، وأسأل وكلاء النيابة في وزارة العدل، وأتحدث مع المحامين الفاسدين والنزيهين، لهذه الأسباب أعرف الكثير عن كيفية دوران القضائية كشركة إسلامية إجرامية لصناعة الفساد لصالح القضاة الإسلاميين والمحامين الفاسدين.
وما كان ممكنا أصلا لشخص مثلي لم يقترف أي فعل مخالف حتى للقانون الفاسد أن يتعرض لما تعرضت إليه في المحاكم، ما لم تكن القضائية الإسلامية مخرأةً، وما لم يكن قضاتها قضاة الإسلام فيها مخروئين، ولا يغير من ذلك أني تمكنت في النهاية من تجريع خصومي ومحامييهم الفاسدين وقضاتهم المخروئين الهزيمة الماحقة.
(4)
لا يلتقي قضاة المحكمة العليا أصلا بالمحامين أو بالمتقاضين الذين يمثلون أنفسهم، وهم يصرون على أن يودع هؤلاء المحامون والمتقاضون مذكراتهم للطعن أو الرد في مكتب كبير مراقبي المحكمة العليا، وهو يميل أن يكون موظفا فاسدا، حين نتذكر كبير المراقبين الفاسد قاسم سيد أحمد السعيد الذي كان يخفي القرارات القضائية الصادرة لصالحي، مؤتمِرا في ذلك لخدمة المحاميين الفاسدين علي أحمد السيد وإيمان المك، ورفض أن يعطيني قرارا صادرا لصالحي إلا بعد أن وسطت قاضي محكمة عليا في المكتب الفني! بعد فوات الأوان، لكنها قصة أخرى عن العصابات الإجرامية في القضائية السودانية بطلها القاضي الفاسد الدكتور الشاعر أزهري الحاج شرشاب، مقاله آت.
(5)
يستلم القضاة المذكرتين من الطرفين، وفق الإجراءات، ثم يجلس القضاة الثلاثة كعصابة إجرامية لاتخاذ القرار مباشرة، وفق مقتضيات أمور التكتكتة الخارجية بعد منتصف الليل، ثم يكلفون أحد القضاة الثلاثة لكتابة الرأي القضائي. عندئذ، يبدأ هذا القاضي المحتال في عملية تلفيق نص الرأي القضائي المرغوب مدفوع الثمن، التلفيق بالكتابة على مدى شهور، هدف القاضي صياغة رأي قضائي بالكتابة الاحتيالية المتدبرة، ليظهر هذا الرأي القضائي متماسكا وصحيحا لدى غير العارف.
(6)
يُقضِّي هذا القاضي الفاسد أياما وليالي وأسابيع وشهورا لنسج الرأي القضائي الفاسد. وقد يستعين بالمحامي الفاسد المستفيد من الجريمة.
أولا، يحدد هذا القاضي مواد في القانون وسوابق قضائية لا تنطبق على النزاع، بل هو يزوِّر مواد القانون ويزوِّر خصائص السوابق القضائية، لغرض خدمة القرار المتخذ سبقا والمدفوعة رشوته. وهذا هو الانحراف المتعمد عن القانون الواجب التطبيق، المكون الأساس في صناعة الفساد القضائي، وهي صناعة تدور قرارا بعد قرار، يوميا، في المحاكم.
ثانيا، يلتفت هذا القاضي الكاتب الفاسد إلى الوقائع ليدمرها بأفعال خداعية مثل التزوير والاختلاق والطمس والتشويه والإغفال والإعدام.
ثالثا، يدلس القاضي المحتال على ذلك انحرافه عن القانون الواجب التطبيق وعلى خداعه، بنسج الهراء في نص الرأي القضائي، وبإزلاق إشارات يتصنع بها عدم علمه بالقانون، وبخرق قواعد التسبيب المنطقي، وتقويض مجمل تسبيب الحكم القضائي.
(7)
يفعل القضاة الفاسدون كل ذلك في سرية تامة، داخل مكاتبهم وفي بيوتهم، أحيانا بالتشاور المكثف مع المحامين الفاسدين والمتقاضين الرشاة. والقصد واضح، أن لا يواجَه هؤلاء القضاة الفاسدون بالتحدي المباشر باللغة المنطوقة، في أية مرافعة شفهية، لحركاتهم الإفسادية، في حال كان المحامي نزيها، أو في حال أتيح للمتقاضي المثول أمامهم للدفاع عن قضيته.
فالكتابة، بسبب إمكان التعديلات السرية المتواترة، هي الأكثر ملاءمة لصناعة الفساد القضائي، مقارنة بالمرافعة الشفهية الوقتية. وفي جميع الأحوال، الأمر كله لا علاقة له بقضاء ولا بالقانون أو بالأخلاق. وفي سياقه يتم تدمير معنى القانون ومعنى الفصل في القضايا ويضحك القضاة على الأخلاق. لأن الأمر أمر تجارة في السوق وفسوق في الإفساد القضائي. ولا تسمعن أي كذب عن أن المحكمة العليا محكمة قانون. فهي محكمة وقائع، وهي تزور الوقائع وتختلق الوقائع وتستخدمها في تسبيب الرأي القضائي الفاسد للبيع.
(8)
قد تبدو هذه الصورة كاريكاتيرية وغير معقولة، لكنها صحيحة، ولها أساس متين في الواقع المادي لكتابة الرأي القضائي في القضائية السودانية، لأنا في مجال تفاهة الفساد القضائي الذي أصبح طبيعيا وعاديا لدى القضاة الإسلاميين.
(9)
فإذا كانت تلك هي طريقة الطعن بالنقض لدى المحكمة العليا، بدون ظهور المتقاضين أو ممثليهم المحامين أمام قضاة المحكمة العليا، وإذا كانت العملية القضائية بأكملها عملية تجارة وغش، ما معنى نقل هؤلاء القضاة العشرة ناقص واحد من الخرطوم إلى دارفور؟ لماذا لا يبقى هؤلاء القضاة في الخرطوم ويتم إرسال الأوراق إليهم من دارفور بالطرق المعتادة المحسنة؟
لأنه لا علاقة لهم بالمحامين أو بالمتقاضين، أصلا. علاقتهم محصورة في مذكرات يتم تسلميها لكبير المراقبين، ويتم استلام الأحكام منه أو تطفيشها بواسطته، ما لم يكن لديك معه اتفاقية جنائية للاحتيال، فهو مثل القضاة أيضا أنشأ له اسم عمل صغير في القضائية يتكسب منه.
أرى أن هذه الوضعية تقدم دعما جزئيا يتضافر مع الحجج الأخرى ليبين أن أمر دارفور مختلف، وأن القضاة العشرة ناقص واحد المبتعثين من المحكمة القومية العليا مكلفون باقتراف جرائم التغطية على جرائم دارفور، ولا يغير من ذلك أنهم لأجل ذر الرماد على العيون سيفصلون في قضايا حقيقية، بل هم سيفصلون فيها بطريقة عادلة، لأن القاضي الفاسد يفصل بطريقة صحيحة في بعض القضايا لبث انطباع زائف أنه نزيه في جميع الأحوال. وهي خدعة عالمية لها موقع في فقه الفساد القضائي المقارن.
...
رابعا،
ما يتعين على الحركيين في دارفور عمله
(1)
يتعين على الشباب الحركيين في دارفور، خاصة في كلية القانون والشريعة بجامعة نيالا، أن يُخضعوا هؤلاء القضاة العشرة ناقص واحد، والقضاة الثمانية وثلاثين الآخرين المسكوت عنهم، للمراقبة، بالطرق التي يرونها وفق ظروف دارفور، وأن يُخضعوا المحاكم أول درجة العلنية للدراسة الإيثنوجرافية اللصيقة، بتسجيل كل ما يدور فيها، ومن ثم تطوير نظريتهم عن فساد هذه المحاكم، وأن يدرسوا بعناية القرارات التي يصدرها هؤلاء القضاة في دارفور، بما فيها القرارات التي يبقيها القضاة سرية فلا ينشرونها، وهي موجودة لدى الأطراف المتخاصمة، وأن يتعرفوا على السلوكيات القضائية للقضاة، بالمحادثات مع محامين نزيهين، وأن يجمع الحركيون عن هؤلاء القضاة كافة المعلومات، عن تاريخهم، وعلاقاتهم بتنظيم الجبهة الإسلامية وتجنيدهم فيه، وعلاقتهم بالحكومة الإسلامية، والجامعات التي درسوا فيها، وما إذا كانوا شاركوا في العنف في الجامعات، ودورهم كمجاهدين في مسارح العمليات الإبادية في دافور ذاتها وفي جنوب السودان وفي جبال النوبة أو في النيل الأزرق (لا ننس القاضي أحمد هارون الفار من العدالة).
(2)
أرى أن يكون هذا البحث العلمي كله في العلن ومنشورة نتائجه، فلا قيمة لبحث سري، ويكون البحث والنشر بالطرق التي يحددها هؤلاء الشباب، فمراقبة المحاكم والقضاة ليست مخالفة للقانون، وعلى الشباب تحدي أية أوامر تمنعهم من دراسة المحاكم أو دراسة القضاة، وما دراسة المحاكم إلا مراقبة القضاة وما يصدرونه من أحكام والكيفية التي يفسرون بها القانون ويعبئونه للفصل في النزاعات، والبقية معلومات ضرورية عن الخلفيات والسياق لتفسير سلوكيات القضاة، وهو علم له أصول منها ما هو متاح في الأنترنيت.
(3)
كذلك أراه ضروريا للمقاومة الشبابية ضد الفساد القضائي أن تستقطب المقاومةُ القضاةَ النزيهين المستعدين للمبادرة والمخاطرة، ضد التوجيهات الحكومية، بالنظر في الجرائم الخطيرة في دارفور، خاصة جرائم الدولة الإسلامية، وجرائم الحركات المسلحة، وجرائم الأجساد القبيلية المحاربة، مثل فرسان الرزيقات.
وأرى أن يوثق الشباب الانتهاكات التي ظلت تقترفها هذه الأطراف جميعها، وأن يكون التوثيق مهتديا بالقانون وبالدراسات الاجتماعية والعلوم الإنسانية، ولا توجد ضرورة لاستعجال، لأن مفظعات دارفور ظلت هي ذاتها تدور على مدى أكثر من مائتي عاما. مما يعني أهمية التخلص من الأوهام عن تاريخ بطولي لدارفور، ويعني أيضا رفض سخف الخطاب عن الشجاعة والرجالة الدارفورية، فجميع القيادات التاريخية المعروفة في كتب التاريخ عن دارفور كانت قيادات عنيفة وغبية لم تورِّث دارفور إلا الدمار والألم. باختصار، تحتاج دارفور إلى تفكير جديد يرفض ماضيها وحاضرها.
(4)
قد يتعاون القضاة النزيهون في تقديم المعلومات عن القضاة الزملاء الفاسدين. القضاة يعرفون تماما زملاءهم الفاسدين، يقرأون أراءهم القضائية، ويتداولون معهم، فيعرفون أخلاقيات كل قاض من نص الرأي القضائي ومن طبيعة الكلام أثناء المداولات السرية. ولابد أن هنالك قضاة حركيين في السر يتعين البحث عنهم وتخليق الفرص لاكتشافهم. وهنالك في إرث القضاء السوداني قضاة حكموا بالقانون وبالحق لصالح المقاومين المحليين ضد التهم التي كانت القوات المسلحة وأجهزة الأمن فبركتها ضدهم، مثلما تم في منطقة جبال النوبة في الثمانينات.
(5)
صحيح أن كل واحد من قضاة دارفور الثمانية والأربعين الذين تم نقلهم إلى دارفور حديثا يمكن أن يكون قاضيا فاسدا. بسبب أن الفساد هو الأصل والثقافة السائدة في القضائية السودانية. فلا تنخدع أنت من الشباب الحركيين في دارفور وفي جامعة نيالا بمظهر القاضي القادم من الخرطوم، الجبهة المحكوكة بحجر الصلاة، أو التمتمة الشفهية بما تظن أنها آيات قرآنية، ولا تنخدع بالجلابيب والملافح أو بصرة الوَشْ أو تصنع التقوى والنزاهة بسبحة راقية. وتذكر دائما أن القاضي الفاسد أخطر القضاة، وهو مستعد لارتكاب الجريمة الخطيرة لحماية صناعة الفاسد.
لكن، وبالرغم من ذلك كله، لابد يوجد بين هؤلاء القضاة الجدد في دارفور من هو قاض نزيه، بالصدفة النادرة والغريبة. وهو قانون الجدل. فحتى في هذي مخرأة القضائية السودانية يوجد قضاة يرفضون الفساد القضائي ويتحرقون للاندراج في مقاومته. والمقاومة مشدودة دائما إلى الأمل.
....
د. عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.cim