كيف لا
لولا إمتداد النيل في عميق الأرض، بموجه الصافي حيناً والمتنافر حيناً آخر. لولا ثرائه بأغانٍ وقصائد وأقمار الزمان المنعكسة على صفحات لياليه. لولا أمنيات تعتقد أمهات عرسان الضفاف في طقوسهن أنه وحده من يمنحها لولا ذلك كله وغيره لما كنا مجبولين على الانغراس عميقاً في طينِ ضفافه.
ومن الطين تبادل أهل هذا البلد أنفاسهم مع أوكسجين الأرض، قبل أن يفلحوا في صناعة التماثيل وأزيار الفخار. وقبل أن تذهب الكائنات المتحللة في جوفه وتخرج غير بعيدة ذهباً أصفراً، ارتحل مساكين المؤملين صوبه ليهبهم الحياة، فأخذ ما تبقى من حيواتهم الذابلة. ومنذ أن اجتمع الناس واختلفوا فيه ، إلا وكان النيل جزءاً من أسطورة الخلود، قامت الحروب وأُطفئت، حمل على ظهره وعبَرَه الفرسان والخونة وخرج من كل ذلك سالماً لأنه خلال قرون ظلّ مسالماً، احتاجت الأرض الآن أن يحميها، أن يبسط أمنه من فوقها، مدت يدها إليه فاكتشفت أنه هو إلى الأمان أحوج .
امتداد النيل على خارطة الوطن ليس مدهشاً فقط لمن ينظر إليه من على البعد ، وإنما تمتد دهشته حتى إلى بنيه المقربين الذين يعيشون، يغفون ويستيقظون على ألحان موجه. وهذه الدهشة تحجب أعينهم عن خيرات كثيرة. فهم بقربه يكاد يقتلهم الظمأ. فأي أصابع هذه التي يمكنها التدوين في صحائف الظلم، وأي نفس لم تنكسر من كثرة الشكوى من شهوة السلطان الذي صادَر الماء والتربة والهواء ولم يترك حتى النيل جارياً بحكم الطبيعة وأمرها.
حينما زار الزعيم الراحل جون قرنق الخرطوم عام 2005م وكانت تلك زيارته الأولى منذ 22 عاماً، طغت العاطفة واندمجت مشاعر الزائر ومستقبليه ممن يعرفونه وممن لا يعرفون، في وحدة متناغمة تناغماً كاملاً. ما كان يدعو للدهشة هو استقبال الناس على قلب رجل واحد لزعيم مختلف عليه. منهم من وصل درجة عليا في تقديسه باعتباره رمزاً للسلام، ومنهم من وصل درجة في بغضه باعتباره رمزاً لحرب غذتها الثأرات التاريخية والنعرات القبلية. كل هؤلاء ومن بينهم تلاقوا في مساحة التسامح، أملاً في أنّ ما يحدث في ذلك اليوم سيكون به خلاص السودان كله وليس الجنوب وحده. وبالرغم مما كُتب وقيل عن الزيارة التاريخية إلا أنّ أدبيات الرحلة لا تزال غير كاملة. فلا صور موثقة توثيقاً كاملاً ولا كتابة متأنية، فكل ما كُتب تم بالعاطفة الجياشة ، ولم يخضع للتروي في السرد والتدوين .
كان بالإمكان قول شيء ذي مغزى، شيءٌ خليط من التأمل في قرنق الإنسان واعتبار ما حدث كجزء من تاريخ هذا البلد وسياسته. وربما فات على التدوين أن في كرنفال الاستقبال كان الناس يلعنون بشكل أكبر من أهان العباد وكفر بحقوقهم في الحرية والكرامة . الحقيقة أن جموع المستقبلين لم تدرك سرّ جيشان مشاعرها بالبكاء كما لم تعرف سر الابتسام.
الذاكرة السودانية ذاكرة خرِبة وثقافة التوثيق في السودان ثقافة ضحلة جداً، كثير من التفاصيل في ذلك الحدث الفريد تم طمرها وهي تفاصيل كبيرة كانت أم صغيرة فهي جزء أصيل من ذلك الحدث لم تكن لتظهر إلى النور إلا عبر موهبة المخرج المبدع د. وجدي كامل والتي أفاض في نثرها في الفيلم الوثائقي "بروق الحنين". وقصة الفيلم ود. وجدي كامل كل منهما يحتاج إلى أكثر من مقال ليعبّر عن سر ارتباط المخرج الإنسان بهذه الأرض والتي عزّ عليه كما على الخلّص من أبناء الوطن انقسامه وانفصاله.
(عن صحيفة الخرطوم)
moaney15@yahoo.com