“حرية سلام وعدالة”- ملامح رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي اجتماعي للدولة السودانية الحديثة!
د. شمس الدين خيال
14 March, 2023
14 March, 2023
اطروحة
الانتقال السياسي من حكم دكتاتوري شمولي استبدادي، سخر كل الامكانيات المادية والبشرية والمؤسسية في الدولة لتمكينه السياسي والاقتصادي، ولمدة تقارب الثلاثين عاماً الي دولة مدنية ديموقراطية متعددة، والتي تمثل فيها شعار الثورة حرية سلام وعدالة جوهرها الدستوري وتوجهها الاقتصادي والإجتماعي لا يمكن إن يتم تلقائيا،ً وأيضاً ليس بقيام حكومة منتخبة، لكن يمكن أن يتم بموجب توافق عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي حول رؤية مشتركة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي.
تاريخ السودان الحديث في جوانبه السياسية والإجتماعية والاقتصادية المتأزمة يعبر عن نتائج فشل الصفوة السياسية بتوجهاتها السياسية المختلفة – الإسلاموي والمحافظ التقليدي والثوري التقدمي منها – في التوافق العريض علي رؤية ترتكز علي القيم والمبادئ الكونية للإنسان كجوهر لدستور ديموقراطي واقتصادي إجتماعي دائم للدولة السودانية بعد نيلها للاستقلال السياسي. طيلة حقبة ما بعد الاستقلال السياسي سادت ثقافة الفعل السياسي السلطوي والتوهم بإمتلاك الشرعية والمقدرة المنفردة لتشكيل الدولة والمجتمع بتبني سياسة الهوية الدينية والثقافية العربية الجماعية من قبل الصفوة السياسية الإسلامية والحافظة التقليدية، وبتبني سياسة التغيير الثوري عبر الانتفاضة الشعبية أو الانقلاب العسكري من قوي اليسار الاشتراكي الماركسي والقومي العربي. السمة المشتركة التي غلبت بين هذه التيارات السياسية المختلفة هي عدم القناعة بضرورة توافق حول رؤية مشتركة أو اندماج بين المجموعات التي بينها توافق أيديولوجي نسبي، والرغبة في الانفراد في تشكيل الدولة والمجتمع، وإقصاء الغير سياسياً واقتصادياً. وتبلورت الرؤية والتوجهات والممارسات السياسية للقوى السياسية ذات التوجه الاشتراكي العربي القومي تحت نظام مايو العسكري والتي حكمت البلاد 16 عاماً، وللقوي السياسية ذات التوجه الإسلاموي العالمي تحت حكم حزب المؤتمر الوطني المحضون من الجبهة الاسلامية والمسنود من المكونات العسكرية والأمنية الرسمية والغير رسمية، والتي حكمت البلاد قرابة ال 30 عاماً واقعة تحت التاثيرات الأيدولوجية الإقليمية والعالمية، وبعيدة عن الواقع المجتمعي السوداني. بعكس هاتين التيارين السياسيين الاشتراكي العربي القومي والاسلاموي العالمي، لم تكن للأحزاب السياسية التقليدية المنبعثة من طائفة المهدية والختمية والتي حكمت البلاد لوقت لا يذيد عن 13 عاماً (في حكومات ائتلافية)، رؤية واضحة -مع تزايد تواجد الأخوان المسلمين في الشارع السياسي وفي مفاصل الدولة قويا التيار الداعم لرؤية الدستور الإسلامي في الحزبين- وفعل سياسي ثابت لتشكيل دولة سودانية ديمقراطية تعددية واقتصادية إجتماعية.
وتبلورت تلك الرؤي والتوجهات والممارسات السياسية للصفوة السياسية السودانية، التي حددت مصير البلاد منذ الاستقلال السياسي، في بلد حديث التكوين ومجتمع متعدد الثقافات والأديان ومختلف المصادر والعوامل الطبيعية والاقتصادية، وضعيف التنمية والهياكل الاقتصادية والتنمية البشرية، ويسيطر فيه الانتماء الديني والثقافي والجهوي والولاء القبلي علي التوجه والفعل السياسي والإجتماعي، وتضعف فيه شروط التأثير الإيجابي في صيرورة الانتماء القومي السوداني، ووصلت نسبة الأمية فيه الي 90% عشية الاستقلال السياسي، والي 18% عام 2018.
وعشية انطلاق ثورة ديسمبر المجيدة في عام ،2018 واليوم، حيث تقف الدولة السودانية أكثر من ذي قبل علي حافة الانزلاق الي وضع "الدولة الفاشلة" جراء العنف والقتل المحفز بالنعرة القبلية، والقتل المتعمد للشباب الثائر والعنف ضد المتظاهرين السلمين والاختفاء القسري للناشطين السياسيين من الشباب عبر أجهزة الدولة الأمنية وضعف اجهزة العدالة القانونية، وتزايد ظاهرة السياسة القبلية والثقافية والجهوية الجماعية، وتفاقم الازمة الاقتصادية تزايد الإحساس والوعي عند الغالبية العظمة من الشعب السوداني بخطورة الوضع علي الوطن والبقاء في الحياة. للخروج من هذه الأوضاع ومنع حدوث الانهيار التام المحدق بالبلاد، وإنهاء حالة عدم اليقين بمستقبل الحياة عند الناس عولت جماهير الشعب السوداني علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي للتوصل الي توافق عريض حول طريق لأنهاء سلطة الانقلاب العسكري، وعلي برنامج سياسي واقتصادي إجتماعي لحكم فترة انتقالية تليها انتخابات حرة ونزيهة تقود الي قيام حكومة منتخبة ديموقراطياً، وعلي رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي لدولة سودانية ديموقراطية حديثة.
وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام من بداية الثورة وأربعة أعوام علي سقوط الدكتاتورية الشمولية الإسلاموية تحت قيادة حزب المؤتمر الوطني يأتي السؤال عن مدي تلبية قيادات قوي الثورة والتغيير الديموقراطي تعويل الشعب السوداني عليها في التوافق العريض علي طريق لقيادة البلاد من أزماتها المتعددة برؤية وبرنامج سياسي واقتصادي إجتماعي لفترة انتقالية، ولجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة. وتأتي الإجابة علي هذا السؤال واضحة: بغض النظر عن صدور وسريان "الإعلان الدستوري"، و" الإعلان السياسي" اللتان خصتان هياكل وتقاسم السلطة بين "المجلس العسكري" -الذي تم حله لاحقاً- وقوي "إعلان الحرية والتغيير" في أغسطس 2019 لم يتم الي الآن بلورة رؤية مشتركة، تتخذ شعار الثورة حرية سلام وعدالة أساساً لجوهر دستور ديموقراطي واقتصادي إجتماعي دائم للدولة السودانية الحديثة. وذلك رغم بلورة مجموعات مختلفة من قوي الثورة لرؤي أحادية، أو التوقيع علي "تفاهمات" سياسية ودستورية بين جزء من بعضها. ويصطف في ذلك: رؤي الحركات المسلحة في بناء "سودان جديد" بموجب اقتسام السلطة والثروة وإنهاء "سلطة المركز علي الهامش" وعلمانية الدولة، و"تفاهمات" بين بعض الحركات المسلحة وأحزاب سياسية وتجمعات نقابية، ورؤية "سلطة الشعب" من لجان المقاومة. وتشترك هذه الرؤي المنفردة الي حداً بعيد في الاعتراف بالتعددية الاثنية والثقافة والدينية للدولة السودانية، وفي ما يترتب علي ذألك من ضرورة علمانية الدولة والمواطنة المتساوية واعتماد مبدأ الوحدة الطوعية لبعض المكونات الاثنية والثقافية في الجزء الجنوبي والجنوبي الغربي من البلاد.
لكن تظل هذه الرؤي والتفاهمات محصورة علي اقتسام السلطة والثروة وحق تقرير المصير -بموجب اعتماد مبدأ الوحدة الطوعية- لمجموعات معينه، وتتجاهل التوجه الاقتصادي والإجتماعي كشرط لتقبل واستدامة الدولة المدنية الديموقراطية التعددية. كذلك تظل هذه الرؤي والتفاهمات احادية ومنحصرة في محيط سياسي وإجتماعي محدود، ويصعب بذلك الحديث عن توافق عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي حولها، وتقلل بذلك من فرصتها في التحقيق كجوهر لدستور دائم للبلاد. لكن ورغم هذه النواقص تمثل هذه الرؤي والتفاهمات السياسية والدستورية المختلفة تقدماً في عملية صيرورة خلق رؤية مشتركة لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي لجوهر دستور ولتوجه اقتصادي إجتماعي لدولة سودانية ديموقراطية حديثة. وذلك تحت شرط التعامل معها علي إنها فرصة وتقدم مهم في عملية خلق الرؤية الموحدة، وتحت شرط توفر القناعة السياسية علي ضرورة الرؤية الموحدة للخروج بالبلاد من وضع الازمات المتعددة ولتأسيس لبناء الدولة المدنية الديموقراطية الإجتماعية التعددية، وتحت شرط تفهم إن تأسيس وبناء الدولة المنشودة واستدامتها والخارجة من حكم شمولي استبدادي سخر كل الامكانيات المادية والبشرية والمؤسسية في الدولة لتمكينه السياسي والاقتصادي ولمدة تقارب الثلاثين عاما، لا يتم تلقائياً وأيضاً ليس بقيام حكومة منتخبة، ومن غير توافق عريض حول رؤية مشتركة بمفاهيم واقعية بآليات واضحة ومعلنة.
التوافق العريض علي رؤية مشتركة لحل الازمات المتعددة التي تعيشها البلاد، ولجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي تمثل الشروط الاساسية للحفاظ علي ما تبقي -بعد انفصال الجنوب- من الدولة السودانية الموحدة وإعادة بناءها كدولة مدنية ديمقراطية وإجتماعية. ويقع ضغطاً منقطع النظير على قوي الثورة والتغيير الديموقراطي لتحمل المسؤولية التاريخية للتوصل الي توافق وتحالف عريض من أجل أنهاء سلطة الانقلاب العسكري، وتحقيق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، والشروع في بدأ عملية بلورة رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة. وقد يكون هذا الإجراء بمثابة الفرصة الأخيرة لتجنب انهيار الدولة السودانية، والخطوة المرجوة لبناء دولة مدنية ديموقراطية موحدة تقوم علي أساس المواطنة والعدالة والمساواة القانونية والإجتماعية، وقفل الباب أمام تكرار التجارب الديموقراطية الهشة التي تعقبها انقلابات عسكرية وأنظمة دكتاتورية شمولية مرتبطة بها.
ويفاقم من هذا الضغط علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي في الوقت الراهن: الأوضاع الاقتصادية المتردية، وما يرتبط لها إوضاع إجتماعية ونفسية متأزمة للشعب السوداني، والتطورات السياسي والأمنية الهشة والمرتبطة بتواجد جيشين رسميين وبسعي وبفعل قياداتهم للحفاظ علي السلطة وعلي المكتسبات المادية، التي اتحها لهم النظام الساقط، والمرتبط ايضاً بتواجد عدة جيوش من الحركات المسلحة وتطلعها في المشاركة في السلطة والحصول علي مكتسبات مادية اسوة بالقوات المسلحة وقوات الدعم السريع. ويرتبط بهذا الوضع الأمني أنتشار السلاح الغير مقنن خارج المؤسسات الأمنية الرسمية، والظهور العلني للخلافات بين قيادات القوات المسلحة والدعم السريع وتزايد خطاب التنافس السياسي والاستقطاب السياسي للقوي المدنية من الجانبين، وخطورة تحول هذا الخطاب الي نزاع مسلح بين الجانبين يترتب عليه نشوء حرب أهلية تقضي علي ما تبقي من الدولة السودانية. في هذا السياق لخص المفكر السياسي السوداني د. الشفيع خضر في مقاله الاخير المنشور في صحيفة سودانيل الالكترونية، بتاريخ 13.03.2023، والذى يمكن قراءته بمثابة "إنذاراً اخيراً" في ما يحدق بالبلاد من مخاطر. وكتب في ذلك "أما الباعث حقا للقلق والتوتر الشديدين، فهو استمرار وازدياد حدة المشاحنات والاحتكاكات، الصريح والمستتر، بين قيادات القوات المسلحة السودانية وقيادة قوات الدعم السريع، وإن كانت لاتزال حتي اللحظة تنحصر في القول والكلام، وكما يقولون فإن الحرب أولها كلام. وبسبب هذه المشاحنات والاحتكاكات بين الطرفين، وصعب كل طرف للانتصار بحلفائه، فإن الاستقطاب السياسي والإجتماعي، وكذلك التوتر الأمني، في السودان وصل حدا حرجا وخطيرا سيدفع البلاد، قريبا جدا، لأن تنفجر إذا لم يتم تدارك الأمر ومعالجته سريعا."
هذا الوضع السياسي والاقتصادي والأمني المتأزم، والذي تعيشه الدولة يحتم تقدم في العملية السياسية الجارية ومصاحبتها بمجهودات مكثفة لإعادة بناء التوافق والتحالف العريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي عبر الحوار والسبل والممارسة الديموقراطية. تحت الوضع الراهن المتأزم تمثل ضرورة إعادة بناء التوافق والتحالف العريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي مسؤولية عظيمة تجاه الإنسان والوطن، واعتزاز بتقاليد وتاريخ الثورة السودانية في نضالها لتحقيق الاستقلال والحرية والسلم والعدالة والتضامن، وتمثل ايضاً وعي وإحساس بالواقع الداخلي والخارجي المحيط بها. التوافق والتحالف المطلوب لحقبة ما بعد سقوط الدكتاتورية الاسلاموية يجب إن لا ينحصر فقط علي قيادة الفترة الانتقالية بل يجب إن يمتد لخلق رؤية واضحة ومتكاملة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي لدولة مدنية ديمقراطية وإجتماعية في القرن الحادي والعشرين.
في اتجاه بدأ عملية جادة لبناء التوافق والتحالف الضروري لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي تمثل المجهودات الجارية لجزء من قوي الثورة والتغيير الديموقراطي لأنهاء سلطة الانقلاب العسكري واستعادة عملية الانتقال الديموقراطي فرصة لخلق شروط إيجابية نسبية تعمل علي أحداث "ديناميكية" سياسية لصالح تحقيق أهداف الثورة. رغم هذا التفاؤل بإمكانية حدوث الشروط الإيجابية لاستعادة عملية الانتقال السياسي المدني الديموقراطي، والشروع في بناء توافق وتحالف عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي يصبح في ظل الازمات المتعددة التي تعيشها الدولة السودانية المستقبل مفتوح – ويحمل فرصاً لكنه يحمل مخاطراً جمة.
تبعاً لهذا التقدير لآفاق تطور عملية الانتقال السياسي المدني الديموقراطي يمكن الجزم في إن: تأسيس دولة سودانية مدنية ديموقراطية متعددة، والتي تمثل فيها شعار الثورة حرية سلام وعدالة جوهرها الدستوري وتوجهها الاقتصادي والإجتماعي لا يمكن إن يتم من غير توافق وتحالف عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي علي رؤية موحدة في ذلك. والمعني هنا بقوي الثورة والتغيير الديموقراطي: لجان المقاومة، الأحزاب السياسية الديموقراطية، النقابات العمالية والمهنية، منظمات أصحاب العمل، منظمات المجتمع المدني بكل أشكالها، وخصوصاً المهتمة بقضايا المرأة واللاجئين والنازحين، وشبكات العمل المشترك لمنظمات المجتمع المدني، وأيضاً الفعالين السياسيين الغير منتمين حزبياً ...الخ.
هذه الورقة، والتي سوف تنشر علي أجزاء، تعتبر مثابة مساهمة في النقاش حول جوهر دستور ونظام اقتصادي وإجتماعي للدولة السودانية بعد سقوط الدكتاتورية الإسلاموية، وفي ظل المجهودات والنقاشات الجارية لاستئناف عملية الانتقال السياسي المدني الديموقراطي تحت قيادة جزء من قوي الثورة والتغيير الديموقراطي، وتحت رعاية ما يسمي با"لإلية الثلاثية"، المكونة من "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، يونيتاميس"، و"الاتحاد الأفريقي" و"الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، أيغاد"، ودعم دول ما عيني با"الترويكا" الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، بجانب دول ما تسمي ب"الآلية الرباعية" التي تضم بريطانيا والولايات االمتحدة والأمارات والسعودية. وتعبر الملامح للرؤية، التي سوف يتم سرد بعض منها في هذا الجزء عن المعني السياسي الديموقراطي والاقتصادي والإجتماعي لشعار الثورة حرية سلام وعدالة في دستور دائم ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة.
أهم الملامح والمفاهيم لرؤية جوهر لدستور دائم ولنظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة:
الحق في العيش في حرية وسلام وعدالة. بناءً علي هذه القيم يلزم تحقيق السلام الكامل والمستدام داخل البلاد ومع دول الجوار ودول العالم أجمع، والحفاظ والحماية لشروط الحياة المناخية والطبيعية.
وضع الأطر لمجتمع مدني ديموقراطي عادل تضامني وتكافلي، والمساواة وحق التقرير الشخصي لكل إنسان، بغض النظر عن الانتماء الاثني والثقافي والديني، وحق العيش الكريم لكل إنسان من غير عوز وخوف واستغلال.
بموجب توافق علي سياسة خارجية بعيدة عن المحاور العالمية والاقليمية يستلزم العمل مع شركاء في العالم من أجل تحقيق السلم داخل الوطن وبيننا وبين الدول المجاورة، ومن أجل نظام عالمي عادل، والعمل من أجل تفعيل المواثيق والقوانين الدولية، ومن أجل التصدي لسيادة "قانون القوي". وذلك لأن فقط تحت مفهوم وتحقيق الأمن والسلم الداخلي والأممي، والمسؤولية الجماعية، والتضامن والشراكة تستطيع الشعوب والدول والثقافات ان تضمن وتأمن حياة الإنسان علي كوكب الأرض.
من أجل القيام بواجب الحفاظ علي شروط الحياة علي كوكب الأرض يجب التوافق علي سياسة تعمل علي تحقيق تقدم يجمع بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمسؤولية تجاه الطبيعة. عبر النمو الاقتصادي النوعي يمكن التغلب على الفقر والاستغلال، وتوفير فرص عمل جيدة للجميع، ومواجهة تهديدات الانتقال المناخي، الذي تظهر اليوم آثاره بشدة في السودان. عبر هذا النهج السياسي والاقتصادي والإجتماعي يمكن الحافظ على العوامل والشروط الطبيعية لحياة الأجيال القادمة، وتتحسنن جودة الحياة.
تحقيق شروط وأهداف التنمية المتكافئة والمستدامة بموجب خطة تنموية واقعية قوامها الاستفادة من الإمكانيات العلمية والتقدم التكنلوجي، والقوي البشرية، خصوصاً من القوي الشبابية من أجل خدمة الإنسان.
التوافق والتحالف المطلوب بين قوي الثورة والتغيير الديموقراطي علي رؤية مشتركة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية يجب إن يتم تحت مفهوم "غاية الديموقراطية" المتمثلة في: بناء وتطوير دولة إجتماعية تكافح الفقر، وتعطي كل المواطنين والمواطنات فرص متساوية في بناء حياتهم وتحقيق طموحاتهم، وتأمن لهم الشراكة العادلة في المجتمع، وتحمي المواطن والمواطنة الي حداً كبيراً من المخاطر الحياتية.
تحت مفهوم غاية الديموقراطية يتم بناء الدولة الإجتماعية بأولوية تحقيق حياة صحية وتعليم جيد للجميع يقف علي فهم ضرورة تنمية ورعاية الأطفال، وعدم ترك أي طفلاً من غير رعاية. من ضمن هذه الاولوية للسياسة الإجتماعية توجه الدولة بشده لدعم الأسرة، ودعم ثقافة التضامن الإجتماعي مع الضعفاء في المجتمع.
في العملية السياسية الديموقراطية لتحقيق مشروع الدولة السودانية الديموقراطية والإجتماعية تتلاقاه وتتلاقح الأجيال، وتتحقق الحقوق المتساوية للجنسين. في سير وزخم هذه العملية تتقوي المواطنة المتعاونة، والمتكافلة والمتضامنة.
عبر العملية السياسة الديمقراطية ترتفع فرصة تقوية التضامن والتوافق في وطننا، ورفع الإحساس بالانتماء له، وخلق ثقافة ديمقراطية وتسامحيه وتقبليه للغير تحترم كرامة الإنسان، والثقافات المتواجدة في الوطن وفي العالم، وتثمن جهود وأعمال وإنتاج الآخرين. وتوضح بذلك في ذهن المواطن والمواطنة صورة الدولة القانونية الديمقراطية والإجتماعية، التي تضمن حياة حرة وآمنة لكل المواطنين والمواطنات.
في هذا الوقت الحرج الذي تمر به بلادنا، وفي عصرنا هذا المصحوب بالأزمات الاقتصادية العالمية والطبيعية الكونية وبالتغيرات المتسارعة تبحث الغالبية العظمة من شعبنا عن مرسي آمن وعن يقين في الحياة، وآفاق تبشر يتحسين في حياتهم. لذلك علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي إن تكون علي يقين وثقة بأن ملايين من شعب السوداني، الذي خرج بالملايين ضد السلطة الدكتاتورية الشمولية الدموية وقدم آلاف من الشهداء والشهيدات، يشاركها المبادئ والأهداف الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في نظام مدني ديمقراطي تعددي واقتصادي إجتماعي. هذه الغالبية الأبية والتضامنية من شعبنا يجب كسبها للمشاركة النشطة في تشكيل السياسة الديمقراطية والاقتصادية والإجتماعية في دولة سودانية حديثة.
shamis.khayal@gmail.com
////////////////////////////////////
الانتقال السياسي من حكم دكتاتوري شمولي استبدادي، سخر كل الامكانيات المادية والبشرية والمؤسسية في الدولة لتمكينه السياسي والاقتصادي، ولمدة تقارب الثلاثين عاماً الي دولة مدنية ديموقراطية متعددة، والتي تمثل فيها شعار الثورة حرية سلام وعدالة جوهرها الدستوري وتوجهها الاقتصادي والإجتماعي لا يمكن إن يتم تلقائيا،ً وأيضاً ليس بقيام حكومة منتخبة، لكن يمكن أن يتم بموجب توافق عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي حول رؤية مشتركة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي.
تاريخ السودان الحديث في جوانبه السياسية والإجتماعية والاقتصادية المتأزمة يعبر عن نتائج فشل الصفوة السياسية بتوجهاتها السياسية المختلفة – الإسلاموي والمحافظ التقليدي والثوري التقدمي منها – في التوافق العريض علي رؤية ترتكز علي القيم والمبادئ الكونية للإنسان كجوهر لدستور ديموقراطي واقتصادي إجتماعي دائم للدولة السودانية بعد نيلها للاستقلال السياسي. طيلة حقبة ما بعد الاستقلال السياسي سادت ثقافة الفعل السياسي السلطوي والتوهم بإمتلاك الشرعية والمقدرة المنفردة لتشكيل الدولة والمجتمع بتبني سياسة الهوية الدينية والثقافية العربية الجماعية من قبل الصفوة السياسية الإسلامية والحافظة التقليدية، وبتبني سياسة التغيير الثوري عبر الانتفاضة الشعبية أو الانقلاب العسكري من قوي اليسار الاشتراكي الماركسي والقومي العربي. السمة المشتركة التي غلبت بين هذه التيارات السياسية المختلفة هي عدم القناعة بضرورة توافق حول رؤية مشتركة أو اندماج بين المجموعات التي بينها توافق أيديولوجي نسبي، والرغبة في الانفراد في تشكيل الدولة والمجتمع، وإقصاء الغير سياسياً واقتصادياً. وتبلورت الرؤية والتوجهات والممارسات السياسية للقوى السياسية ذات التوجه الاشتراكي العربي القومي تحت نظام مايو العسكري والتي حكمت البلاد 16 عاماً، وللقوي السياسية ذات التوجه الإسلاموي العالمي تحت حكم حزب المؤتمر الوطني المحضون من الجبهة الاسلامية والمسنود من المكونات العسكرية والأمنية الرسمية والغير رسمية، والتي حكمت البلاد قرابة ال 30 عاماً واقعة تحت التاثيرات الأيدولوجية الإقليمية والعالمية، وبعيدة عن الواقع المجتمعي السوداني. بعكس هاتين التيارين السياسيين الاشتراكي العربي القومي والاسلاموي العالمي، لم تكن للأحزاب السياسية التقليدية المنبعثة من طائفة المهدية والختمية والتي حكمت البلاد لوقت لا يذيد عن 13 عاماً (في حكومات ائتلافية)، رؤية واضحة -مع تزايد تواجد الأخوان المسلمين في الشارع السياسي وفي مفاصل الدولة قويا التيار الداعم لرؤية الدستور الإسلامي في الحزبين- وفعل سياسي ثابت لتشكيل دولة سودانية ديمقراطية تعددية واقتصادية إجتماعية.
وتبلورت تلك الرؤي والتوجهات والممارسات السياسية للصفوة السياسية السودانية، التي حددت مصير البلاد منذ الاستقلال السياسي، في بلد حديث التكوين ومجتمع متعدد الثقافات والأديان ومختلف المصادر والعوامل الطبيعية والاقتصادية، وضعيف التنمية والهياكل الاقتصادية والتنمية البشرية، ويسيطر فيه الانتماء الديني والثقافي والجهوي والولاء القبلي علي التوجه والفعل السياسي والإجتماعي، وتضعف فيه شروط التأثير الإيجابي في صيرورة الانتماء القومي السوداني، ووصلت نسبة الأمية فيه الي 90% عشية الاستقلال السياسي، والي 18% عام 2018.
وعشية انطلاق ثورة ديسمبر المجيدة في عام ،2018 واليوم، حيث تقف الدولة السودانية أكثر من ذي قبل علي حافة الانزلاق الي وضع "الدولة الفاشلة" جراء العنف والقتل المحفز بالنعرة القبلية، والقتل المتعمد للشباب الثائر والعنف ضد المتظاهرين السلمين والاختفاء القسري للناشطين السياسيين من الشباب عبر أجهزة الدولة الأمنية وضعف اجهزة العدالة القانونية، وتزايد ظاهرة السياسة القبلية والثقافية والجهوية الجماعية، وتفاقم الازمة الاقتصادية تزايد الإحساس والوعي عند الغالبية العظمة من الشعب السوداني بخطورة الوضع علي الوطن والبقاء في الحياة. للخروج من هذه الأوضاع ومنع حدوث الانهيار التام المحدق بالبلاد، وإنهاء حالة عدم اليقين بمستقبل الحياة عند الناس عولت جماهير الشعب السوداني علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي للتوصل الي توافق عريض حول طريق لأنهاء سلطة الانقلاب العسكري، وعلي برنامج سياسي واقتصادي إجتماعي لحكم فترة انتقالية تليها انتخابات حرة ونزيهة تقود الي قيام حكومة منتخبة ديموقراطياً، وعلي رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي لدولة سودانية ديموقراطية حديثة.
وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام من بداية الثورة وأربعة أعوام علي سقوط الدكتاتورية الشمولية الإسلاموية تحت قيادة حزب المؤتمر الوطني يأتي السؤال عن مدي تلبية قيادات قوي الثورة والتغيير الديموقراطي تعويل الشعب السوداني عليها في التوافق العريض علي طريق لقيادة البلاد من أزماتها المتعددة برؤية وبرنامج سياسي واقتصادي إجتماعي لفترة انتقالية، ولجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة. وتأتي الإجابة علي هذا السؤال واضحة: بغض النظر عن صدور وسريان "الإعلان الدستوري"، و" الإعلان السياسي" اللتان خصتان هياكل وتقاسم السلطة بين "المجلس العسكري" -الذي تم حله لاحقاً- وقوي "إعلان الحرية والتغيير" في أغسطس 2019 لم يتم الي الآن بلورة رؤية مشتركة، تتخذ شعار الثورة حرية سلام وعدالة أساساً لجوهر دستور ديموقراطي واقتصادي إجتماعي دائم للدولة السودانية الحديثة. وذلك رغم بلورة مجموعات مختلفة من قوي الثورة لرؤي أحادية، أو التوقيع علي "تفاهمات" سياسية ودستورية بين جزء من بعضها. ويصطف في ذلك: رؤي الحركات المسلحة في بناء "سودان جديد" بموجب اقتسام السلطة والثروة وإنهاء "سلطة المركز علي الهامش" وعلمانية الدولة، و"تفاهمات" بين بعض الحركات المسلحة وأحزاب سياسية وتجمعات نقابية، ورؤية "سلطة الشعب" من لجان المقاومة. وتشترك هذه الرؤي المنفردة الي حداً بعيد في الاعتراف بالتعددية الاثنية والثقافة والدينية للدولة السودانية، وفي ما يترتب علي ذألك من ضرورة علمانية الدولة والمواطنة المتساوية واعتماد مبدأ الوحدة الطوعية لبعض المكونات الاثنية والثقافية في الجزء الجنوبي والجنوبي الغربي من البلاد.
لكن تظل هذه الرؤي والتفاهمات محصورة علي اقتسام السلطة والثروة وحق تقرير المصير -بموجب اعتماد مبدأ الوحدة الطوعية- لمجموعات معينه، وتتجاهل التوجه الاقتصادي والإجتماعي كشرط لتقبل واستدامة الدولة المدنية الديموقراطية التعددية. كذلك تظل هذه الرؤي والتفاهمات احادية ومنحصرة في محيط سياسي وإجتماعي محدود، ويصعب بذلك الحديث عن توافق عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي حولها، وتقلل بذلك من فرصتها في التحقيق كجوهر لدستور دائم للبلاد. لكن ورغم هذه النواقص تمثل هذه الرؤي والتفاهمات السياسية والدستورية المختلفة تقدماً في عملية صيرورة خلق رؤية مشتركة لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي لجوهر دستور ولتوجه اقتصادي إجتماعي لدولة سودانية ديموقراطية حديثة. وذلك تحت شرط التعامل معها علي إنها فرصة وتقدم مهم في عملية خلق الرؤية الموحدة، وتحت شرط توفر القناعة السياسية علي ضرورة الرؤية الموحدة للخروج بالبلاد من وضع الازمات المتعددة ولتأسيس لبناء الدولة المدنية الديموقراطية الإجتماعية التعددية، وتحت شرط تفهم إن تأسيس وبناء الدولة المنشودة واستدامتها والخارجة من حكم شمولي استبدادي سخر كل الامكانيات المادية والبشرية والمؤسسية في الدولة لتمكينه السياسي والاقتصادي ولمدة تقارب الثلاثين عاما، لا يتم تلقائياً وأيضاً ليس بقيام حكومة منتخبة، ومن غير توافق عريض حول رؤية مشتركة بمفاهيم واقعية بآليات واضحة ومعلنة.
التوافق العريض علي رؤية مشتركة لحل الازمات المتعددة التي تعيشها البلاد، ولجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي تمثل الشروط الاساسية للحفاظ علي ما تبقي -بعد انفصال الجنوب- من الدولة السودانية الموحدة وإعادة بناءها كدولة مدنية ديمقراطية وإجتماعية. ويقع ضغطاً منقطع النظير على قوي الثورة والتغيير الديموقراطي لتحمل المسؤولية التاريخية للتوصل الي توافق وتحالف عريض من أجل أنهاء سلطة الانقلاب العسكري، وتحقيق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، والشروع في بدأ عملية بلورة رؤية لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة. وقد يكون هذا الإجراء بمثابة الفرصة الأخيرة لتجنب انهيار الدولة السودانية، والخطوة المرجوة لبناء دولة مدنية ديموقراطية موحدة تقوم علي أساس المواطنة والعدالة والمساواة القانونية والإجتماعية، وقفل الباب أمام تكرار التجارب الديموقراطية الهشة التي تعقبها انقلابات عسكرية وأنظمة دكتاتورية شمولية مرتبطة بها.
ويفاقم من هذا الضغط علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي في الوقت الراهن: الأوضاع الاقتصادية المتردية، وما يرتبط لها إوضاع إجتماعية ونفسية متأزمة للشعب السوداني، والتطورات السياسي والأمنية الهشة والمرتبطة بتواجد جيشين رسميين وبسعي وبفعل قياداتهم للحفاظ علي السلطة وعلي المكتسبات المادية، التي اتحها لهم النظام الساقط، والمرتبط ايضاً بتواجد عدة جيوش من الحركات المسلحة وتطلعها في المشاركة في السلطة والحصول علي مكتسبات مادية اسوة بالقوات المسلحة وقوات الدعم السريع. ويرتبط بهذا الوضع الأمني أنتشار السلاح الغير مقنن خارج المؤسسات الأمنية الرسمية، والظهور العلني للخلافات بين قيادات القوات المسلحة والدعم السريع وتزايد خطاب التنافس السياسي والاستقطاب السياسي للقوي المدنية من الجانبين، وخطورة تحول هذا الخطاب الي نزاع مسلح بين الجانبين يترتب عليه نشوء حرب أهلية تقضي علي ما تبقي من الدولة السودانية. في هذا السياق لخص المفكر السياسي السوداني د. الشفيع خضر في مقاله الاخير المنشور في صحيفة سودانيل الالكترونية، بتاريخ 13.03.2023، والذى يمكن قراءته بمثابة "إنذاراً اخيراً" في ما يحدق بالبلاد من مخاطر. وكتب في ذلك "أما الباعث حقا للقلق والتوتر الشديدين، فهو استمرار وازدياد حدة المشاحنات والاحتكاكات، الصريح والمستتر، بين قيادات القوات المسلحة السودانية وقيادة قوات الدعم السريع، وإن كانت لاتزال حتي اللحظة تنحصر في القول والكلام، وكما يقولون فإن الحرب أولها كلام. وبسبب هذه المشاحنات والاحتكاكات بين الطرفين، وصعب كل طرف للانتصار بحلفائه، فإن الاستقطاب السياسي والإجتماعي، وكذلك التوتر الأمني، في السودان وصل حدا حرجا وخطيرا سيدفع البلاد، قريبا جدا، لأن تنفجر إذا لم يتم تدارك الأمر ومعالجته سريعا."
هذا الوضع السياسي والاقتصادي والأمني المتأزم، والذي تعيشه الدولة يحتم تقدم في العملية السياسية الجارية ومصاحبتها بمجهودات مكثفة لإعادة بناء التوافق والتحالف العريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي عبر الحوار والسبل والممارسة الديموقراطية. تحت الوضع الراهن المتأزم تمثل ضرورة إعادة بناء التوافق والتحالف العريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي مسؤولية عظيمة تجاه الإنسان والوطن، واعتزاز بتقاليد وتاريخ الثورة السودانية في نضالها لتحقيق الاستقلال والحرية والسلم والعدالة والتضامن، وتمثل ايضاً وعي وإحساس بالواقع الداخلي والخارجي المحيط بها. التوافق والتحالف المطلوب لحقبة ما بعد سقوط الدكتاتورية الاسلاموية يجب إن لا ينحصر فقط علي قيادة الفترة الانتقالية بل يجب إن يمتد لخلق رؤية واضحة ومتكاملة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي لدولة مدنية ديمقراطية وإجتماعية في القرن الحادي والعشرين.
في اتجاه بدأ عملية جادة لبناء التوافق والتحالف الضروري لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي تمثل المجهودات الجارية لجزء من قوي الثورة والتغيير الديموقراطي لأنهاء سلطة الانقلاب العسكري واستعادة عملية الانتقال الديموقراطي فرصة لخلق شروط إيجابية نسبية تعمل علي أحداث "ديناميكية" سياسية لصالح تحقيق أهداف الثورة. رغم هذا التفاؤل بإمكانية حدوث الشروط الإيجابية لاستعادة عملية الانتقال السياسي المدني الديموقراطي، والشروع في بناء توافق وتحالف عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي يصبح في ظل الازمات المتعددة التي تعيشها الدولة السودانية المستقبل مفتوح – ويحمل فرصاً لكنه يحمل مخاطراً جمة.
تبعاً لهذا التقدير لآفاق تطور عملية الانتقال السياسي المدني الديموقراطي يمكن الجزم في إن: تأسيس دولة سودانية مدنية ديموقراطية متعددة، والتي تمثل فيها شعار الثورة حرية سلام وعدالة جوهرها الدستوري وتوجهها الاقتصادي والإجتماعي لا يمكن إن يتم من غير توافق وتحالف عريض لقوي الثورة والتغيير الديموقراطي علي رؤية موحدة في ذلك. والمعني هنا بقوي الثورة والتغيير الديموقراطي: لجان المقاومة، الأحزاب السياسية الديموقراطية، النقابات العمالية والمهنية، منظمات أصحاب العمل، منظمات المجتمع المدني بكل أشكالها، وخصوصاً المهتمة بقضايا المرأة واللاجئين والنازحين، وشبكات العمل المشترك لمنظمات المجتمع المدني، وأيضاً الفعالين السياسيين الغير منتمين حزبياً ...الخ.
هذه الورقة، والتي سوف تنشر علي أجزاء، تعتبر مثابة مساهمة في النقاش حول جوهر دستور ونظام اقتصادي وإجتماعي للدولة السودانية بعد سقوط الدكتاتورية الإسلاموية، وفي ظل المجهودات والنقاشات الجارية لاستئناف عملية الانتقال السياسي المدني الديموقراطي تحت قيادة جزء من قوي الثورة والتغيير الديموقراطي، وتحت رعاية ما يسمي با"لإلية الثلاثية"، المكونة من "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، يونيتاميس"، و"الاتحاد الأفريقي" و"الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، أيغاد"، ودعم دول ما عيني با"الترويكا" الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، بجانب دول ما تسمي ب"الآلية الرباعية" التي تضم بريطانيا والولايات االمتحدة والأمارات والسعودية. وتعبر الملامح للرؤية، التي سوف يتم سرد بعض منها في هذا الجزء عن المعني السياسي الديموقراطي والاقتصادي والإجتماعي لشعار الثورة حرية سلام وعدالة في دستور دائم ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة.
أهم الملامح والمفاهيم لرؤية جوهر لدستور دائم ولنظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية الحديثة:
الحق في العيش في حرية وسلام وعدالة. بناءً علي هذه القيم يلزم تحقيق السلام الكامل والمستدام داخل البلاد ومع دول الجوار ودول العالم أجمع، والحفاظ والحماية لشروط الحياة المناخية والطبيعية.
وضع الأطر لمجتمع مدني ديموقراطي عادل تضامني وتكافلي، والمساواة وحق التقرير الشخصي لكل إنسان، بغض النظر عن الانتماء الاثني والثقافي والديني، وحق العيش الكريم لكل إنسان من غير عوز وخوف واستغلال.
بموجب توافق علي سياسة خارجية بعيدة عن المحاور العالمية والاقليمية يستلزم العمل مع شركاء في العالم من أجل تحقيق السلم داخل الوطن وبيننا وبين الدول المجاورة، ومن أجل نظام عالمي عادل، والعمل من أجل تفعيل المواثيق والقوانين الدولية، ومن أجل التصدي لسيادة "قانون القوي". وذلك لأن فقط تحت مفهوم وتحقيق الأمن والسلم الداخلي والأممي، والمسؤولية الجماعية، والتضامن والشراكة تستطيع الشعوب والدول والثقافات ان تضمن وتأمن حياة الإنسان علي كوكب الأرض.
من أجل القيام بواجب الحفاظ علي شروط الحياة علي كوكب الأرض يجب التوافق علي سياسة تعمل علي تحقيق تقدم يجمع بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمسؤولية تجاه الطبيعة. عبر النمو الاقتصادي النوعي يمكن التغلب على الفقر والاستغلال، وتوفير فرص عمل جيدة للجميع، ومواجهة تهديدات الانتقال المناخي، الذي تظهر اليوم آثاره بشدة في السودان. عبر هذا النهج السياسي والاقتصادي والإجتماعي يمكن الحافظ على العوامل والشروط الطبيعية لحياة الأجيال القادمة، وتتحسنن جودة الحياة.
تحقيق شروط وأهداف التنمية المتكافئة والمستدامة بموجب خطة تنموية واقعية قوامها الاستفادة من الإمكانيات العلمية والتقدم التكنلوجي، والقوي البشرية، خصوصاً من القوي الشبابية من أجل خدمة الإنسان.
التوافق والتحالف المطلوب بين قوي الثورة والتغيير الديموقراطي علي رؤية مشتركة لجوهر دستور ديموقراطي ونظام اقتصادي إجتماعي للدولة السودانية يجب إن يتم تحت مفهوم "غاية الديموقراطية" المتمثلة في: بناء وتطوير دولة إجتماعية تكافح الفقر، وتعطي كل المواطنين والمواطنات فرص متساوية في بناء حياتهم وتحقيق طموحاتهم، وتأمن لهم الشراكة العادلة في المجتمع، وتحمي المواطن والمواطنة الي حداً كبيراً من المخاطر الحياتية.
تحت مفهوم غاية الديموقراطية يتم بناء الدولة الإجتماعية بأولوية تحقيق حياة صحية وتعليم جيد للجميع يقف علي فهم ضرورة تنمية ورعاية الأطفال، وعدم ترك أي طفلاً من غير رعاية. من ضمن هذه الاولوية للسياسة الإجتماعية توجه الدولة بشده لدعم الأسرة، ودعم ثقافة التضامن الإجتماعي مع الضعفاء في المجتمع.
في العملية السياسية الديموقراطية لتحقيق مشروع الدولة السودانية الديموقراطية والإجتماعية تتلاقاه وتتلاقح الأجيال، وتتحقق الحقوق المتساوية للجنسين. في سير وزخم هذه العملية تتقوي المواطنة المتعاونة، والمتكافلة والمتضامنة.
عبر العملية السياسة الديمقراطية ترتفع فرصة تقوية التضامن والتوافق في وطننا، ورفع الإحساس بالانتماء له، وخلق ثقافة ديمقراطية وتسامحيه وتقبليه للغير تحترم كرامة الإنسان، والثقافات المتواجدة في الوطن وفي العالم، وتثمن جهود وأعمال وإنتاج الآخرين. وتوضح بذلك في ذهن المواطن والمواطنة صورة الدولة القانونية الديمقراطية والإجتماعية، التي تضمن حياة حرة وآمنة لكل المواطنين والمواطنات.
في هذا الوقت الحرج الذي تمر به بلادنا، وفي عصرنا هذا المصحوب بالأزمات الاقتصادية العالمية والطبيعية الكونية وبالتغيرات المتسارعة تبحث الغالبية العظمة من شعبنا عن مرسي آمن وعن يقين في الحياة، وآفاق تبشر يتحسين في حياتهم. لذلك علي قوي الثورة والتغيير الديموقراطي إن تكون علي يقين وثقة بأن ملايين من شعب السوداني، الذي خرج بالملايين ضد السلطة الدكتاتورية الشمولية الدموية وقدم آلاف من الشهداء والشهيدات، يشاركها المبادئ والأهداف الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في نظام مدني ديمقراطي تعددي واقتصادي إجتماعي. هذه الغالبية الأبية والتضامنية من شعبنا يجب كسبها للمشاركة النشطة في تشكيل السياسة الديمقراطية والاقتصادية والإجتماعية في دولة سودانية حديثة.
shamis.khayal@gmail.com
////////////////////////////////////