جامعة الخرطوم تجلس القرفصاء
من الإرشيف: جامعة الخرطوم تجلس القرفصاء .. بقلم: د. صديق أمبدة
مقدمة أولى: يخيّل اليّ ، لا ادري لماذا، أنّ جامعة الخرطوم الآن (1980) مثل شخص اخذ منه التعب كل مأخذ فجلس جلسة قد يستجمع انفاسه منها ويقوي على القيام ، أو قد يقرّر أنّ الجلوس وحده ليس كافياً للراحة ، وعليه أن يستلقي اولا ثم يقرر ان كان يصلح للقيام اصلا، ناهيك عن المشي.
جامعة الخرطوم الآن، فيما يبدو لي ، هي جامعة مختلفة الملامح عنها في سنوات مضت. في العام الماضي (1979) خرج الطُلاّب في مظاهرة ضد تطبيع العلاقات بين مصر و اسرائيل ، وذلك بعد ان أذنت لهم السلطات بذلك. ولكن لسبب او لآخر تصادموا مع البوليس او تصادم معهم البوليس واعتقل منهم نحو ثلاثين طالباً أودعهم القسم الشرقي لتلك اللّيلة. في اليوم التالي حضرتُ الي الجامعة باكراً. وأنا أدخل فناء الجامعة، ولدهشتي، رأيت الطلاّب يتأبطون كتبهم وكراّساتهم نحو المكتبة والمحاضرات، وكأن شيئاً لم يكن، فقلت لنفسي هذه جامعة مختلفة الملامح ، (في الماضي مثل هذا لا يمكن أن يحدث).
جامعة الخرطوم، وربما التعليم العالي بأسره ، يمرّان بأزمة حادة ، لكنها أزمة ليست وليدة اللحظة، أزمة الحديث عنها يتشعّب ويقود بالضرورة الى الحديث عن أزمات أخرى يعيشها الوطن. ولان للضرورة أحكام فلنحصر الحديث الآن في جامعة الخرطوم.
في سبتمبر الماضي (23/9/1980) نشرت "الصحافة" للأستاذ أحمد المصطفى دالي مقالاً بعنوان (في المسألة الجامعية ). وفي اعتقادي أن تشخيص الأستاذ دالي لأزمة الجامعة خاطئ وقاده بالتالي الى تبنّي بعض الحلول الخاطئة والخطرة على المدى الطويل، مثال توصيته بان "تصدر إدارة الجامعة قوانين محددة تحدد وفقها تنظيم نشاط الطلاّب الفكري والثقافي ، او دعوته الى حفظ النظام داخل الجامعة بواسطة قوات الامن.... لأن قوات الامن ، اذا قصّرت عن دورها في ترسيخ سيادة القانون، فان كل مجموعة من الطلاب ستجد نفسها مضطرة لحماية نفسها" علي حد قوله. ومع اتفاقنا الكامل مع سيادة القانون واللوائح الجامعية إلا أنّنا نرى أنّ مؤسسةً تعليمية تحاول أن تقنّن لطلاّبها كيف يفكِّرون وفي أية حدود، أو تحدِّد لهم كيفية ممارسة نشاطهم الثقافي وبايَّة صورة، لهي مؤسسة تمارس أُسساً تربوية خاطئة وتنأي عن تأدية رسالتها بخطوات مهرولة، ولا تأمل أن تجني في النهاية غير طلاب يتشاجرون اذا اختلفوا ويقتتلون اذا احتدّ النقاش، طلاّب ليس في قاموس اللغة التي يستعملونها ما جاء في الأثر من آنّ "الرجوع الى الحق فضيلة" ، أو أن "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" ، طلاّب يفسرون القانون فرادي كل على هواه وينقادون كالقطعان جماعات . إن جامعةً تبذر مثل هذا لا تجنى غير هؤلاء ، اذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج.
في اعتقادي ليس هنالك نقص في القوانين المنظمة للحياة الطلاّبية في جامعة الخرطوم ، ولو كانت تُغني من جوع لأقامت أود الجامعة ، اذ نشرت هذه القوانين واللوائح وعُدِّلت وتُرجمت الى اللغة العربية ولوّح بها مراراً بالتهديد والوعيد، ربما كان آخرها بيان رئيس مجلس الجامعة (24/9/1980) الذي يحث فيه الى اللجواء الى قوات الامن ويحث فيه على المزيد من القوانين (وقد كان).
إنّ تاريخ جامعة الخرطوم القريب يؤكد أنّ هذا أسلوب مشكوك في حكمته وربما يؤدِّي في القريب العاجل جداَ الي حلقة أخرى من العنف وإراقة الدماء. أنّنا في سبيل أن نعيّن السياسات المناسبة يجب علينا أن نضع يدنا اولاً على موطن الدّاء. فأين موضعه يا ترى؟
مقدمة ثانية: منذ سبتمبر الماضي أصبح مألوفاَ منظر تغيير وردية قوات الأمن خارج الحرم الجامعي، ومألوفا منظرها داخله، وأكثر إلفة من كليهما منظر المسدسات (المدلاَّة من أحزمة الخصر) حول مقهي النشاط الشهير بالجامعة. فهل بإمكاننا أن نقول الآن بأنّ الأمن مستتب بالجامعة، وأنّنا قد أسدلنا الستار (ولو بالمسدس) على ظاهرة العنف في الجامعة ، وأنّه يمكننا- بعد الآن- أن نتوقع جوّاً أكاديمياً هادئاً وتحصيلاً في الدرس دون تعطيل؟.
إّن القارئ لصحف الحائط الجامعية والمتتبع لحركة الطلبة عن كثب داخل جامعة الخرطوم – خاصة في الاسابيع الاخيرة- لابدّ أن يراوده شك عميق في هذا الشان. إنّ خلافات الطلاّب التي ادت الى انفجار العنف في مارس الماضي، والذي راح ضحيته احد الطلا (الغالي عبد الحكم) ، هي خلافات أساسية ، ظاهرها دستور الاتحاد وباطنها الديمقراطية او غيابها داخل اجهزة الاتحاد والجامعة. وفي هذا فهي خلافات لا يتوقع أن تمحوها أشهر الصيف القائظة ولا فترة انشغال الطلاب بالامتحانات والملاحق وإن أمكن تناسيها مؤقتاً. وهاهي بوادر الازمة - لا بوادر حلّها - تطل برأسها من جديد. وقد تقول ادارة الجامعة الان كما قالت من قبل (23/3/1980) : (لم يكن من مقصد اي منّا ولا في حسبان معظمنا أن يقود الاختلاف في وجهات النظر الي ادراع الحسام وامتشاق العصا ... الخ) . كيف لا يكون ذلك في الحسبان وقد حصدت ادارة الجامعة فقط ما بذرته لسنين مضت. كيف وحوادث العنف هذه لم تكن الاولى من نوعها، وربما - لا قدّر الله - لن تكون الاخيرة اذا سارت الامور على وتيرتها السابقة. كيف؟
لقد ظلّت الجامعة مغلقة طيلة أشهر الصيف وظلّت مفتوحة طيلة الاشهر الاخيرة ومجموع الفترتين ثمانية عشر شهرا ولم ترى الاسرة الجامعية بصيصاً من محاولة ولا خيطاً من مجهود يبذل في الاتجاه الصحيح لحل الازمة من قِبل (ادارة) الجامعة، وهي التي جعلت من نفسها معنية اولاً واخيراً بأمر الجامعة من دون بقية الأسرة الجامعية. ان ادارة الجامعة بطريقة تشكيلها وتعيينها الحالية، هي في اعتقادي جزء أساسي من الأزمة في المقام الأول قبل ان تكون جزء ا فعّالاً في حلّها.
لقد اتفق الطلاّب والاساتذة ( بيان لجنة الانتخابات 4/5/1980، وبيان هيئة الاساتذة ابريل 1980) علي أنّ جوهر الازمة هو قانون الجامعة (73 تعديل 1975) الذي يعطي رأس الدولة سلطة تعيين مدير الجامعة بدلاً من انتخابه بواسطة مجلس الجامعة ( كما كان الحال في قانون 1956)، ويعطي رئيس مجلس الجامعة (وليس المدير) – ويعيّنه أيضا رأس الدولة - سلطة تعيين العمداء والمناصب القيادية الاخرى في الجامعة. وبذلك تكون جميع المناصب القيادية (الادارة) معيَّنة من أعلى وليست منتخبة من قاعدة، وبالتالي فإنّ ولاءها للسلطة المعيِّنة (بتشديد وكسر الياء) وليس للأسرة الجامعية التي يقع عليها عبّء أخطائها. ومن الطبيعي في ظروف مثل هذه أن تنفرد الادارة بالرأي وأن تنعدم مشورة الاطراف الاخرى للاسرة الجامعية - أو يقل تقدير آرائها - وأن يسود جو من عدم الثقة يكون فيه المناخ ملائماً لافراز المزيد من القصور من قبل الادارة، والمزيد من المرارة من قبل الاسرة الجامعية، والمزيد من الفشل العام.
إنّ تشخيص الداء هو البداية الصحيحة للمعالجة السليمة. يقول بيان لجنة الانتخابات (الطلابية) (4/5/1980) : "إن جذور ازمة الجامعة والتي انتهت بالأحداث الأخيرة تكمن في انعدام الديمقراطية في ادارة هذه المؤسسة. وأن اي ا دارة تأتي عن طريق التعيين ولا تُحظى بثقة الأساتذة والطلاب لهي ادارة عاجزة وليست في مستوى مواجهة الأخطار التي تحيق بالجامعة".
أمّا هيئة الاساتذة فتقول في بيانها (في سبيل تدارك الجامعة من الانهيار ، ابريل 1980) "لم يعد في الجامعة شئ يشبه الاستقلال والحرية واختفى النشاط الفكري والثقافي للطلاّب ... واصبح التعيين للمناصب القيادية في الجامعة يتم وفق أسس جديدة علي رأسها قرب الشخص المعيّن من السلطة وليس ثقة الاسرة الجامعية فيه، وفي هذه الحالة بالطبع يكون ولاء الاشخاص الذين تم تعيينهم للجهة التي عينتهم ويصدرون في قراراتهم وسياساتهم عن ذلك الولاء، وينفذِّون ما يرضي السلطة - او ما يظنون أنّه سيرضي السلطة - وينتج عن واقع الحال هذا فقدان الثقة بين الادارة المعيَّنة وبين الغالبية العظمى من أفراد الأسرة الجامعية. وتتَّسع الهوّة عندما لاتحفل إدارة الجامعة بآراء الأساتذة و الطلاّب لأنّها تعلم جيدا أنّها إنّما تستمد شرعيتها من الحكومة وليس من الأسرة الجامعية. إن احد أهم أسباب فشل الإدارة في احتواء العنف ومحاسبة ممارسيه وسط الطلاّب هو عدم تأكدها من موقف الدولة حيال الموقف المتفجِّر".
أن التشخيص أعلاه - والذي اتفق عليه الاساتذه والطلاّب - لجوهر الازمة، يمثل في اعتقادي التشخيص الصحيح. وفي هذا يبدو انه من المستحسن أن تبدأ به أي محاولة جادة لمعالجة الازمة التي تمر بها الجامعة الآن ، إذ إنّه لا شك يشكل الخطوة الاولى في الاتجاه الصحيح. إنّ ما تمر به الجامعة الان يستدعي تعاضد كل الجهود واقصى حدود المشورة لجميع المهتمين بأمر الجامعة وهم كُثر – خاصةً داخل الاسرة الجامعية. إنّ إدارة للجامعة لاتتوفر لها ثقة الاسرة الجامعية بدون حدود ، ولا تتوفر لها حرية التصرف في امور الجامعة بدون قيود ، لهي ادارة الى العجز اقرب ومن القوة وحسن التصرف أبعد ؛ ادارة توصد باب التشاور وتفتح بابا للتردُّد وبابا للتندُّر، وبابين للغبينة والمرارة. ادارة مثل هذه ، كيف يتسنى لها، أو يُطلب منها أو يُعوّل عليها في حل مشكلة مستعصية مثلما تمر به الجامعة الان.
إنّ الاتجاه الصحيح نحو الحل الامثل، لا يكمن في المزيد من القوانين وإنما بمراجعة القوانين الحالية وتوسيع قاعدة المشاركة في اختيار إدارة الجامعة، وبذلك وحده يتوفر المناخ الأنسب اولا لمناقشة، ثم معالجة قضايا الجامعة.
مقدمة أخيرة: قال الشاعر : الحُزن الأكبر ليس يُقال.
(ارسل المقال لصحيفة "الصحافة" في 25 /11/1980 في ورُفض نشره )
sumbadda@gmail.com