ثم ماذا بعد انتهاء صلاحية التبضُّع البذخي في المبادرات؟ (2-2)

 


 

 

What After the Expiry of the Extravagant Shopping in Initiatives? (2-2)

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم

استعرض الجزء الأول من المقال تبضع الفريق أول البرهان طوال فترة الاقتتال المدمر في السودان مع قوات الدعم السريع في المبادرات المطروحة لوقف أطلاق النار التي تشمل مبادرات الإيقاد، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار السوداني، والمنامة، وليبيا وتركيا، والتي يعوِّل جميعها على التكامل مع منبر جدة الذي ترعاه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. وتم استعراض قرار مجلس الأمن رقم 2724 وأبراز الخلفية التي سبقت اتخاذه المتمثلة في تعيين مبعوثين للسودان من الفاعلين الإقليميين (الاتحاد الإفريقي) والأمميين (الأمم المتحدة) والقطريين (الولايات المتحدة) القاسم المشترك بينهم هو الخبرة الطويلة في فض النزاعات وتحقيق السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، ولو استدعى ذلك إنشاء قوة إقليمية أو دولية تحت البند السابع بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كما أبرز الجزء الأول من المقال "شر البلية في بيان الخارجية" الذي انطوى على تناقضات كشفت اختلاج وتناقض صائغيه لدرجة تذييلهم البيان بتعديل لقرار مجلس الأمن الذي اعتُمِد بالإجماع وحظي بتأييد كافة الكيانات الثنائية ومتعددة الأطراف! ويحدث كل ذلك في ظل تفاقم الفواجع الإنسانية المتمثلة في الإبادة الجماعية والنزوح واللجوء والجوع والمرض وانتهاك قدسية الحياة الإنسانية في السودان.
وعلى خلفية هيمنة هذا الواقع الإنساني المأساوي على السودانيين، فإن التبضع في المبادرات وتبادل الاتهامات في القنوات الفضائية الذي استمرأه طرفا الإحتراب أصبح ضرباً من الإفراط في الاستهانة بأرواح السودانيين والتفريط في مقدراتهم. وفي ذات الحين فإن فشل المبادرات المنفردة في حمل المتحاربين على وقف إطلاق النار، ولو لأسباب إنسانية، يؤكد أن أي طرح المبادرات الخالية من آليات فاعلة لتنفيذها ميدانياً، يمثل مجرد تمرينٍ في العلاقات العامة وسوقاً لتبضع المتحاربين. وهنا تتجلى ضرورة الاعتداد فقط بالمبادرات التي تشتمل المواثيق والقوانين التأسيسية للكيان الذي يطرحها على آليات فاعلة تفرض وقف إطلاق النار بقوة قاهرة تردع الجانب المنتهِك لما تم الاتفاق عليه. وتشير الشواهد التطبيقية الإقليمية والدولية في حل النزاعات أن مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هما الكيانان المؤهلان لطرح أو دعم أي مبادرة ذات مصداقية وفاعلية لوقف المعاناة الإنسانية المفجعة في السودان. ذلك أن البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة الرابعة من القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي تبيحان الحق للكيانين في التدخل العسكري في أي دولة من الدول الأعضاء في حالات جرائم الحرب والإبادة الجماعية وجميع الجرائم ضد الإنسانية. وقد حدث ذلك بالفعل في السودان بعملية الأمم المتحدة المختلطة في دارفور (UNAMID)، حين أُنشِئت تلك العملية بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في يوليو 2007 بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 1769. ويذكر أن العملية المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور تولت حماية المدنيين وتوفير الأمن للمساعدات الإنسانية، ورصد تنفيذ الاتفاقيات والتحقق منه، والمساعدة في عملية سياسية شاملة، والمساهمة في تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون. ونشر الاتحاد الإفريقي الاتحاد الأفريقي بموجبها نحو سبعة آلاف فرد أغلبهم من رواندا ونيجيريا كقوة لحفظ السلام في المنطقة.
وبالنظر إلى الخلفية المشتركة للمبعوثين الإقليميين والأمميين الحاليين في فض النزاعات وتحقيق السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، ولو استدعى ذلك إنشاء قوة إقليمية أو دولية بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي. ونظراً لتمادي طرفي الإحتراب في الإسراف في التبضع في المبادرات، فإن الراجح في ضوء استمرار فشل تدابير المناشدات والعقوبات الاقتصادية هو رفع توصيات لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتدخل العسكري العاجل لوقف الانتهاكات المتزايدة والتدهور المريع في الأوضاع الإنسانية في السودان. ويدعم ذلك النهج التعاون مع مبعوث الولايات المتحدة للسودان صاحب الخبرة الطويلة في هذه المجالات، وذلك فضلاً عن نفوذ الولايات المتحدة الوازن في كواليس مجلس السلم الأمن الإفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والدول الفاعلة في الشأن السوداني.
وأكدت الإخفاقات التي لازمت المبادرات السابقة، أن الفظائع الإنسانية المستمرة التي ظل يعاني السودانيون منها تتطلب وبشكل فوري حمل طرفي الاقتتال عنوة على وقف إطلاق النار والفصل بينهما بواسطة قوة خارجية تفرض تطبيقه دون خروقات أو تفلتات. وهنا يبرز عجز منبر جدة بمفرده عن نشر القوة العسكرية الضرورية لفرض تنفيذ مخرجاته بواسطة طرفي الإحتراب. وكان ذلك الضعف سبباً مباشراً في استمرار خرق الهدن الإنسانية والفشل في تنفيذ مخرجات منبر جدة السابقة. وفي ذات الوقت يشير ذلك القصور إلى الضرورة الملحة لدمج منبر جدة المتفق عليه بين طرفي الاقتتال دمجاً مؤسساً مع مبادرة أخرى قادرة على تعبئة قوات قاهرة تفرض وقف إطلاق النار وتضمن عدم اختراقه. وفي ظل الانقسام الحاد في مجلس الأمن الذي يُعقِّد تدخله عسكرياً في السودان تحت البند السابع، تتجه الأنظار حصرياً نحو الاتحاد الإفريقي ليستفيد من المادة الرابعة من قانونه التأسيسي لنشر "القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا - إيساف (Eastern Africa Standby Force-EASF) التي تضم عناصر عسكرية وشرطية ومدنية. ويجدر بالذكر أن "إيساف" قد تشكلت بواسطة القمة الافتتاحية للاتحاد الإفريقي التي عقدت بمدينة ديربان في جنوب إفريقيا في يوليو 2002، وبموجب البروتوكول المتعلق بتأسيس مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي (African Union Peace and Security Council-AUPSC). وقد تأسست "إيساف" كآلية إقليمية لتوفير القدرة على النشر السريع للقوات، وتنفيذ الانتشار الوقائي، والتدخل السريع ودعم السلام. وفي أبريل 2005 وُقِّعت مذكرة التفاهم، وعُدِّلت في يناير 2011، ليُحَدَد على نحو صريح أن "إيساف" هيئة تابعة لـ"القوة الاحتياطية الإفريقية" (African Standby Force - ASF). وتضم "إيساف" في عضويتها حالياً 10 دول نشطة، تشمل: بوروندي، وجزر القمر، وجيبوتي، وإثيوبيا، وكينيا، ورواندا، وسيشيل، والصومال، والسودان، وأوغندا.
ويجدر بالذكر أن السودان ليس عضواً فاعلاً في "إيساف" فحسب، بل تولى قيادتها حيناً من الدهر، حيث شغل العميد ركن حينه علاء الدين عثمان ميرغني هذا المنصب خلال الفترة 2017-2020، وترقى لاحقاً لرتبة اللواء وشغل منصب مدير الإدارة العامة للعلاقات الدولية عام 2022. وتشير الدلائل إلى أن دخول قوات "إيساف" للسودان ليس جديداً حيث أجرت تلك القوات خلال قيادتها السودانية تمرين «سلام الشرق 2» الذي انطلق في عام 2017 بمنطقة جبيت بولاية البحر الأحمر. واشترك في هذا التمرين أكثر من ألف عنصر من الدول العشر الأعضاء، بمشاركة مهمة خبراء من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما يبرز صلاتها الدولية الوثيقة في توفير الدعم والمعينات.
كما نصت بروتوكولات إنشاء "إيساف" على التعاون مع الأمم المتحدة، ووكالاتها بما فيها مجلس الأمن، والمنظمات الدولية، والمنظمات الإقليمية الأخرى ذات الصلة، وكذلك مع السلطات الوطنية والمنظمات غير الحكومية، عند الحاجة. وبمجرد نشر قوة "إيساف" في أي دولة من الدول الأعضاء يتولى الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة مهمة السيطرة العملياتية عليها. وتعمل "إيساف" بشكل وثيق مع مختلف الشركاء الثنائيين ومتعددي الأطراف الذين يقدمون لها الدعم المالي واللوجستي والفني اللازم لإنجاز مهامها على الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية. ويشمل الشركاء الثنائيون الولايات المتحدة (إحدى راعيي منبر جدة) وفرنسا واليابان وألمانيا وبريطانيا وهولندا والدنمارك وفنلندا والنرويج والسويد. كما تتلقى "إيساف" مساعدات من مصادر متعددة الأطراف تشمل الأمم المتحدة وبرامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوربي.
وعطفاً على تجارب الأمم المتحدة الناجحة في العديد من الدول التي أفلحت في الخروج من الصراع (Post-conflict) فإن عدد ونوع الأفراد المنتشرين من قوات "إيساف" في عمليات حفظ السلام في السودان يؤثران طردياً على القدرة على ضمان استدامة السلام. فبزيادة عدد قوات "إيساف"، تتضاءل فرصة استئناف الإحتراب. ذلك أن فاعلية فرض السلام واستدامته في السودان تكمن في قدرة "إيساف" على ردع خارقي وقف إطلاق النار من خلال نشر قوات عسكرية قادرة على فرض وقف إطلاق النار والدفاع عنه بحسم ومحاسبة الخروقات والتفلتات ميدانياً.
وهنا تكمن ضرورة تجهيز قوات "إيساف" بالأسلحة المتوسطة والثقيلة وتدريبها على المشاركة في القتال عند الضرورة، نظراً لطبيعة عملها في الخطوط الأمامية. ومن خلال القيام بذلك، تقلل تلك القوات الإقليمية من قدرة طرفي الصراع على معاودة الانخراط في الإحتراب. وقياساً على حجم وتكوين بعثة العملية المشتركة بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دافور (UNAMID 2007) التي بلغ عددها نحو 26000 فرد، فإن تكوين قوات "إيساف" في عام 2024 ربما يتطلب 40000-50000 فرد غالبيتهم من العسكريين والشرطة.
وتشمل مهام "إيساف" ما يلي:
 السيطرة على المقاتلين والفصل بين الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة الأخرى، ويشمل ذلك فرض وقف إطلاق النار وإنفاذ اتفاق السلام ونزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج Disarmament, Demobilization and Reintegration) DDR).
 السيطرة الجغرافية على كافة مناطق الصراع، وتشمل مراقبة الحدود وحرية تنقل المراقبين الإقليميين، وتقديم العون الإنساني وتنظيم الحركة البرية والجوية.
 حماية المواطنين وتشمل حماية اللاجئين والنازحين من كافة الصراعات وضمان وصول المساعدات الإنسانية.
 حماية البنية التحتية والمؤسسات والأفراد وتشمل حماية الممتلكات الخاصة الإنتاجية والسكنية، وتأمين البنية التحتية الحيوية بما في ذلك المطارات والطرق والجسور والمستشفيات والاتصالات والبنوك ومحطات الكهرباء والسدود ومصادر المياه وخطوط الأنابيب.
 الإشراف على الجهود الوطنية لإعادة تشكيل القوات المسلحة بدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة الأخرى، وإعادة تنظيم وبناء قدرات قوات الشرطة والقوات شبه العسكرية، ومراعاة التوازن الإقليمي.
 مراجعة الترتيبات الأمنية مع دول الجوار: مصر وليبيا وإثيوبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى ودولة جنوب السودان وإريتريا وساحل البحر الأحمر.

melshibly@hotmail.com

 

آراء