بسـم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الثورة الشبابية الشعبية التي تنتظم المنطقة تأخرت كثيرا في زمانها ومكانها, إلا أنها انطلقت أخيراً وسوف تستمر بإذن الله تعالى حتى النصر لتحرير شعوب المنطقة من الاستعمار الداخلي وظلم ذوي القربى. فلقد توفرت الشروط الضرورية للثورة من استشراء مظاهر الفسـاد والظلم والبطش وانتهاكات الحرمات والحريات وإطلاق يد القوى الباطشة الأمنية والبوليسية وإهدار كرامة الناس على أيدي هذه القوى وتعاملها اللا إنساني الذي لا يليق بكرامة الإنسان بالإضافة إلى تضاؤل فرص المستقبل وانسداد الأفق أمام الشباب والأزمة المعيشية الطاحنـة, كلها أدت إلى أن يتحول السخط الشعبي الذي ظل مكتوما يغلى لســنوات طويلة إلى غضبة قاهرة تتفجر ثورة غضب عارمة هدفها تحرير الشعوب من هذا الواقع الأليم واطاحة السدنة, جلادى الشعوب وتطهير كل البؤر الآسنة التي ساعدت في خلق الأزمة الوطنية الكبرى.
توفر شروط الثورة في السودان:
توافرت كل الشروط أنفة الذكرى لقيام الثورة في السودان منذ وقت طويل. أضف إليها - بخلاف الحال في كل من تونس وليبيا - الأزمة المعيشية الطاحنة التي يعيشها السودانيون كل يوم, والغلاء الفاحش الذي يتبدى في عدم القدرة المادية على توفير حتى ضرورات الحياة اليومية من مأكل ومشرب للأفراد والأسر, حتى أصبح غالبية الشعب السوداني يرزح تحت خط الفقر (95%) , ما يعني أن كل شرائح المجتمع تقريبا دخلت في دائرة الفقر بمن فيهم الموظفون, والشرطة والعمال. هذه الضائقة المعيشية تطحن 95% من الشعب السوداني في الوقت الذى ظلت فيه الثروة النفطية تجد طريقها إلى خارج البلاد, أما لتودع فى الحسابات الخاصة, أو لشراء السلاح لضرب الوطنيين من أبناء الشعب جنوبا وغربا شرقا وشمالا, وللصرف بلا حساب على الأجهزة القمعية من الأمن والشرطة والجيش للبطش بالمواطنين, حيث تشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من 80% من الموازنة العامة تذهب لهذه الأجهزة لتأمين النظام – ضد الشعب.
كما ظل النظام طوال سني حكمه العجاف في حرب مستمرة ضد الشعب السوداني, حربا طالت كل الوطنيين فصلا وتشريداً وتضييقاً وملاحقة وتعذيباً وقتلاً. كما شنت حروباً باغية على المواطنين في جنوب البلاد راح ضحيتها ملايين من خيرة شباب الوطن, حتى اجبر تحت الضغط الدولي من الجلوس مع الحركة الشعبية لإبرام اتفاقية السلام الشامــل التي مهدت الطريق لانفصال جنوب الوطن الآن. هذا الجرم والتفريط في تراب الوطن كان بحد ذاته كافيا لإسقاط النظام من منسوبيه قبل معارضيه إذا كان فيهم ذرة من وطنية أو شعور بعظم المسؤولية بمصير الوطن. كما ظل ولا يزال يشن حروبه الباغية على المواطنين في دار فور, ويحرق قراهم وينتهك حرماتهم حتى اليوم دون وازع من دين أو أخلاق أو وطنية. إن المجازر التي لا زالت ترتكب في دار فور, هي أشنع وأوسع نطاقاً وأغور جرحا من الذي نشاهده اليوم من مجازر يرتكبها ألقذافي وزبانيته بحق الشعب في ليبيا. إن الذين يشجبون ما هو حاصل الآن في ليبيا أين هم طوال السنين السبع الماضية التي استمر فيها نظام الخرطوم يحرق القرى بمن فيها في دارفور؟ كما شن النظام حروبه على المواطنين في الشرق وفي الشمال. طوال هذه السنين الذي ظل فيها النظام في حرب مستمرة ضد الشعب السوداني, لم يخل بيت في السودان من ماتم أو فاجعة أو موت قريب أو عزيز.
والأدهى والأمر من ذلك كله أن النظام عمل بشكل منهجي على إذلال الشعب وإفقاره وامتهان كرامته بواسطة أجهزته القمعية الباطشة بقصد إخضاع الشعب وكسره والسيطرة عليه تماما سياسيا واقتصادياً. فعمد إلى تغيير قيم وأخلاق الشعب السوداني التي كانت مضربا للمثل في سمو أخلاق السودانيين وأمانتهم وكرمهم وعزة أنفسهم وتواضعهم ونفورهم من الكبر والغرور الأجوف. فقتن ما أسماه "إعادة صياغة الإنسان السوداني" سياسية رسمية منهجية اتبعتها الدولة كان حصادها إفساد أخلاق الناس وتشويه صورتهم وتنشئة أجيال على المكافيلية المطلقة والأنانية والمكر والكيد والخداع والعنف وجرائم القتل الغريبة على المجتمع السودانى التى تطالعنا بها الصحف كل يوم تقوم شاهدا على فداحة الكارثة التى اصابت الأخلاق فى المجتمع السودانى تحت هذا النظام. استباحة حقوق الناس وأعراضهم وتجنيد جيوش جرارة من الشباب لتتبع عورات الناس – بعد أن حرموهم من فرص العمل الشريف- لرصد وتتبع الأحرار والحرائر والتحرش والتهديد والتخويف حتى غدا التوجس والارتياب يخرب النفوس حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. فأصبحت "المصلحة " هي التي تحكم العلائق بين الناس, وليس قيم التكافل والنجدة والنصرة والنفير كما كان الحال في السابق. تفتقت عبقريتهم الشيطانية أيضا عن وسائل فى خلق الفتنة بين الناس: بين الأهل والعشيرة والقبيلة وعلى مستوى الأسرة بـ"تمكين" مواليها بالمال والوظائف والجاه والسيارات وكل أساليب التمييز والإغراء بقصد الاستفزاز والإساءة إلى الوطنيين والمستقيمين غير الموالين الذين هم أحق وأجدر بهذا التكريم من محسوبي النظام الضعفاء فى هذه الكيانات القبلية والعشائرية والأسرية, ما كانت نتيجتة الحنق والغبن والفتنة والتفرقة وانفراط عقد المجتمع نتيجة لهذه الممارسات الشيطانية التي تفرق بين الناس على أسس الباطل والبغي والطغيان.
كما ثبنت حكومة الخرطوم سياسة منهجية عمدت إلى تجهيل المواطنين خاصة الأجيال الناشئة, وثم تغييب متعمد لوعيها, وإهدار إمكانات الشباب وطاقاتهم في أشياء لا تفيدهم شيئا في مستقبلهم. فانتهجت سياسة التعليم الكمى في الجامعات, وثم تخريج مئات الالوف من الطلاب والطالبات بمستويات تعليم متدنية لا تنفعهم شيئا في إيجاد فرص عمل في الداخل أو الخارج, حيث لا يمكنهم المنافسة في أسواق العمل نسبة لتدني مستويات التدريب والتأهيل, والحكومة تدري ذلك جيداً. فلم يكن فتح العشرات من الجامعات يقصد به إفادة الخريجين اوالمجتمع, بل كان وسيلة لتعظيم قواعد الحزب عن طريق إفقارهم ثم استقطابهم ككوادر للحزب يتم تجنيدهم – تحت ضغط الحاجة - بواسطة اتحادات الطلاب وجمعيات إعانة واعاشة الطلاب وصندوق دعم الطلاب, كلها واجهات استقطاب لتجنيد الطلاب وإلحاقهم بكوادر المؤتمر الأوطنى, وبكتائب الجهاد ومليشيات الدفاع الشعبى. وخير شاهد على معرفة الحكومة قبل غيرها بتدنى مستويات التعليم, ما قرره منسوبي المجلس الوطني أنه لا فائدة من توظيف هؤلاء الشباب حسب قرار عمر البشير تعيين مئات العطالى من الخريجين الأيام الماضية, فى خطوة القصد منها امتصاص الغضب الشعبى المتنامى, وأوصوا عوضا من ذلك بمنح هؤلاء الشباب منح وقروض لاقامة اعمالهم الخاصة.
خبر السودانيون الثورات الشعبية ضد أنظمة البطش والطغيان منذ نهايات القرن التاسع عشر حين اندلعت الثورة الشعبية بقيادة الامام المهدى فى عام 1885م ضد الحكم التركى المصرى الذى بطش ونكل بالسودانيين, ثم ثورتى أكتوبر 1964, وأبريل 1985. كما عاش السودانيون تجارب الحكم الديمقراطي النيابي الصحيح باكرا منذ فجر الاستقلال في منتصف القرن الماضي, في وقت لا تزال فيه شعوب المنطقة ترزح تحت انماط الحكم الابوى والشمولي. وذاقوا حلاوة الاستقلال ومعنى الحرية والانعتاق من الوصاية والبطش وكبت الحريات.
كما عرف السودانيون باكرا قيم المؤسسية في الدولة المدنية ومعاني استقلال القضاء الحر ونزاهة الخدمة المدنية وقومية المؤسسات العسكرية والشرطية. بمعنى آخر كان السودانيون سباقون إلى الأخذ بمبادئ ومعاني الدولة المدنية والحكم الديمقراطي. هذه القيم التي قضت عليها الحكومة القائمة الآن بانقلاب عسكري باسم الدين منذ اثنين وعشرون عاما عجاف, كان حصادها هذا الهشيم من الخراب والدمار والتراجع المريع والانزلاق في هاوية التفكك والزوال.
لكل الأسباب أنفة الذكر كان السودان هو أولى وأحق بأن تندلع فيه ثورة التغيير قبل غيره لاستعادة الإرث السوداني الحافل بنصره الحريات والحقوق والعدل وروح الدولة المدنية التي تسع الجميع تحت مبادئ المساواة والمواطنة وحكم القانون واحترام الكرامة الإنسانية.
السؤال المحوري هو: لماذا تأخرت الثورة في السودان على الرغم من توفر كل الشروط لاندلاعها؟
للإجابة على هذا السؤال الهام, ولتضح الإجابة أكثر, لابد من فهم طبيعة القوى الفاعلة في الساحة السودانية وموازين القوى في تركيبة المجتمع السوداني.
موازين القوى في السودان:
عمل الحكم الاستعماري فى السودان منذ بدايات القرن الماضي على تبني استراتيجية قصد بها تنمية السودان بما يخدم المصالح الاستعمارية وربط الاقتصاد السوداني باقتصاد المركز الاستعماري. فأنشأ المشاريع الاقتصادية الكبرى كمشروع الجزيرة ومشروع الحماداب على النيل لإنتاج المواد الخام الضرورية للمصانع البريطانية, خاصة صناعة النسيج بمصانع لانكشير الشهيرة. استتبع ذلك ضرورة تنمية المجتمع على نسق مماثل, حيث حظي وسط السودان النيلي باكرا بالتعليم والتدريب ليؤم المتعلمون من هذه النواحي الوظائف الدنيا فى الخدمة المدنية وفي الجيش. في المقابل كان نصيب المناطق الأخرى من السودان- خاصة غرب السودان- من حظوظ التنمية الاقتصادية والاجتماعية أن أوكل اليهم دور العمالة الرخيصة في العمل في المشاريع الكبرى كمشروع الجزيرة ومشاريع النيل الأبيض وغيرها. أما جنوب السودان فقد فرضت عليه سياسة وقانون "المناطق المقفولة" ولم يحظ بأي نوع من التنمية ما عدا ما تقدمه البعثات التبشيرية الكنسية هناك. كانت نتيجة هذه السياسات أن قامت التنمية على نمط غير متوازن, ما عرف فى الأدبيات بمفهوم التنمية "غير المتوازنة" بين أقاليم البلاد, أدى إلى أن حظي وسط وشمال السودان النيلي بقسط مقدر من التعليم والنمو الاقتصادي والإجتماعي, بينما ظلت بقية أقاليم البلاد تزرخ تحت التخلف والفقر والجهل والاستغلال الاقتصادي. تبع ذلك نوع من التمايز الاجتماعي بين أقاليم السودان, ما يمكن أن يطلق عليه "طبقية جهوية" بحيث أن الجماعات القاطنة في وسط السودان النيلي أصبحت ترى نفسها- وبما توفر لها من مقومات النمو الاقتصادي والتعليم والوظائف - إنها أعلى قدرا عما عداها من القوميات الأخرى فى البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. تطور هذا الشعور بالتمايز لدى النخبة النيلية إلى توع من الاستعلاء الثقافي والعرقي على بقية مكونات المجتمع السوداني, خاصة تحت حكم الجبهة الاسلامية, ما أدى لاحقا إلى التوترات السياسية والاحتقانات الاجتماعية التي جعلت بقية المجموعات في الجنوب والشرق والغرب تشعر بأنها مهمشة, وأنها مجموعات من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة, ما كانت محصلته النهائية انفصال الجنوب, وإذا استمرت ذات العقلية في حكم البلاد, سيؤدي إلى انفصال الغرب والشرق.
هذا باختصار شديد هو النتاج الطبيعي للسياسات الاستعمارية في السودان: (لفائدة القارئ الكريم: هذا جانب من رسالتى للدكتوراة فى الاقتصاد السياسى بجامعة ليدز لمن يريد أن يستزيد. الرسالة بعنوان The Politics of Famine in Sudan: University of Leeds 1996)
إحداث تنمية غير متكافئة بين أقاليم السودان ورثت فيه النخبة النيلية موروثات المستعمر من تنمية اقتصادية واجتماعية وتعليم ووظائف. ارتبطت مصالح هذه النخبة بالمصالح الاستعمارية في التجارة والاقتصاد, بينما همشت بقية أقاليم البلاد, وجعلتها كماً مهملاً تلجأ إليه النخبة كمستودع للعمالة الرخيصة, وجنود في الجيش والشرطة, والأمن لحمايتها – للمفارقة العجيبة – من غضب اهليهم المستضعفين ومناطقهم المهمشة. المؤسف واللافت للاهتمام أن الحكومات الوطنية المتعاقبة على السودان- عسكرية كانت أم مدنية - لم تشـأ أن تصحح هذا الخلل البائن في التنمية, بحيث تتبنى استراتيجيات تنموية تهدف إلى ردم الهوة بين مركز التنمية فى الوسط النيلي وبين الأقاليم الطرفية المهمشة. بل بالعكس تماماً, نرى أن الفجوة في التنمية "وفي توزيع الثروة والسـلطة" اتسعت بفراسخ عدة عما كان عليه الحال إبان الحكم الاستعماري. ما هو أكثر إيلاما, إن النخب النيلية التي ظلت تحكم السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم وتسيطر على مقاليد الثورة ومفاتيح الثروة, لم تقف فقط عند حد تبنيها النهج الاستعماري في تنمية البلاد وإبقاء الأقاليم الطرفية في التخلف والتبعية للمركز, فحسب بل الأدهى والأمر أنها كرست بصورة منهجية وعبر مؤسسات الدولة لإقصاء وتهميش دور المناطق الطرفية وإقصاء أبناء هذه المناطق من المشاركة الفاعلة في أمور البلاد, ما يصح أن ينطبق عليهم وصف "المستعمرين الجدد بوجه وطني". بالطبع يهدف هذا الإقصاء المتعمد إلى حرمان هذه المناطق وأبنائها من المشاركة ومنافسة النخبة النيلية المتحكمة في الامتيازات التي حصلت عليها من الهيمنة على دولاب الحكم ومفاصل الاقتصاد. بل بلغ الأمر من السوء بهذه النخب أنها عمدت إلى تســليم سلطة الدولة المدنية إلى المؤسسة العسكرية في كل سانحة شعرت فيها النخبة أن هيمنتها في خطر من اقتراب "المهمشين" إلى الحكم. ولا يخفى أن المؤسسة العسكرية – اعني القيادات العليا- فيها - ينتمون جميعهم تقريبا - إلى النخبة النيلية. ولا يخفي أن قيادات الجيش من النخبة النيلية لا يتوانون في أن ينعتوا أي انقلاب عسكري يقوم به أبناء الغرب أو الشرق أو الجنوب بأنه انقلاب "عنصــري" بينما لا ينعتون انقلاباتهم هم بصفة العنصرية.
موازين القوى في السودان, لاتقوم على الانتماءات القبلية المحضة كما هو الحال في اليمن أو في ليبيا, أو بين مؤسسة الحكم والمؤسسة العسكرية وتحالفهما مع الرأسمالية الطفيلية, بل يقوم على الصراع بين المركز "النخبة النيلية" المتحكمة في الوسط, وبين الأطراف المهمشة- ما يعرف بصراع المركز والهامش.
هذه الخلفية ضرورية للإجابة على سؤالنا المحوري السابق:
لماذا تأخرت الثورة في السودان رغم توفر الظروف الضرورية لاندلاعها؟
حين توفرت الظروف الضرورية لقيام الثورة في السودان, شعرت قوى عديدة مؤثرة في الحراك السياسي السوداني أن التغيير الثوري القادم سوف يكون تغييراً جذرياً شــاملاً . من شأن مثل هذا التغيير الجذري أن يطال أطر الحكم وهياكل الاقتصاد ومصادر الثروة القائمة بالبلاد, وهذا بالضبط ما تخشاه القوى السياسية المؤثرة المنتمية للنخبة النيلية سواء في الحكومة أو في المعارضة التي ظلت ممسكة بزمام الحكم والامتيازات المتأتية من ذلك منذ الاستقلال وحتى اليوم, وهي تخشى فقدان هذه الامتيازات التي ظلت تستأثر بها على حساب من يقودون الثورة القادمة من المنافسين الجدد الآتين من الأقاليم المهمشة.
إن مقولات قادة المعارضة بأن قيام الثورة الشعبية والشبابية سوف يؤدي إلى "صوملة" السودان ليس صحيحاً. الصحيح هو أن قادة المعارضة - الذين كلهم تقريباً ينتمون إلى النخب النيلية في المركز - سعوا إلى تخذيل الثورة وتثبيط الهمم بهذا القول لأنهم حقيقة لا يريدون تغييراً جذرياُ شاملاً يجئ إلى السلطة بقوى جديدة من الهامش تطيح بمصالحهم التي ظلوا يتمتعون بها منذ الاستقلال. ما نراه اليوم من هرولة وتفاهمات بين قادة المعارضة وحكومة الخرطوم هو في حقيقته تحالف - كما هو الحال دائماً - بين أقطاب وفعاليات النخبة النيلية التي تمثل المركز في مواجهة القوى الحديثة التي هي ثقل الثورة وتمثل الهامش وتسعـى للتغيير الجذرى الشــامل.
الصراع بين المركز والهامش أخذ الآن بعداً آخر خطيــراً. بالطبع يمكن أن نقرأ تصريحات قادة المعارضة بالخشبة من "صوملة" السودان في حال تقدم الثورة, بأن النخبة النيلية تتمرس وتقف في خندق واحد - حكومة ومعارضة - ضد مطالب جموع الشعب السوداني الذي انتظمته روح الثورة الآن – جموع الشعب السوداني تطالب بتغيير النظام وتغيير جذري في بنية الدولة وهياكل الحكم والاقتصاد. تكتل النخبة النيلية الرافض لهذه المطالب يعني المواجهة بين المركز والهامش, وهو يعني أن النخبة النيلية تريد أن تقول لجموع السودانيين غير المنتمين لهم, اما أن نحكمكم أو المواجهة الدموية والصوملة. وهذا الفكر لا يختلف كثيراً عن دعوة أبن ألقذافي للشعب الليبي إما أن نحكمهم أو المواجهة وحمامات الدم. "الصوملة" لا تأتي من جموع المواطنين المطالبين بالحقوق والعدل والإنصاف. "الصوملة" تأتي من الطغاة المتغطرسين الطاغين الذين يرفضون أن يعطوا الناس حقوقهم, ويرفضون أن يفيئوا إلى الحق والعــدل, بل يسعون إلى غصب الناس والتسلـط عليهم بالقهر والعدوان دون وجـه حق؛ فأما ذاك أو الحرب والثبور "الدايرنا يطلع لينا في الشارع". وهذه لعمرى شيم الطغاة المستبدين والجاهليين. لكن فليتذكر هؤلاء أن الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا, ولا يقبلون الضيم والذل الهوان..
المواجهة غير المتكافئة:
بقي أن نعرف من هم ثوار السودان الذين وقفت الخرطوم - صفاً واحداً حكومة ومعارضة – لتخذيل ثورتهم وضربهم من الخلف؟ بيّنّا أن الصراع في السودان ينحضر بين المركز والهامش (وانفصال جنوب الوطن هو تجسيد ونتاج حتمى لهذا الصراع). تتكتل القوى المهمشة الثائرة على هيمنة المركز القائمة منذ الاستقلال وحتى اليوم. وتشمل هذه القوى الثائرة:
1- جموع السودانيين المهمشين في القرى والأرياف والمدن في دارفور, وكردفان والشرق والشمال الأوسط, وهم المزارعون والرعاة والحرفيين
2- حركات التمرد الدار فورية المسلحة والمدنية.
3- حركة ثورة تجمع كردفان للتنمية.
4- الحركة الشعبية لجنوب كردفان.
5- الحركة الشعبية للنيل الأزرق والانفسنا.
6- الجبهة الوطنية العريضة للمعارضة بقيادة المناضل على محمد وحسين وصحبه المناضلين.
7- أهالي ومزارعي مشروع الجزيرة الذي تغولت عليه حكومة المتأسلمين وحطمته وحولت أصوله إلى جيوب محاسيبها.
8- حركات الشرق- البجا والهدندوة.
9- حركة شباب النوبة وكوش (شمال السودان).
10- كل المغتربين السودانيين تقريباً (ما بين 6 - 9 ملايين) الذين أجبروا على ترك الوطن بسبب سياسات الفصل التعسفي والتضييق والملاحقة.
11- شـباب الفيسبـوك وتوتير واليوتيوب الذين تحرروا من تضليل الإعلام الرسمـي وتعرفوا على الحقائق من خلال الانترنت.
12- كل الدكاترة والأطباء ومنتسبي المهن الصحية الصامدين الذين إذاقتهم الحكومة صنوف التنكيل لكســر شوكتهم وزعزعة صمودهم فــلم يزدهم ذلك إلا صموداً حتى النصـر.
13- المثقفون الوطنيون ذوي الضمائر الحية في الداخل والخارج.
14- الوطنيون من الجيش والشرطة الذين هم على رأس العمل والمتقاعدين منهم.
15- كل القطاعات النسوية ومنظمات المرأة لما لحق بالمرأة من إهانة تحت هذا النظام.
16- كل طلاب الجامعات ما عدا أولئك المنتمين للنظام.
17- كل المحرومين والمشردين والعشوائيين والنازحين الذين يحلو للدكتور حســن مكي أن يطلق عليهم "الحزام الأســود" الذي يطوق الخرطوم الكبرى.
18- التنظيمات الوطنية من منظمات المجتمع المدني.
19- الأحزاب ذات الانتماءات الإقليمية.
20- جموع الشباب غير المؤدلج المطالب بالعدالة الاجتماعية وحق العمل.
21- جموع الخريجين من الشباب العاطلين عن العمل والناقمين على النظام.
ماذا تبقى لحكومة الخرطوم للتعويل عليه فى مواجهة كل جموع الشعب السوداني وطوائفه أنفة الذكر؟ تعتمد الخرطوم في مواجهاتها للشعب حصرياً على القوى الباطشة للبطش والتنكيل بالشعب الأعزل. وتشمــل هــذه العنــاصـر:
1- أجهزة الأمن.
2- الدفاع الشعبي
3- المليشيات المؤدلجة التابعـة للنظام.
4- الشرطـة الشعبية.
5- القيادات العليا في الجيش- بعد أن تمت غربلـة الجيش غربلة شــاملـة ونهائية لاستبعاد أي عنصر يشك في ولائه حتى ولو بنسبة 1% لضمـان الولاء المطلق في مواجهة الثــورة الشعبية.
6- شـراذم الارزقية والانتهازيين والمطبلين وبائعى ضمائرهم من علماء السلطان المحيطين بالنظام والمنتفعيـن به على جماجم المواطنيـن وأشلاء الوطن. وهؤلاء أول من يسارع بالقفز الى خارج السفينة الغارقة تاركين القبطان الى مصيره المحتوم.
كم يبلغ عدد هؤلاء بالجملة؟ خمسون الفا؟ مائة الف؟ ماتا الف؟ فى مواجهة كل الشعب السودانى؟ يعلم النظام جيداً أنه يخوض حرباً خاســرة (fighting a losing battle). إذ سرعان ما تتهاوى دعائمه تحت أول مواجهة حقيقية مع جبهات الثورة المتعددة التى لاقبل لهم بها, ولذلك سعــى وبكل دهاء لتعضيد أركان جبهته بسحب أركان المعارضة الهامة "لإجراء مفاوضات" معها. القصد واضح لكل من القى البصر: تخذيل وإفشـال الثورة وحرمانها من بعض أهم عناصر نجاحها بسحب قادة الأحزاب الذين كان يعول عليهم لقيادة الثورة وتنظيمها وإنضاجها بما لهم من خبرات وتجارب عظيمة مع الثورات الســابقة في تاريخ السودان الحديث. وهو بالضبط ما تحتاجه الثورة الآن: تنظيم االصفوف وتوحيد الجبهات والاصطفاف فى جبهة واحدة عريضة قوية هادرة ترعب الطغاة وتزلزل أركانهم. إلا أن قادة الأحزاب آثروا التخندق في خندق الظلم والطغيان ضد خندق الثورة والعدل ونصرة الحق. لكن سوف يتمكن الشباب من تنظيم صفوفهم دون الحاجة الى المتخاذلين كما فعل الشباب فى تونس وفى مصر وفى ليبيا بمنّ من الله مستعينين بما قيض الله لهم من وسائل الاتصال الحديثة لتكفيهم المؤونة أن شاء الله تعالى. وما هى الا مسالة وقت.
خذلان الثوار بهذه الطريقة لا يعني أن الثورة قـد انتفت, بل يعني أن موقف قادة الأحزاب قد أمدّ في عمر النظام لعدة أيام أو شهور. لكن مقومات الثورة الشــاملة لا زالت قائمة, وسوف تستمر وتنضج وتنتصر بإذن الله. لكن تبقى الدروس والعبر المستفادة من هذه المواقف أنها سوف تسطـر في صفحات التاريخ شاهدا أمام الله والوطن ولأجيالنا القادمة, كما أن نجاح الثورة المؤكد والمعضد بمشيئة الله تعالى من نصرة المظلوم ونصرة الحق على الباطل, يؤذن بأفول الكثير من النجوم في سماء السياسة السودانية, وانبلاج فجر جديد مشرق بالأمل إن شاء الله.
د. أحمد حموده حامد
الأثنين 27 فبراير الموافق 24 ربيع الأول 1432ه
ahmed hamid [fadl8alla@yahoo.com]