أخيراً، ضاق المؤتمر الوطني ذرعاً ، بالقبلية والجهوية ، بعد أن أطلت برأسها ، في مؤتمراته الولائية التي أنيط بها تسمية مرشحيه لانتخابات الولاة ، وربما في مؤتمره العام ، الذي اعتمد البشير مرشحاً لدورة رئاسية جديدة . ونقول ربما ، وفي البال ، تعهد البشير في أول خطاب له بعد اجتماع الشورى الذي اعتمد ترشيحه ، بعدم السماح بمراكز قوى داخل الحزب تفرض آراءها و"إنما الرأي هو رأي الشورى "، قبل أن يعد بـ "تقديم القوي الأمين لكل منصب وتجاوز كل الضغوط سواء أكانت جهوية أو قبلية ". وأتبع البشير، تعهده ، بدعوته البرلمان الخميس الماضي ،لإجازة مقترح بإجراء تعديلات ضرورية وعاجلة على بعض مواد الدستور. وتحدث عن ممارسات خاطئة في تطبيق تجربة الحكم اللامركزي، أدت إلى تفشي الجهوية واستخدام العصبية القبلية سلماً للوصول إلى مواقع السلطة على حساب الكفاءة والمواطنة ، ما ينذر بتأثير سالب على السلام والأمن الاجتماعي بين مكونات المجتمع، ويهدد بازدياد وتيرة الصراعات القبلية التي باتت واحدةً من مهددات الأمن القومي. وليس سراً ، أن القبلية والجهوية ، طفت على السطح في أول مؤتمرعام للحزب، منتصف التسعينيات، حين تمايزت الصفوف ، لحظة انتخاب الأمين العام ، وما تبع ذلك التمايز من شكوك في فوز غازي صلاح الدين على منافسه الشفيع أحمد محمد. وغني عن البيان، أن تعديل الدستور، والنص على تعيين الولاة ، بدلاً من انتخابهم ،يصبح مسألة وقت، ما دامت جل عضوية البرلمان من المؤتمر الوطني، وما دامت هذه العضوية تعي أن مسألة التعيين والانتخاب ، كانت السبب المباشر في المفاصلة التي انتهت بالإسلاميين في عام 1999 إلى مؤتمرين، وطني وشعبي . ومن مفارقات السياسة السودانية أن يدعو البشير لإجازة مقترح التعيين في حضور الترابي ، الذي خرج قبل (15)عاماً من البرلمان بعد تمسكه بانتخاب الولاة . وإن كان من الراجح أن البرلمان، سيجيز التعديل حال طرحه للتصويت، فإنه من المستبعد أن يخفف التعيين من غلواء القبلية والجهوية التي استشرت في جسد الوطن ، ذلك أن تجارب التعيين السابقة تقول إن الولاة يسعون في المقام الأول لإرضاء المركز، الذي بيده سلطة التعيين والإقالة، ومن ثم تبقى المظالم والحنق على المركز ، بما يغذي النزعات الجهوية بدلاً من أن تخبو نيرانها. ومن نافلة القول ، إنه لن تخبو نيران القبلية ، ما لم تتوصل الحكومة وحاملو السلاح في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ،لسلام شامل ومستدام ، يتبعه استقرار وتوزيع عادل للسلطة قبل الثروة ، في ولايات يؤمن أهلها بمقولة "سلطة للركبة ولا مال للرقبة". وما لم تتوقف حروب "داحس والغبراء" في دارفور، وما لم تجرد القبائل من السلاح ، ليبقى بيد القوات المسلحة وحدها وتفرض الدولة هيبتها وتبسط سلطتها على كل بقاع السودان. ولن يتحقق السلام والأمن الاجتماعي، مع وجود أحزاب بلافتات قبلية وجهوية، وأن تدثرت برداء القومية والفيدرالية . كيف نخفف من غلواء القبلية وزعيمة حركة تقدمية تفاخر بانتسابها لولاية طرفية ، قبل أن تعود في اليوم التالي نافية ومستغربة نسبتها لتلك المنطقة وتجاهر بانتسابها لقبيلة نيلية، لتذكي الأحزاب جذوة القبلية بدلاً من إخماد نيرانها؟ كيف تنطفئ نار القبلية ، وإحدى صحفنا تقدم لحوار مع مسؤولة ، بالحديث عن حرارة قلبها المستمدة من حرارة قبيلتها ، بدلاً أن تحدثك في المقدمة عن خلاصة أفكارها وخططها للنهوض بمؤسستها التي أبتليت بها؟ كيف تختفي القبلية والعصبية والعاصمة القومية تعج بالأندية القبلية التي تتسع دائرتها يوماً بعد يوم بفعل الهجرات المتصلة من الولايات إلى الخرطوم؟ كيف ننسى قبائلنا وبعض فرقنا الكوميدية تذكر أهل السودان صباح مساء بقبائلهم ،وبعداءاتها التاريخية ، وترفع من شأن بعض القبائل وتحط من أقدار أخرى، دون أن يرمش لها طرف ؟ كيف نحارب القبلية والضلع الثالث لقمة الكرة السودانية ينافس في الكونفدرالية باسم السودان الوطن الواحد ،وصحافتنا الرياضية تلبس (نموره) ثياب القبيلة ،رغم أن أشرس نموره إفريقية؟ بقي أن نقول إن مشكلة القبلية والجهوية، أعمق من أن تحل بتعديل دستوري ، يعتبر بكل المقاييس "ردة " تجرد الحكم الفيدرالي من أهم مزاياه وتسلب من أهل الولايات حقهم في اختيار من يحكمهم ، بل تحتاج لعمل سياسي وثقافي واجتماعي بـ "نفس طويل" ، تقوده الحكومة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات التعليمية ومنابر المساجد ، يخاطب جذور المشكلة ويحارب مظاهرها، بما يمهد لخلع ثوب القبيلة ونسج رداء قومي، مطرز بمختلف ألواننا ، ليليق بنا جميعا.ً