جنوب الباسفيك: نزاع الجزر أم صراع الأفكار
النزاع الذي يتكشف أمام أنظار العالم الآن في جنوب المحيط الهادئ أصبح حقيقة واقعة من حقائق السياسة الدولية قد تنعكس آثارها بصورة أو أخرى على حياة الملايين من البشر في تلك المنطقة وغيرها من بقاع العالم. وإن كان التوتر البادي في العلاقات الصينية الأمريكية يقوم الآن حول مجموعة من الجزر الصغيرة ذات الموقع الاستراتيجي في المنطقة ، إلا أنه لا يعدو أن يكون مجرد مؤشر لواقع أكثر خطورة وتعقيداً هو التنافس المحتوم بين قوة عظمى ظنت أنها انفردت وللأبد بقيادة العالم وأخرى تبحث عن مكان على الساحة الدولية يتناسب ، مع إرثها التاريخي الطويل في السياسة الدولية والذي يضرب في الماضي لعدة قرون ووزنها المتعاظم على الساحة الدولية يوماً بعد يوم. لا شك أن النزاع بين الصين والفلبين حول جزر سبارتلي هو نزاع إقليمي يقع مثله في كل أنحاء العالم بصورة شبه يومية ، إلا أن اهتمام قوى عظمى مثل الصين والولايات المتحدة واليابان بتطورات هذا النزاع ومآلاته يجعل منه قضية تشغل بال المجتمع الدولي ككل ، أو على الأقل القوى الفاعلة في هذا المجتمع.
كنت قد تناولت جانباً من هذا الصراع في مقال سابق قبل ثلاثة أشهر تحدثت فيه عن جهود الصين ومثابرتها نحو تأكيد دورها الاقليمي الجديد ، وردود أفعال القوى الإقليمية صغيرها وكبيرها على تلك التحركات الصينية. وقد أشرت في ذلك المقال للعديد من أشكال التحول في التحالفات التي تشهدها المنطقة مما لم يكن يخطر على بال المراقبين من أمثالنا أو حتى المتابعين لتطورات الأحداث في المنطقة على أيام الحرب الباردة. طفت الأزمة إلى السطح مرة أخرى خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد أن استأنفت الحكومة الصينية بناء بعض الجزر الصناعية في مواقع تقول الفلبين أنها تقع داخل مياهها الاقليمية ، وقد سبق ان أشرت في المقال المذكور أعلاه إلى الدفوع القانونية التي يدعم بها كل طرف من الأطراف ما يراه حقاً مشروعاً في الجزر المعنية مما يغنينا عن إعادة الحديث عن الجوانب ا لقانونية خاصة وأن هناك من هم أقدر منا على ذلك.
كان من الطبيعي أن يأتي رد الولايات المتحدة سريعاً وقوياً باعتبارها الدولة العظمى الأخرى التي تنشط في ذلك الجزء من العالم ، حيث طالبت واشنطن الحكومة الصينية بوقف الإنشاءات وعملت على تكثيف حضورها العسكري والسياسي في المنطقة مما حدا بنائب رئيس اللجنة المركزية للقوات المسلحة الصينية مطالبة الولايات المتحدة تحجيم وجودها العسكري في المنطقة. جاءت تصريحات المسؤول الصيني بعد لقاءه في واشنطن بوزير الدفاع الأمريكي. كما أشار المسؤول الصيني إلى أن العلاقات بين المؤسستين العسكريتين في الصين والولاياات المتحدة شهدت تطوراً ملحوظاً في الآونة الأخيرة تمثل في تكوين آلية لبناء الثقة بينهما ، وتبادل الزيارات على أعلى المستويات ، وعقد جلسات الحوار والمناورات المشتركة.
تأتي االأزمة الحالية في أعقاب مشكلة أخرى نشأت مؤخراً بين البلدين وتمثلت في قيام البنك الآسيوي للإنشاء والتعمير الذي تقف الحكومة الصينية بقوة وراء قيامه ، ويرى الكثير من المراقبين أنه يمثل آلية جديدة تعمل على منافسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الغربية. وبالرغم من أن البنك الجديد لا يقارن من حيث الحجم بالبنك الدولي حيث لا يتجاوز رأسماله حالياً 1/20 من رأسمال البنك الدولي ، إلا أن الحكومة الأمريكية تبدي انزعاجاً واضحاً من قيامه حيث أن رأس المال قد يتضاعف عدة مرات مع نمو الاقتصاد الصيني والدول الأعضاء بالبنك الجديد. من ناحية أخرى فإن الأعضاء المؤسسين للبنك بلغ عددهم 57 دولة من بينها عدد من حلفاء الولايات المتحدة المقربين كفرنسا والمانيا وبريطانيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية. وتظل اليابان والولايات المتحدة نفسها الدولتان اللتان رفضتا حتى الآن المشاركة في البنك الجديد.
لا ينحصر التحدي الصيني للولايات المتحدة على المجالين العسكري والاقتصادي ، بل يتعداهما ليشمل المجال الفكري كذلك. فقد استطاعت الصين أن تؤكد مرة أخرى أنه بالإمكان تحقيق الرفاهية والنمو لاقتصادي دون الالتزام بالرأي الذي يقول أن النظام الليبرالي الذي يقوم على التعددية السياسية هو أقصر الطرق لتحقيق ذلك. بل إن هناك من المفكرين من يقول أنه لا يمكن تحقيق الرفاه الإقتصادي تحت ظل الأنظمة الشمولية أو التسلطية ، وهو القول الذي واجه تحدياً واضحاً في سبعينات القرن الماضي وما تلاها من سنوات في القارة الآسيوية نفسها. أثبتت بعض دول المجموعة التي عرفت بالنمور الآسيوية أنه يمكن تحقيق معدلات نمو عالية ومستويات معيشة مرتفعة في الدول التي لا تأخذ بالديمقراطية الليبرالية نظاماً للحكم. ولعل من أوائل من أثبت هذه الحقيقة الراحل لي كوان يو رجل سنغافورة القوي الذي استطاع أن يبني اقتصاد بلاده عبر سياسات مدروسة بالرغم من شهرته التي طبقت الآفاق في ذلك الوقت كحاكم فرد ومتسلط ولا يسمح بأي مجال للرأي الآخر أياً كان مصدره. وقد ظل لي كوان يو في مركز السلطة ببلاده بصورة أو اخرى لأكثر من نصف قرن حتى وفاته في مايو الماضي. الغريب في الأمر أن لي كوان يو كان من حلفاء الولايات المتحدة المقربين بالرغم من موقفه السياسي وذلك لأسباب استراتيجية لا تخفى على المراقب. ومما لا شك فيه أن الصين التي تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم تؤكد حقيقة إمكانية تحقيق الرفاه الاقتصادي تحت أي نوع من الأنظمة السياسية إذا توفرت الظروف الملائمة. فالحزب الشيوعي الصيني لم يقلل من قبضته الأمنية والسياسية على البلاد بالرغم مما حققته من نمو اقتصادي مذهل. من جهة أخرى فإن قيام مؤسسة مالية للإنشاء والتعمير بعيداً عن سيطرة الولايات المتحدة تمثل تحدياً جلياً للوضع الدولي الذي ظل قائماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على المستويين السياسي والاقتصادي ، مما شجع بعض المراقبين لأن يلصقوا بفكرة البنك الجديد صفة التسونامي الاقتصادي. ويرى الكثيرون أن نشاط البنك لن يلبث أن يتجاوز الدول الآسيوية ليعم بقية أنحاء العالم الثالث ، ولعل التجربة الصينية في أفريقيا تؤكد ذلك حيث تفضل الأنظمة الأفريقية الدعم الصيني غير المرتبط بشروط سياسية لا تقبلها هذه الدول إلا على مضض. وبالرغم من التهم التي يوجهها الاعلام الأمريكي والغربي للصين ونشاطها في أفريقيا باعتبارها تتجاهل مسائل حقوق الإنسان وتسعى فقط من أجل مصالحها ، إلا أن مصالح الحكومة والشركات الصينية لم تتضرر فهي تحقق تقدما ملحوظاً في علاقاتها مع القارة.
mahjoub.basha@gmail.com