ثم ماذا بعد انتهاء صلاحية التبضُّع البذخي في المبادرات؟ (1/2)

 


 

 

What After the Expiry of the Extravagant Shopping in Initiatives? (1-2)

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم

في إطار تبضع الفريق أول البرهان قائد الجيش ووزارة الخارجية السودانية في مبادرات إنهاء الحرب في السودان أعرب قائد الجيش عن ثقة السودان في الاتحاد الإفريقي وما يمكن أن يقدمه من حلول شريطة أن تعيد الدولة ثقتها في الاتحاد الإفريقي بالتعامل معها كعضو كامل الحقوق في هذه المنظمة. ومن جانبه، شدد الدكتور محمد شنباز رئيس وفد آلية الاتحاد الإفريقي رفيعة المستوى على ضرورة إيقاف الحرب وتحقيق الاستقرار للسودان وشعبه الذي يمثل استقراراً لكل القارة الأفريقية باعتبار موقعه الجغرافي الهام والاستراتيجي. وأشار شنباز إلى حرص الآلية الإفريقية وسعيها لإيجاد حلول للازمة، مشيراً إلى أن الآلية استمعت لكل القوى السياسية السودانية. وبعد تسوق البرهان في مبادرة الاتحاد الإفريقي بيوم واحد تبضَّع وزير الخارجية المكلف في مبادرة ليبية تركية تحمل في طياتها المزيد من الجدل والخلاف.
ويجدر بالذكر أن الفريق أول البرهان ظل طوال فترة الاقتتال المدمر في السودان مع قوات الدعم السريع يتجول بين المبادرات المطروحة لوقف أطلاق النار التي تشمل مبادرات الإيقاد، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار السوداني، والمنامة، وليبيا وتركيا، والتي يعوِّل جميعها على التكامل مع منبر جدة الذي ترعاه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
وشهد شهر مارس 2024 الذي يسبق شهر اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 تطوراً جوهرياً في مسارات الجهود الدولية لوقف إطلاق النار تجسد في قرار مجلس الأمن رقم 2724 بوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان الفضيل لأسباب إنسانية. ودعا القرار جميع الأطراف إلى ضمان إزالة أي عراقيل وتمكين وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق، بما في ذلك عبر الحدود وعبر خطوط التماس، والامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني. وتشمل تلك الالتزامات حماية المدنيين والأعيان المدنية، والتعهدات بموجب إعلان الالتزام بحماية المدنيين في السودان المعروف باسم "إعلان جدة". ويشجع القرار المبعوث الشخصي للأمين العام إلى السودان على استخدام مساعيه الحميدة مع الأطراف والدول المجاورة، لاستكمال وتنسيق جهود السلام الإقليمية. ويمثل القرار الذي اعتمده مجلس الأمن للمرة الأولى منذ اندلاع الإحتراب رسالة قوية للجيش والدعم السريع بضرورة الاتفاق على وقف فوري للأعمال القتالية خلال شهر رمضان. وحث الجانبين على العمل للاستجابة للدعوة الدولية الموحدة للسلام وإسكات البنادق وبناء الثقة والسعي لحل الصراع عبر الحوار.
وقبل اعتماد القرار المقدم من المملكة المتحدة بتأييد 14 عضوا وامتناع روسيا عن التصويت، أرسل قائد الجيش موافقته على القرار في مرحلة التداول حول مشروعه، بيد أن وزارة الخارجية وفي إطار التسوق المُبذِّر في مبادرات وقف إطلاق النار أقحمت حزمة من الشروط لتنفيذ قرار مجلس الأمن يبدو من الوهلة الأولى ضعف الجهد الذي بذل في صياغتها حيث يعيد البند الأول المغالطات بين طرفي الإحتراب حول تنفيذ مخرجات منبر جدة، بينما يتناقض الشرط الثالث الذي يطالب بوقف فظائع الدعم السريع في الولايات التي طالب الشرط الثاني بالانسحاب منها مسبقاً. أما الشرط الرابع فيمثل وصمة في جبين الدبلوماسية السودانية حيث طالبت الخارجية بإعادة المنهوبات العامة والخاصة ومحاسبة مرتكبي أعمال التدمير التي طالت المرافق العامة وممتلكات المواطنين قبل تنفيذ القرار الصادر من مجلس الأمن! وفي ختام بيانها أقحمت الخارجية السودانية ما يمثل تعديلاً للقرار الإنساني المعتمد من مجلس الأمن حيث اشترطت أن يشمل القرار أوضاع الحكم بعد وقف الحرب وطالبت باتخاذ الترتيبات السياسية اللازمة بعد مشاورات واسعة مع القوى الوطنية كافة لإدارة الفترة الانتقالية التي يعقبها إجراء الانتخابات العامة ليختار الشعب من يحكمه. ولا شك أن بيان الخارجية حول القرار رقم 2724 المعتمد من مجلس الأمن سيثير العديد من التساؤلات في الأوساط الدبلوماسية المحلية والعالمية حول ما آلت إليه سياسة السودان الخارجية، سيما في فهم أبعاد وتبعات التعامل مع قرارات مجلس الأمن. ويجدر بالذكر أن مجلس الأمن قد اعتمد بالإجماع في نفس الجلسة بتاريخ 8 مارس 2024 القرار رقم 2725 الذي قرر المجلس بموجبه تمديد ولاية فريق الخبراء المعني بالعقوبات لغاية 12 مارس 2025 مما ينذر بتبعات عدم انصياع أي من طرفي الاقتتال في السودان لقراره رقم 2724.
وفي المقابل، فقد وافق الدعم السريع على قرار مجلس الأمن دون شروط آملاً أن يسهم القرار في تخفيف معاناة السودانيين من خلال إيصال المساعدات الإنسانية وتسهيل حركة المدنيين فضلا عن استغلاله في بدء مشاورات جادة نحو بدء العملية السياسية التي تفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار وتحقيق الأمن والاستقرار والوصول إلى حل شامل للازمة السودانية من جذورها. كما أعلن الدعم السريع علن استعداده للحوار حول آليات مراقبة متوافق عليها لضمان تنفيذ قرار مجلس الأمن وتحقيق الأهداف الإنسانية ورائه.
وبمنأىً عن قرار مجلس الأمن رقم 2724، يكشف التدبر الحصيف في كواليس مبادرات وقف إطلاق النار في السودان، التي تبدو ظاهرياً إقليمية المنشأ، الدور الجوهري للمجتمع الدولي، بما فيه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في طرحها ودعمها ومحاسبة من يقف في طريقها من طرفي الصراع. كما أن الاستبصار في مسارات هذه المبادرات يلحظ أن طارحيها قد ضاقوا ذرعاً بضعف إرادة الطرفين في إنهاء الإحتراب الذي شارف على إكمال السنة عانى خلالها الشعب السوداني من ويلات القتل والجوع وفظائع النزوح واللجوء. ولا شك أن تبرُّم منابر المبادرات يعكس خطورة لا مبالاة طرفي الإحتراب بالاستمرار في التبضع بين هذه المبادرات غير آبهين بتبعات ذلك السلوك. ويتجسد ذلك الضجر في إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، تعيين رمطان لعمامرة مبعوثاً شخصياً له إلى السودان. ويجدر بالذكر أن لعمامرة سبق له تولي منصب مبعوث الأمم المتحدة الى ليبيريا وأشرف على تنفيذ قرار مجلس الأمن بإنشاء بعثة الأمم المتحدة في ليبريا التي ساندت، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وعملية السلم وتقديم الدعم للإصلاح الأمني عقب الحرب الأهلية الثانية في ليبيريا.
كما تجلى تضجُّر منصات المبادرات المتلاحقة من ممارسات التبضع البذخي بينها في قرار رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكِّي بتعيين الفريق رفيع المستوى المعني بالسودان برئاسة الدكتور محمد شنباز الذي شغل منصب الممثل الخاص للاتحاد الأفريقي في عملية الأمم المتحدة المختلطة في دارفور (اليوناميد) تحت البند السابع، كما كان كبير الوسطاء المسؤول عن مفاوضات السلام في دارفور بين عامي 2013 و2014. وأعقب ذلك تحديد قمة الإيقاد فترة الأسبوعين فقط، فيما يشبه التحذير، للقاء قائدي الجيش والدعم السريع لتسريع وقف إطلاق النار عقب فشل قائد الجيش في المشاركة في القمة.
وتبع ذلك تطوراً لافتاً بتعيين توم بيرييلو صاحب الخبرة الواسعة في قضايا السلام والأمن والعدالة الانتقالية في القارة الأفريقية كمبعوث أمريكي خاص للسودان. ثم أخيراً تولي السفير دانييل روبنشتاين المسؤولية كقائم بأعمال السفارة الأمريكية خلفاً للسفير جون جودفري. ويجدر بالذكر أن السفير الأمريكي الجديد قد شغل، فيما شغل، منصب رئيس وحدة المراقبين المدنيين في القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء. ويشير التأمل في خلفية هؤلاء المبعوثين الإقليميين والأمميين أن القاسم المشترك بينهم هو خبرتهم الطويلة في فض النزاعات وتحقيق السلام وتقديم المساعدات الإنسانية، ولو استدعى ذلك إنشاء قوة إقليمية أو دولية تحت البند السابع بواسطة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وفي المقابل، صاحب تتابع تغيير المبعوثين الإقليميين والأمميين للسودان تواصل عدم جدية طرفي الصراع في إنهائه مما أدى لفواجع إنسانية غير مسبوقة حيث لقى أكثر من 13 ألف سوداني مصرعه منذ اندلاع الاقتتال في منتصف أبريل 2023، وأدى الإحتراب أيضاً إلى نزوح نحو 10 ملايين مواطن، ولجوء أكثر من مليون ونصف سوداني إلى دول الجوار. ووفق تقرير الأمم المتحدة سيحتاج نحو 25 مليون مواطن لمساعدات إنسانية عاجلة خلال عام 2024. كما أدى الاقتتال لتفشي الأمراض الفتاكة مثل الكوليرا على نطاق واسع من مناطق النزاع المسلح، في حين تم تدمير نحو 80% من المستشفيات في تلك المناطق. ويشهد السودان أيضاً أكبر نزوح للأطفال في العالم، حيث فرَّ 3 ملايين طفل من العنف واسع النطاق، الذي أدى أيضاً لإغلاق أكثر من 10 آلاف مدرسة في مناطق الاقتتال مما حرم نحو 19 مليون طفل من الحصول على التعليم. وعانى 18 مليون سوداني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وصار خمسة ملايين منهم على شفا المجاعة، في حين كابد العاملون في مجال الإغاثة الإنسانية الذين يساعدونهم، من صعوبات في التنقل ونقص كبير في التمويل. ووفق برنامج الأغذية العالمي، فإن 95% من السودانيين لا يستطيعون أن يوفروا لأنفسهم وجبة كاملة بسبب الإحتراب المستعر، مما ينذر بأسوأ مجاعة يشهدها العالم. وتشير التقارير الأممية أن مناطق النزاع في السودان معرضة لخطر مجاعة "كارثية" بين أبريل ويوليو 2024، وهي "فترة عجاف" بين موسمَي الحصاد، في وقت يكافح الملايين هناك من أجل إطعام أنفسهم. وقد حذر برنامج الأغذية العالمي من أن هذه الحرب المستمرة ستخلف أكبر أزمة جوع في العالم في بلد يشهد أساساً أكبر أزمة نزوح في العالم. كما أكدت منظمة أطباء بلا حدود أن طفلاً يموت كل ساعتين في مخيم زمزم للاجئين في دارفور. ويؤكد كل ذلك أن السودان قد أصبح مرتعاً للانتهاكات والفظائع الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني واستخدام العنف ضد المدنيين وانتهاك قدسية الحياة الإنسانية وارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية.

melshibly@hotmail.com

 

آراء