عند الحديث عن المفكر الدبلوماسي الاديب منصور خالد اذكر محطات عدة، عن شخصية منصور.. تراوحت بين اراء عدة، شأن العظماء دائماً يشغلون الناس وهم لا يتراجعون عن ما امنوا به من مبادئ، وإن اختصم حولهم مؤيدون يكيلون المدح، ومعارضون يقدحون بالذم.!
مستهل ما أود تسطيره عن شخصية منصور تقرير شفاهي من قريب لي عاصره في المرحلة الثانوية بوادي سيدنا، قال بأن منصور كان نسيج وحده، محب للاطلاع، مجود لدروسه، معتد برأيه .. منذ تلك الفترة لا ينساق وراء شعارات، ولا يجاري الحماس غير المؤطر، والذي كان سمة من سمات شباب ذاك الزمان، لا يهمه إن وصف من بعض المتحمسين بالمتخاذل.. عند رفضه المشاركة في إضراب نتيجته تحطيم أثاثات المدرسة، أو الاساءة لأفراد هيئة التدريس! ولكنه كان لا يتواني عن المشاركة بالرأي الصادح والواضح في ساحات الجمعيات الادبية والعلمية مبدياً رأيه الذي يعتز به.
- أحبه وقدره شخص في قامة الرائع جمال محمد احمد، والذي كان يصفه بأنه توأم روحه ، فاذا كان جمال يعتبر بين مثقفي الانجليز وكأنه واحد منهم ، وبين مثقفي افريقيا وكأنه واحد منهم، وكان عاشقاً للعروبة، فان منصور توأم روح جمال اتسم بتلك النظرة المتسامحة المتصالحة التي تحض علي الانفتاح والاستيعاب وترفض الابعاد والاقصاء والتعصب.
- حين جاءت ثورة مايو وولدت ، وخبأ بعض المتخوفين بضائعهم واموالهم لأن اللي اتولد سيحتاج الي هذه الاموال ليشب عن الطوق كان من ضمن الذين رحبوا بالتغيير.
- لم يكن وحده المرحب بالجديد الذي ولد ، بل هرعت نخب من اطياف المجتمع لتأييد التغيير الراديكالي المواكب لما حوله في مصر والجزائر وتنزانيا وغيرها... ومن ضمن المرحبين شخصيات يمثلون محطات سياسية متباينة امثال الراحل موسي المبارك والقاضي بابكر عوض الله ومستقلون اكاديميون من امثال جعفر بخيت والنذير دفع الله وعمر محمد عثمان ومحمد عمر بشير ، وشيوعيون من امثال فاروق ابو عيسي ومعاوية سورج واحمد سليمان.
- منذ الوهلة الاولي لم يكن انخراطه في النظام الجديد جرياً وراء سلطة او جاه، ولم يكن تابعا مأموراً لهذا الذي أتي وبشر بالتغيير، بل كما صرح كان احد الذين شيدوا ذاك المعبد.
- في الصراع الذي بدأ من وراء الكواليس تعرض لنقد مبطن احيانا وظاهر في احيان اخري، من بعض المؤدلجين سياسياً، واعتبروه خارجا من زمرتهم، وذهب النقد لإتهامه بأنه عميل للمخابرات الامريكية، وانداحت التهمة ليتلقفها بعض من دعاة الثورية الطفيلية من الفلسطينين ليدرج ضمن ثلة وصفوهم بأنهم العملاء .. في ذاك الزمان الذي كانت شعارات التخوين تطال اشراف وطنيين امثال الكاتب الشهيد يوسف السباعي والصحفي الشهيد سليم اللوزي والسياسي الراحل وصفي التل.
- لم يعادي دكتور منصور احدا، وصرح بأنه لا يعادي الشيوعيين والعروبيين وليس عصابيا ازاء نظرياتهم، ولكن لأن لكل أرض موروثاتها ومتطلباتها لا بد من ايجاد طريق ثالث للتنمية ورغم عقلانية هذا التوجه ظل بعض المتمترسين حول بعض الشعارات يضعونه في القائمة السوداء ذاتها.
- وبقوة دفع منه ومن امثاله ، وقعت اتفاقية اديس ابابا في مستهل السبعينيات من القرن الماضي، لتدخل البلاد في مرحلة واعدة .. تبشر بوطن حدادي مدادي ، يمكن ادارة التنوع فيه بحنكة وتدبر.
- إقترابه من قائد الركب الراحل نميري كان يعطيه الامل بأن يكون القائد الملهم نموذجاً أخراً يقتدي بقادة افذاذ امثال جوليس نايريري ونيلسون مانديلا في مرحلة لاحقة ... ولكن القائد الذي تجاذبته التيارات المختلفة داخل اروقة السلطة لم يكن من ذاك الطراز.
- من ضمن الثلة التي لم تعاديه ، كان منصور يصنف بأنه نسيج وحده ... ربما لتقيده باللبس الافرنجي ، ونمط حياته المتسم بالانضباط المشابه لحياة الفرنجة ليقول الراحل عمر الحاج موسي في احدي خطبه المسجعة مخاطبا الرئيس نميري ومهنئا له بالفوز برئاسة الجمهورية : (ممثلوا اهلك جاءوا من كافة هذا البلد، بعد أن هجروا الرجز وطهروا الثياب... جئنا 2000 واربعة مندوبا هنا في هذه القاعة جلسنا قيافة بعافيتنا وسلامتنا، جئنا عاج وحجل وسديري وقفطان وملفحة وعباية و(منصور خالد!) ) إنتهي الاقتباس.
- لم تكن عبارات الراحل عمر ذما لمنصور أو انتقاصا من مقدراته ... ولكن منصور في نظره كان مختلفا في هندامه وحتي في نظرته للحياة.
- قرأت عبارة مقتضبة نسبت الي الامام الصادق المهدي قيل أنه هاجم فيها منصور ووصمه بأنه من الذين ساهموا في خلق طغيان الراحل نميري، وأشك أن تكون هذه العبارة قد صدرت من السيد الصادق الذي عرف بعفة اللسان ودقة العبارة، وربما حرف التصريح ليتناسب مع رؤية البعض.
- دكتور منصور اثر الابتعاد من مايو جاهرا برأيه مبديا اطروحاته في مؤلفاته التي بدأت من النفق المظلم مرورا بالنخب وادمان الفشل وجنوب السودان في المخيلة العربية انتهاءا بكثرة الزعازع وقلة الاوتاد.
- بلا تردد وتمشيا مع مبادئه كان قريبا من الراحل جون قرنق واصبح مستشارا له، مؤمنا بامكانية خلق سودان جديد متنوع وموحد واصيل ليوضع في مخيلة بعض اتباع الاسلام السياسي كعلماني مارق. وما احوجنا الي الجلوس سويا للحديث عن العلمانية والاسلام والحكم المدني والحكم الاوتوقراطي... فاذا كان للاسلام علمانيته، فايضا لا يحق لاحد أن يدعي بأنه الاوحد لمعرفة مقاصد الاسلام الذي يخاطب الناس بمختلف مللهم وسحناتهم.
- وتجئ فكرة تكريم دكتور منصور ، والفكرة في حد ذاتها تومئ بأن في السودان شعب يقدر اصحاب العطاء، ولكن المهم ان تكون رسالة امثال منصور قد وصلت الي افكار النخب لتتحول من خانة المتعطشين الساعين للوصول الي المناصب ذات البريق بأي ثمن، الي القادرين علي احداث التغيير من خلال نقد الذات ... من اجل وطن معافٍ ومتصالح مع نفسه ومع الاخرين.
salahmsai@hotmail.com