جنوب السودان: عندما تصطرع الأفيال

 


 

 



تشير تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعد زيارته لجوبا إلى احتمال لقاء مباشر بين الرئيس كير ونائبه السابق رياك مشار سعياً نحو وضع حد للصراع الذي وصفه الاعلام الدولي بعدة أوصاف. تحدث المراقبون وغيرهم في البداية عن صراع سياسي حول السلطة ، ثم انتقل الحديث بعد ذلك إلى الصراع القبلي والإبادة الجماعية ، ويبدو أن الأمر استقر في النهاية إلى أنه صراع شخصي يمكن أن ينتهي بلقاء بين الرجلين أو فرض عقوبات شخصية عليهما وعلى أفراد عائلتيهما. كانت الحرب في الجنوب على مدى تاريخها لأكثر من نصف قرن من الزمان عرضة لسوء فهم الأسباب الحقيقية وراءها ، وقادت التعريفات الخاطئة كما هو متوقع لمعالجات خاطئة كانت سبباً وراء ما يعيشه المواطن الجنوبي من عنتٍ اليوم. وللمرء أن يتساءل عما إذا كان الوزير كيري قد وضع يده على موقع الجرح الحقيقي ، أم أن جهوده ستكون مجرد محاولة أخرى ثم لا تلبث البلاد أن تعود من جديد لحالة نزيف الدم.
يقول المتشائمون أن الوزير كيري ومن وراءه المجتمع الدولي لا يدركون مدى عمق الأزمة في جنوب السودان ، لذلك فإنهم يضغطون في اتجاه توقيع اتفاق سلام مثل عشرات الاتفاقيات التى وقعت من قبل في جنوب السودان أو غيره من الدول الأفريقية دون أن تحقق الغرض منها. ويرى هؤلاء أن المشاكل التي تواجهها الدول الأفريقية ومن بينها جنوب السودان في غاية التعقيد ، وأن الوسطاء الأجانب يلجأون عادة لتبسيط الأمور والتعامل معها باعتبار أنها واحدة من الأشكال الثلاث التي أشرنا لها أعلاه. فمشاكل أفريقيا ، في نظر الوسطاء الدوليين ، هي مجرد صراع على السلطة أو نزاع قبلي أو خلافات شخصية. ومما لا شك فيه كذلك أن ما يجري في أفريقيا الوسطى المجاورة ، والاحتفال مؤخراً بالذكرى العشرين للإبادة الجماعية في رواندا ، والتركيز الإعلامي الواضح على هذين الحدثين ، والربط بين ما جرى هناك وما يجري حالياً في جنوب السودان وضع المجتمع الدولي تحت ضغوط هائلة لمنع تكرار ما حدث في رواندا ، وما يحدث الآن في أفريقيا الوسطى والذي يمثل أحد الملفات في حقيبة وزير الخارجية الأمريكي خلال جولته الحالية. ورغم ظروف جنوب السودان التي قد تختلف عن البلدين الآخرين ، إلا أن وقوع إبادة جماعية أو حرب إثنية ليست أمراً مستبعداً تماماً خاصة إذا ما عدنا بالذاكرة لما حدث في مطلع التسعينات من القرن الماضي عندما وقع الانشقاق الشهير داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان ، أو بداية الثمانينات عندما قام الرئيس الراحل جعفر نميري بتقسيم الجنوب لثلاث أقاليم وما تبع ذلك من أحداث دامية في العاصمة جوبا.  
لا شك أن الصورة في جنوب السودان ومنذ السنوات الأخيرة للحرب ضد الحكومة في الخرطوم أصبحت بالغة التعقيد ، فقد انتهت إلى غير رجعة أجواء الحرب الباردة التي كانت تسمح بما يسميه بعض علماء السياسة الدولية "السيادة السالبة" ، وهو الاعتراف بسيادة الدول على مجمل أقاليمها حتى وإن لم يكن بإمكانها فرض سيادتها على هذه الأقاليم بصورة فعلية. ظهر للوجود مع نهاية الحرب الباردة الكثير من اللاعبين المحليين والدوليين من ذوي المصالح المتقاطعة في جنوب السودان. ولعل الأسلوب الذي عولجت به مشكلة الحرب الطويلة في الجنوب وأدى لميلاد الدولة الجديدة ، والخطوات التي تتخذ الآن لحل الصراع الماثل يعكسان مدى عمق هذه المصالح وتشابكها. فالدول الإقليمية مثل كينيا ويوغندا وإثيوبيا لم تعد تهتم بالتطورات في جنوب السودان بسبب انعكاسها على الأوضاع الأمنية داخل أقاليمها فحسب ، بل إن المصالح الاقتصادية والسياسية أصبحا جزءاً من الوقود الذي يشعل نار التنافس بين هذه الدول في الجنوب. كما أن دولاً أبعد قليلاً مثل مصر وإسرائيل أبدت الكثير من الاهتمام بما يجري في جنوب السودان ، وهي وإن لم تظهر بصورة واضحة على مسرح الأحداث الأخيرة إلا أن هناك الكثير من الهمس حول علاقاتها بالأطراف المتنازعة هناك.
غير أن المتغير الأكبر في الوضع الإقليمي هو ظهور الصين كلاعب مهم للغاية ليس في جنوب السودان وحده ، بل وفي القارة  الأفريقية ككل. فقد برزت الصين في السنوات الأخيرة كمنافس قوي للولايات المتحدة على الساحة الدولية ، وأصبحت تبحث عن دور يتناسب وحجمها السياسي والاقتصادي. تجاوزت الصين كما هو معلوم اليابان في عام 2012 لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم ، وتشير بعض التقديرات إلى أنها في طريقها لتتجاوز الولايات المتحدة نفسها وهو الأمر الذي سيتم خلال عقدين من الزمان على ضوء هذه التقديرات. ولعل سرعة نمو الصين كمارد اقتصادي جديد تتبدى فيما أوردته مجلة "فورن أفيرز" في عددها الأخير حيث أشارت إلى أن حجم الاقتصاد الأمريكي كان يعادل أربعة أضعاف حجم الاقتصاد الصيني في عام 2007 ، وبحلول عام 2012 أي بعد خمس سنوات فقط أصبح يعادل فقط ضعفي حجم الاقتصاد الصيني.  بل إن بعض التنبؤات تشير إلى أن الصين ربما تصبح الدولة الأولى في مجال تطوير وانتاج التكنولوجيا خلال نصف قرن من الزمان ، وهو الأمر الذي تدعو مراكز الدراسات في الولايات المتحدة للتحسب له منذ الآن. ولا بد من الأخذ في الاعتبار كذلك أن الولايات المتحدة مدينة للصين في الوقت الحالي بأكثر من تريليون دولار ، ففي الوقت الذي يحجم فيه الآخرون عن شراء سندات الإدخار الأمريكية فإن الصين تستثمر فيها بشراهة بسبب مشكلة السيولة الضخمة التي تعاني منها.
لا شك أن الحكومة الأمريكية تدرك أن استمرارها على القمة يقتضي ابتكار الوسائل التي تحد من تقدم الصين السريع على الساحة الدولية بما في ذلك القارة الأفريقية. عليه ، فإن التنافس الأمريكي الصيني على موارد جنوب السودان وعلى رأسها النفط  يبدو امراً طبيعياً ، وهو يعكس طبيعة التنافس بين البلدين والذي تتجلى مظاهره في مختلف أنحاء القارة. يتخوف بعض المراقبين من أن تتعرض القوى الجنوبية المتصارعة للاستقطاب من جانب القطبين الكبيرين ، ويشير هؤلاء إلى أن الحكومة الأمريكية بدت في الفترة الأخيرة أكثر قرباً من مواقف الدكتور رياك مشار وأن تعاملها مع حكومة سلفا كير تعكس الكثير من مظاهر التوتر بين الطرفين ، مما قد يقود الرئيس كير للبحث عن حلفاء جدد.
في الوقت الذي تُتَهَمُ فيه الحكومة الأمريكية بالانحياز إلى جانب رياك مشار فإن الحكومة الصينية تبذل جهداً مضاعفاً لإثبات أنها على الحياد بين الاطراف المتصارعة في الجنوب ، فعقب اندلاع الأزمة نهاية العام الماضي جاءت كل تصريحات المسئولين الصينيين تشير للحياد التام مع الدعوة لوقف الحرب والسعي نحو السلام ، وقد صرح الممثل الخاص للحكومة الصينية للشئون الأفريقية في يناير الماضي أن بلاده تضع خبرتها الطويلة في حل النزاعات تحت تصرف الطرفين المتنازعين. وفي تصريحات موجهة فيما يبدو للجبهة الداخلية في الصين اكتفت الحكومة الصينية للإشارة إلى عزمها على حماية مواطنيها من أي ضرر قد يلحق بهم جراء النزاع المستمر في جنوب السودان ، كما أكدت أن الحرب في الجنوب لا تؤثر على عمل الشركات الصينية هناك بالرغم مما رشح قبل بداية زيارة رئيس الوزارء الصيني الحالية للقارة  من أن العلاقات الصينية الأفريقية تواجه بعض المشاكل. يقوم رئيس الوزراء الصيني حالياً بزيارة أربع دول أفريقية هي إثيوبيا وكينيا وأنغولا ونيجيريا ، ومع أن الزيارة لن تشمل جنوب السودان إلا أن الأحداث في ذلك البلد قد تكون على رأس الموضوعات التي سيتناولها الضيف الكبير مع الزعماء الأفريقيين خاصة في إثيوبيا وكينيا المجاورتين للجنوب. ومع أن الحكومة الصينية لا تشير صراحة لاستثماراتها في نفط الجنوب ، إلا أن ذلك لا بد أن يكون وراء التحركات الصينية التي أشرنا لها أعلاه. ويعتبر نفط الجنوب واحدة من نقاط التماس بين الصين والولايات المتحدة التي لا تنسى ولا تريد العالم أن ينسى إن إحدى شركاتها هي التي كشفت عن هذه الثروة.
من الصعب التنبؤ  باتجاه الأحداث في جنوب السودان على المدى القريب أو البعيد ، غير أن الواضح هو أن البلاد مقبلة فيما يبدو على فترة قد تطول من عدم الاستقرار. تضاربت الأخبار مؤخراً حول من يسيطر فعلاً على مدينة بانتيو ذات الأهمية الاستراتيجية ، ولم تكن هذه بالطبع المرة الأولى التي يلف فيها الغموض الموقف في عدد من المواقع المهمة التي يبدو أن الجانبين يتبادلان السيطرة عليها من حين لآخر. كما أن التصريحات التي أدلى بها القادة من الجانبين لا تنبئ عن قرب انفراج الأزمة ، بالرغم من الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية. ولعل مظاهر التدخل الدولي المتمثلة في زيارة وزير الخارجية الأمريكية وتصريحات المسئولين في الأمم المتحدة تؤكد أن الأزمة قد انتقلت من المستوى الاقليمي إلى المستوى الدولي ، مما قد يؤدي للمزيد من التعقيد في الأوضاع على ضوء المصالح المتضاربة للأطراف الخارجية. يضع ذلك العديد من العوائق أمام الجهود المبذولة من أجل  التوصل إلى حل يضع حداً لمعاناة المواطن الجنوبي المتضرر الأول من هذا النزاع العبثي ، والذي ينطبق عليه المثل الشهير لقبيلة الكيكويو الكينية والذي يقول: "عندما تتصارع الأفيال ، فإن الحشائش هي التي تعاني".

mahjoub.basha@gmail.com
//\

 

آراء