تنقيب في كواليس ومآلات الاتصالات السرية بين الحكومة والمعارضة … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 

 

صحيفة إيلاف 6 نوفمبر 2018

(1)

في غمرة انشغال الفضاء العام السوداني المتزايد بالشأن الاقتصادي، لا سيما بعد الحراك الذي أطلقته جهود حكومة معتز موسى بنهج مختلف في مقاربة وإدارة الأزمات الاقتصادية المتراكمة، شهدت الأسابيع القليلة الماضية تطورات بالغة الأهمية على الصعيد السياسي، لا سيما على صعيد جهود التسوية السلمية للأزمة الوطنية، لم تجد اهتماماً في أوساط الرأي العام يوازي إرهصات تحولات ذات دلالة في المزاج العام وسط بعض القوى السياسية في الحكم والمعارضة، على خلفية حراك دولي وإقليمي واتصالات مكوكية بين الأطراف المختلفة جرى أغلبها وراء الكواليس، فيما أفصحت المواقف السياسية المعلنة للفرقاء عن توقعات بشتاء ساخن هذا العام لن ستكون ساحته على غير ما جرت به العادة في السنوات الماضية في ميادين القتال، بل ما ستجري وقائعه على الراجح وفق معطيات التحركات الراهنة على موائد التفاوض بحثاً عن تسوية سياسية جديدة يُرجى لها أن تكون شاملة لتغلق ملف الحروب الأهلية التي أقعدت البلاد.

(2)

ابتدر الحراك الأخير الرئيس ثابو إمبيكي كبير وسطاء الآلية الأفريقية رفيعة المستوى الذي ألقى، بعد حالة كمون طالت، بحجر كبير في بركة السياسة السودانية الساكنة حين دعا في خطاب أرسله في 25 سبتمبر الماضي إلى قادة تحالف نداء السودان المعارض، الذي يتزعمه السيد الصادق المهدي منذ مارس الماضي، إلى القبول بتصورات جديدة للوسطاء الأفارقة لكسر الجمود الراهن بالمشاركة في حوار مع الحكومة السودانية حول كتابة الدستور، وتهيئة البيئة السياسية والدخول في انتخابات 2020، وشملت التصورات بالطبع المسائل الأمنية والإنسانية العالقة بالتوقيع على بروتكول وقف الأعمال العدائية الذي جرى التفاض حوله في جولات سابقة، وإيصال المساعدات الإنسانية وهما في إطار مسار العملية التفاوضية حول المنطقتين. ودعا الأطراف الرد على مقترحه بحلول 25 أكتوبر الماضي، لكي يتم الاتفاق على استئناف التفاوض في أقرب موعد ممكن.

(3)

كما هو متوقع جاء رد الفعل الأولي من قبل أطراف نداء السودان التي سبق لها التوقيع على الاتفاق الإطاري (5 سبتمبر 2014) الموقع مع ممثلي لجنة (7 +7) لآلية الحوار الوطني، ثم اتفاق خارطة الطريق الأفريقية (مارس 2016)، رافضاَ لمقترحات الوسيط إمبيكي، فقد تبارى قادة نداء السودان في توجيه انتقادات حادة لخطوة إمبيكي، حيث اعتبرها جبريل إبراهيم رئس حركة العدل والمساواة دلالة "ضعف وعدم قدرة الوسطاء على مواجهة تعنت الحكومة السودانية ، لذلك اختارت مسايرته في اطروحاته متجاوزاً قرارات مجلس السلم والامن الافريقي، وألغى من الناحية العملية خارطة الطريق". ورأى أن الحديث عن دعوة للتفاوض "لا يرمي الى تحقيق اختراق في ملف السلام بقدر ما هو محاولة لتوفير سبب يعين على تجديد تفويض الوساطة".

لم يذهب مالك عقار بعيداً فقد اعتبر وصفة إمبيكي الجديدة بأنها "روشتة كتبها النظام وتمت بدون تشاور مع كافة الأطراف، وأنها تفرغ خارطة الطريق من محتواها وتكرسها لتنفيذ مخرجات حوار النظام، وهي غير مقبولة لنا في نداء السودان والحركة الشعبية".

(4)

وفي بيان صحافي لتحالف نداء السودان (18 أكتوبر)، عقب اجتماع لممثليه في الخرطوم مع إمبيكي في زيارته الأخيرة أكدوا "موقفهم الرافض لتلك المقترحات كونها تمثل تجاوزاً عملياً لخارطة الطريق التي تتمسك بها وفق مرجعيات قرارات مجلس السلم والأمن الأفريقي، وضرورة عقد اجتماع تمهيدي لبحث مطلوبات تهيئة المناخ والمسائل الإجرائية قبل الدخول في أي حوار مع النظام حول قضايا الأزمة الوطنية بهدف الوصول لحل سياسي شامل مُتوافَق عليه بين الجميع".

أما السيد الصادق المهدي فقد اعتبر مقترح إمبيكي "حوار ليكون ملحقاً بالحوار الوطني الذي انتهى في أكتوبر 2016 وأفرغت توصياته من محتواها، كما أن كثير من أعضائه قفزوا إلى منبر جديد هو تحالف 2020"، وخلص الإمام المهدي إلى تعليق ساخر "إنه يدعونا الى وليمة فطيسة ".

وكما هو منتظر فقد سارعت الحكومة إلى القبول بمقترحات إمبيكي، فقد أعلن نائب رئيس المؤتمر الوطني د. فيصل حسن إبراهيم عقب اجتماعها في الخرطوم منتصف أكتوبر " استعداد الحكومة للمضي قدما في التفاوض مع المعارضين والحركات المسلحة وفق أجندة التفاوض التي طرحتها الآلية الأفرقية رفيعة المستوى برئاسة الرئيس امبيكي، لاستئناف المفاوضات وبعض القضايا المهمة بهذا الصدد ومشاركة الموقعين على خارطة الطريق في إعداد دستور السودان القادم وقانون الانتخابات والمشاركة في الانتخابات".

(5)

ما ذهبت المعارضة في تبرير عدم تجاوبها مع مقترح إمبيكي لا يخلو من صحة، بالطبع مع اختلاف تقديرات المعادلة السياسية، ذلك أن دعوة المعارضة للمشاركة في حوار قومي حول كتابة الدستور الدائم وخوض الانتخابات، ليست مقترحات أصيلة بمبادرة من الآلية الأفريقية، بل هو مقترح طرحه الرئيس عمر البشير على كيبر الوسطاء إمبيكي منذ نهاية العام 2016 كبديل لتجاوز الجدل بين الأطراف حول الاتفاق الإطاري وخارطة الطريق التي تجازوها الزمن فعلياً بإعلان انتهاء عملية "الحوار الوطني" في أكتوبر 2016 ، وبالتالي أصبحت أطروحاتهما المتعلقة تحديداً في تفاصيلهما بأشراط مشاركة المعارضة في ذلك الحوار، بغض النظر عن جدواه وضرورته، كانت قد طويت صفحته بالفعل عل أي حال، ولم يعد عملياً ممكناً إعادة ساعته إلى الوراء، وجاء طرح البشير لحوار حول الدستور بمثابة جولة ثانية، أو حتى مبادرة مختلفة لبحث التفاوض مع المعارضة حول سبيل آخر للتسوية السياسية، المفارقة أن المعارضة رفضت العرض، وآثرت التفاوض بإعادة فتح ملف الحوار الوطني من جديد، وتطبيق خارطة الطريق الأفريقية عليه. بيد أن هذا الرفض لم يرافقه عمل معارض ضاغط على الحكومة لتعديل موازين القوى بما يفرض عليها الاستجابة لمطلبها، وتزامن ذلك مع تراجع كبير في قدرتها على العمل المعارض المسلح، وفاقم من ضعفه إصابة الحركة الشعبية أٌكثر فصائله حيوية بداء الإنشقاق، لتدخل العملية السلمية برمتها في طور الكمون والجمود مع استمرار حالة الأمر الواقع.

(6)

وجاءت المفارقة من أن رفض "نداء السودان" لعرض إمبيكي بدلاً من أن يصحبه طرح بدائل راديكالية لتجاوز ما اعتبر ترويجا لكبير الوسطاء لأطروحات الحكومة ، شهد شهر أكتوبر المنصرم على العكس من ذلك موجة غير مسبوقة من الاتصالات السرية، ربما للمرة الأولى منذ فترة طويلة، بين الحكومة والعديد من أطراف المعارضة المدنية والمسلحة على حد سواء، فقد أعلن السيد الصادق المهدى في إحدى رسائله الأسبوعية "إنه تلقى على مدى الشهرين الماضيين اتصالات من 10 شخصيات من مفاتيح النظام ممن أدركوا أن الحل لأزمة السودان تكمن في إيجاد إصلاح سياسي يحقق السلام والتحول الديمقراطي، ويعتقدون أن لي دوراً مهماً في هذا المجال، لذلك يناشدوني العودة للبلاد، ولو كمعارض".

كما كشف جبريل إبراهيم عن حوارات غير معلنة مع "لجنة مبادرة وطنية" تضم شخصيات مقربة من الحكومة جرت في العاصمة الفرنسية باريس، ونقلت عنه "سودان تربيون" قوله "إن الحراك السياسي الذي تم أخيراً، واللقاءات التي جرت هنا وهناك مع مسؤولي الحكومة لم تتضمن شيء سوى طرح الموافق المعلنة من الحركات المشاركة في المفاوضات، وهناك تنسيقا تاما في المواقف بين حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة حول مباحثات السلام في دارفور مع الحكومة السودانية"، وأضاف أنهم تلقوا تأكيدات من الولايات المتحدة وألمانيا بموافقة الحكومة السودانية على تكوين آلية جديدة لتنفيذ أي اتفاق سلام يتم التوصل إليه لحل النزاع القائم في دارفور.

(7)

ثم جاء الكشف عن مشاورات سرية جرت في جوهانسبيرج بين نائب رئيس المؤتمر الوطني فيصل حسن إبراهيم، ورئيس الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو برعاية الوسيط الأفريقي ثابو إمبيكي، وأكد الأمين العام للحركة عمار أمون حدوث اللقاء، قائلاً إنها "لم تحقق ارضية مشتركة بما يمكن الالية من بناء محاور للتفاوض بين الطرفين في ظل تمسك كل طرف بمواقفه المبدئية".

ثم دخلت على الخط جوبا التي تزامن وجود وفدين فيها يمثلان الحكومة والحركة الشعبية/ عقار، بعد إعلان الطرفين موافقتهما على عرض الوساطة الذي طرحه الرئيس سلفا كير على الفرقاء السودانيين لقيادة جهود تسوية الأزمة الوطنية في السودان، وسط جدل إن تمت لقاءات مباشرة بين الطرفين أم لا، غير أن ذلك لن يغير من حقيقة أن حدوث ذلك لن يكون سوى مسألة وقت لا أكثر، خاصة بعد انضمت حركتا العدل المساوة وتحرير السودان إلى دعم وساطة الرئيس سلفا كير، في وقت طار فيه إلى عاصمة جنوب السودان قادة كل حركات المعارضة المسلحة، بما في ذلك عبد العزيز الحلو في إطار جهود كير لإعادة توحيد الحركة الشعبية.

(8)

من المؤكد أن هذا الحراك المحموم الذي تشارك فيه الأطرف المختلفة في الأزمة السودانية لا ينطلق من فراغ، في ظل حالة جمود وسكون لن تكون في المحصلة في صالح أي طرف بما في ذلك الحكومة التي استفادت لفترة طويلة من حالة اللا-حرب واللا - سلم، الذي يعكس حالة توازن ضعف وفراغ سياسي، فالأوضاع الاقتصادية الصعبة لا يمكن معالجتها بصورة جذرية خارج إطار عملية إصلاح سياسي يتحقق فيها سلام واستقرار في ظل نظام سياسي يحقق قدراً كبيرا من التراضي بما يمكن من إعادة ترتيب الألويات في الإنفاق الحكومي بصورة حاسمة لصالح تحريك قطاعات الإنتاج المختلفة، كما أن كتابة دستور دائم غير ممكن في غياب تسوية سياسية شاملة، فضلاً عن أن إجراء انتخابات في 2020 لن تكون ذات جدوى حقيقة مع استمرار حالة التجاذب والصراع السياسي المستدام. ومن الملاحظ في هذا الخصوص ظهور خطاب حكومي أكثرمن مرونة في التعاطي مع استحقاقات الحوار مع المعارضة من خلال تصريحات أدلي بها نائب رئيس المؤتمر الوطني. ولذلك فإن التوصل إلى تسوية شاملة، حتى في ظل معارضة ضعيفة، لم يعد خياراً بل أمراً لا مناص منه، خاصة وأن ملف الحوار مع الولايات المتحدة لن يحدث فيه اختراق جدي بدون إعادة ترتيب للنظام السياسي السوداني يكون أكثر استيعاباً للآخر، وهي مطالب معلنة في الأجندة الأمريكية، لذلك فإن إنطلاق الجلة الثانية من الجوار مع الولايات المتحدة حول رفع اسمه من لائحة الدول الراعية للإرهاب، لا يتعلق بتفاوض حولها وقد انخرط السودان سلفاً في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب منذ العام 2001، بل يتعلق بالتأكيد بانشغالات أمريكية عبرت فيها سابقاً عن خطة المسارات الخمسة وتوابعها.

(9)

من جانب آخر تدرك المعارضة يفصائلها المختلفة أن قواعد اللعب فيما يتعلق بصراعها مع النظام قد تغيرت بفعل تحولات كثيرة وعوامل بعضها داخلي وأخرى خارجية أعادت تأهيله بدرجة تحتّم استمرار وجوده، بالطبع مع تعديلات ضرورية، فقد عبّر مني أركو مناوي عن ذلك بقوله "لا يتوقع أحد حلا نموذجيا كما تنشده الرغبات العامة، ولا حدوث معجزة لأن التردي في جميع مناحي الحياة وصل درجة يصعب مقاومتها الا بمعالجات طويلة الأمد عبر خطط دقيقة "، وقال مالك عقار من جهته "على المعارضة أن تعالج المصاعب التي تواجهها.. ندرك أن النظام ضعيف لكن سيستمر بضعفه إن لم نتوحد ونغير موازين القوى"، وأقر بحدوث تغييرات واسعة في داخل تركيبة الحركة الجماهيرية والمجتمع السوداني، تتمثل في مصاعب ناتجة من الإسلام السياسي وإنهيار الريف والتغييرات العميقة في المدن بما في ذلك الاضمحلال الذي أصاب الطبقة الوسطى، فضلا عن غياب النقابات وضعفها، وأضاف "هذا الواقع يطرح السؤال ليس حول قيام الانتفاضة فحسب بل هل سنوفر العوامل التي ستحقق أهداف الانتفاضة ؟ أم أن الانتفاضة يمكن توظيفها لاستمرار النظام القديم بأشكال أخرى ؟... هذه أسئلة مهمة، لأن للإسلام السياسي اليوم دولة عميقة".

(10)

غير أن أكثر الموقف تعبيراً واضحاً عن رياح التحولات القادمة وآثارها ما خطه ياسر عرمان في مقاله منتصف أكتوبر الماضي الذي رفض فيه التشكيك في مواقف القوى المنخرطة في اتصالات من أجل التسوية الشاملة والسلام العادل مع الحكومة الذي اعتبره "أمرا لا يستحق الإعتذار لأحد" في إشارة لتحالف قوى الإجماع الوطني الرافض لما يصفه بنهج "الهبوط الناعم"، ويتبنى إسقاط النظام، مشيراً إلى ان "كل حرب يجب أن تكون نهاياتها سلام وحروب السودان الحالية أفضل طريقة لحلها هي عبر التسوية السياسية الشاملة والسلام العادل".

واعتبر عرمان أن كل من يشكك في مواقف الحركات المسلحة المنخرطة في اتصالات مباشرة أو إقليمية أو عبر وساطة الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي، جاهلا بطبيعة الحرب وطبيعة تلك الحركات ومصالح المدنيين في مناطقها، قائلاً إن "إن الكفاح المسلح ليس بنزهة ولم تخمد جذوته إلا بحل القضايا التي أدت إليه".

وقال "من خلال تجربتي التي امتدت إلى 31 عاماً فإن الصعود والهبوط في مسرح الكفاح المسلح أمر شهدناه وتعاملنا معه وعلى النظام ان لا يخطئ الحسابات فإن هنالك متغيرات داخلية وإقليمية يمكن أن تسهم في تصعيد رايات الكفاح المسلح، كما أن هنالك فرصة حقيقية وملموسة لإنهاء الحروب تسندها أيضا متغيرات داخلية وإقليمية"، وقارن عرمان الواقع بالديناصور الذي إنقرض لعدم قدرته على التكيف مع متغيرات المناخ رغم حجمه الجبار بينما استطاعت حيوانات أخرى أقل شأناً منه الاستمرار لقدرتها على التكيف.

(11)

مهما يكن من أمر فمن الواضح أن هذا الحراك، بغض النظر عن بعض التفاصيل، وبعض المواقف التي تبدو متصلبة من بعض الأطراف، إلا أن المسرح السياسي السوداني بدأ في الاستعداد الفعلي لتحولات مهمة لا تقل عن التحوّلات التي جاءت بها اتفاقية السلام الشامل، وهي على أية حال، لا ترابط فقط برغبة الأطراف المعنية فقط، بل بعوامل كذلك تفرض على الجميع الانتقال من المربع الراهن إلى مربع جديد لا يزال برسم التشكل، وما الهجرة الجماعية للفرقاء السودانيين بإتجاه جوبا التي تحولت فجأة من أرض حرب إلى صانعة سلام محتملة في السودان، لا يحدث فقط بدوافع نيات حسنة بل استجابة لمعطيات موضوعية تفرضها توازنات دولية وإقليمية وحتى محلية، ولعل الانتقال إلى جوبا لتقود الوساطة يحمل نوعاً من التجاوز النفسي والفعلي لمقاربات الآلية الأفريقية رفيعة المستوى التي لم تستكع تحقيق اختراقات ذات بال في جدار الأزمة السودانية. وكما استطاعت الخرطوم تحت مظلة إيقادإداث اختراق في حرب جنوب السودان الأهلية، جاء الفرصة لجوبا لتلعب الدور نفسه تحت مظلة الاتحاد الأفريقي.

 

آراء