جمال محمد أحمد والرسم بالكلمات

 


 

 

إعداد: عبد المنعم عجب الفَيا

نشر جمال محمد أحمد مقالا بعنوان (المصلح العظيم) بمجلة (الكلية) كلية غردون بالعدد الثاني ١٩٥٢. وكان جمال وقتها مراقبا لشؤون الطلبة بكلية غردون أو (عميد الطلاب) بمصطلح اليوم. جاء بقلم جمال في وصف هذا المصلح العظيم:
".. ثم هيا نفسه على كرسيه. أقول هيا نفسه لأنه عملاق سمين، وفي بطنه بسطة من نوع فريد: معلقة أمامه كأنها لا تنتمي إلى جسمه، تهتز في كل جهة إن مشى أو تحدث. اقتعد الكرسي اولا. ثم رفع رجله اليسرى وكانت أقصر قليلا من اليمنى. رفعها وجلس عليها، ثم وزن بطنه مكانا وسطا من جثته كيلا تتدحرج هنا وهناك إن اضطر لاصلاحنا بصوت عال أو إشارات كثيرة. وحاول ليدخل يده في جيبه فسمعت لحركته انينا، ورأيت عضلات وجهه المدفوف تتقلص في عناء... ".
جمال محمد أحمد، رسائل وأوراق خاصة، إعداد عثمان محمد الحسن، دار الجيل، بيروت، ١٩٩٢، ص ٨٠
**
وفي رسالة إلى ابنه عادل كتب:
"..كان هذا منذ قريب من ربع قرن. وكنت وكاترين في الامبيريال، اكستر. وكانت كاترين لحلاوة حديثها وصباحة وجهها وطيب ميلادها، من أشهى الصبايا في الجامعة. وكان يسارنا لا يريح كثيرين، يروننا في الامبيريال، لا يتردد عليه غير وجهاء المدينة: مدير، ولورد، وأستاذ الطبيعة، وما منهما بسبيل. وذات يوم وقف على مايدتنا رجل يشير إلى لوني. فوجد بعد لحظات كرسيا جنبي يطوق رقبته، وهو يتلوي، يريد ليفك اساره. والتف حولنا كثيرون، وكان صاحبنا يصيح من أوجاعه، لكن سيد الفندق، كان رجلا، يلقانا بابتسامة، كلما دخلنا صالونه. واحسبه كان يحب حبنا، الح علينا إلحاحا أن نخرج من باب خلفي، وان يعالج هو الأمر. وهكذا كان. حين جئنا الغداة ابتسم ابتسامته، وأتم لنا القصة، اضحكنا يقول: "صداقتكم تكلف". وعرفنا انه تطوع فدفع ثمن علاج ذاك التعيس".
المصدر السابق، ٣٧-٣٨
**
".. واسعي لأرى الوجدان الأفريقي عبر كتابات شبابه. ولقاءاتي وخواطري التي اسوق هنا، كما وجدتها في أوراقي، لا ابدل فيها غير قليل...، مطالعاتي هذه فيها الكثير من نفسي، اهوائي هنا، وتحيزاتي، لا أكتب علما ولا معرفة، اجتهد لامسك بتلابيب لحظات من الحس، اصورها، ترضيني الصورة بعض الاحايين، فقد كان أصلها ثابتا قدر ما يثبت أمام المصور عداء قوي المنة. وتجدني غير راض، ارتعشت يدي وانا اصور العداء، أو كان عدوه مما لا تستطيع يد أن تصوره. سرعته سرعة ريح.
الفترة التي اجهد أن اصور ذهنها وفكرها، ما كانت فترة ذات خطوط بينة أو معالم، تتداخل الخطوط وتتارجح المعالم...، الفترة التي اتحدث عنها هي الخمسينات ومطالع الستينات، فترة الصبا الباكر. اكتشف الأفريقي بعد أن تحررت أكثر اقطاره غلالات كانت على عينيه، وقوالب من الفكر والتعبير، ما تيسر له أن يرى من قبل، وترتب على رواه أن ينظر مرة أخرى في القوالب التي الف، وشرع يصف رواه الجديدة على اسلوبه هو..، اكتشف قدرات ونطق بها فرحان جذلا، لا يعينه ما يقول الناس، وهكذا يفعل، الصبي شم صناجه، يملك الفتوة والعين الجديدة، وغير قليل من الضيق بالذي حوله، يريده ليكون أطهر ما يكون وأنقى ".
من مقدمة كتابه (في المسرحية الأفريقية)، جامعة الخرطوم، ١٩٧٣
**
" كثيرون هم الذين رأوا القارة بعين جديدة، لكني ارجو ان تهب ساعة من وقتك لهذه القصة التي قرأتها انا في صمت مرة، وقراتها بصوت عال مرة ثانية، اتملي حسن بيانها الرائع (طفولة زنجي) تثير فيك الرضى الذي أثارته (الأيام) على بعد ما بين القصتين والكاتبين، تجمعهما روعة العمل الفني المخلص.. ولا عجب أن تقذف هذه القصة بكمارا لي، إلى المكانة الأولى بين روائيي أفريقيا التي تكتب بالفرنسية.
مكانة لا تنافسها الا مكانة شنوا اشيب الذي يكتب الان بالإنجليزية في نيجريا. نفذت نسخ قصتيه الان، ولم تنشر أولاهما الا عام ١٩٥٨، واعيد طبعهما عام ١٩٦٢ ، قال انقس ولسون، وهو من تعرف دوره في الرواية الإنجليزية المعاصرة: "انا أتطلع لقراءة قصته القادمة". قالها بعد أن أقرأ (وتداعت الأشياء).
وليتني عرفت الذي قال حين صدرت قصة شنوا اشيب الأخيرة : " واستحال أن نطمئن" ولم تكن إلا تتمة لسابقتها. الاشخاص هم هم إلا الأقلون ، وهم يحيون الحياة الأوربية التي قاومها الآباء والإخوان، حيت أتت كالمحراث تقلب الأرض وجها لقفا، وتحيل الحياة الوادعة العاجزة، إلى أخرى ذات اقتدار، وقلق، ورفاه، وضيق".
من كتابه (مطالعات في الشؤون الأفريقية) دار الهلال ١٩٦٩، ص٦٤
**
وفي ذات السياق، سياق حديثه عن اتجاهات الأدب الأفريقي لفترة ما بعد الاستعمار، في نقد خطاب الاستعمار وما بعده، أو ما يعرف ب write back ، كتب:
" لا يسعك وانت تقرا كتب الشعراء والأدباء السود في العقدين الأخيرين، الا ان تلحظ الروح الساخرة التي يعبرون بها عن سعيهم لاسترداد "الهيبة" التي ضاعت مع النفوذ الأجنبي. صاحب رواية (الخدام) مثلا يصف العنت الذي لقوه في بيوت الله. في سخرية صفيت تصفية من أية عاطفة مرة تظلل الصورة التي يريد أن يتركها مع قارئه عن التمييز بين المؤمنين داخل الكنيسة الواحدة: للبيض في كنيسة القديس بطرس في دانقان، قرية من قرى الكمرون، مقاعد قرب المنبر يتابعون منها الواعظ من على مقاعد خيزران مغطاة بوسايد ملفوفة في قطيفة، ويجلس الرجال والنساء معا.
الأفريقيون يجلسون في الشطر الخلفي كل على "ضقل"، لا مقعد. النساء وحدهن، والرجال على بعد، وجنب كل صف أفريقي، يقف واحد من أهل الدين يحمل عصاة، يلمس بها كتف الأفريقي إن زاغت عينه أو "دقس" ، ويتمشي بين الصفين في الممر الذي يفصل الرجال عن النساء، عصاته على كتفه. الفوات صلاة ".
من كتابه (وجدان أفريقيا) ١٩٧٣، ص ٢٤
**
وتحت عنوان (مسرحي من إثيوبيا) يكتب:
"اتحدث عن سقاي. سقاي قبرا مدين. ما كان حين التقينا في أديس قبل سبع سنوات، قد عدا الثلاثين الا قليلا. عيناه طيبتان، توحيان، إذ تراهما يحدقان فيك، انك أمام ذاك النموذج السعيد من الناس، يظل عمره كله طفلا، لا تمسه السنون. وكان نحيلا، طويلا، دقيق القسمات، صورة من الصور التي يرسم الرهبان على حوائط الاديرة، وعلى جلد البهم، وورق البردي يصنعون فيما يصنعون من أشياء.
وكان حييا سقاي. ان اكتملت لمتنا في بيت أحدنا من حين وآخر صمت. ثرثار دافق الرأي والعاطفة مع صفوته. كان قد عاد أيامه تلك من دراسته القانون في شيكاقو، والمسرح في لندن. وحار حين عاد، بين القانون يوفر له الخبز والايدام، والمسرح الذي هواه. واختار هواه، أثره على خبزه وايدامه. ثم غثيت نفسه بعد قليل. لقى في المسرح عنتا ما جاء له في بال. فالمسرح ليس حبا كله وعاطفة وحنانا، كما نحسب نحن الذين نختلف عليه. أكثره مخالب وانياب وصراع غير رحيم".
".. اثر سقاي أن يغني أساطير إثيوبيا وأفريقيا في شعر تتقد فيه حرارة التروبادور، مع كل تجربة وقصيدة. وعكف على الأساطير والتاريخ يقراهما، وما أظنه كان يعرف انه حين يفعل هذا يعد نفسه لشيء كبير. مد يده بورقة ذات مساء يسألني، كان قد عرف المرح مع الزمن: "اتستحق هذه القراءة، بله الخلود؟ لقد اضنتني اضنا، وانا اترجمها لك من أصلها الامهري للانجليزية".
وبدات اقرأ في صوت يسمعه، وهو يميل يمنة ويسرة، تذكر إذ تراه، شيخ وكتاب القرية، يتحلق حوله حواريه كل "يسمع لوحه". وقلت في مزاح : لا بأس. لكن شعر ذقني لم يقف". كما يقول، هاوسمان، حين يملك عليه اقطاره، معنى يريده شعرا، والكلمات تطل وتذهب، تغيظه. ثم قرأها هو قراءة لا عجلة فيها ولا ادغام، وأشهد أن شعر ذقني آنذاك وقف يتلقى: ....".
من كتابه (في المسرحية الأفريقية) ١٩٧٣، ص ١١، ١٧
**
"هذه ذكر وخواطر، بعيدة عن أن تكون دراسة للجامعة العربية أو منظمة الوحدة الأفريقية. ستلقاك بعض نصوص وبعض وثائق، لكنها ليست هناك لتزيدك علما، انها هناك لتعزز صور الرجال والمواقف والازمان كما رأيتها، أحسست..
لن تقيد خواطري وذكري قيود زمان أو مكان.، فأنا اريد ان انقل لك الصور مكتملة قدر ما يتاح لواحد أن يصور بقلم، بحرف، بكلمة، لا بألوان أو اصباغ وفرش، هي اقدر على التصوير في يد فنان ذي حس واقتدار. الحس والاقتدار، شقا مقص لا يغنيك شق عن آخر. معا يقطعان الطريق. على انفراد يعجزان..
احترم الحقائق والقرارات والحوار والمذاهب السياسية، لكني لا أعدها العنصر الأول في الذي نعمل، والذي لا نعمل، من الذي نحب والذي لانحب. هذه اجمعها أغطية قبلها الناس على مر السنين، كيلا تبين شهواتهم عارية لقاء بعضها البعض، حين تصطدم، وجنب بعضها البعض، حيث تلتقي.
الأصل في العلايق الشهوات. نحن لا نصدر في الذي نعمل عن حقائق أو وقائع. نصدر عن غرائز وعن شهوات، حذقنا مع السنين أن نكسوها بمنطق الفلاسفة السياسيين وأهل النظر من علماء السياسة. واحب لنا أن نرى الأفريقي كما هو كاملا. كما أحب له أن يرانا كذلك. المعرفة وحدها لا تحملك على التعاطف والتفاهم، وهي على أية حال متاحة لنا في التقارير والكتب. أريده لينعم النظر في وجهي، وأريد لاشركه جلسة ود، قبل أن تضمنا جلسة عمل.. تلك سكة التعاطف والتفاهم، ومن أجلها اكتب".
من مقدمة كتابه (عرب وافارقة) ١٩٧٧،ص، ٩

abusara21@gmail.com

 

 

آراء